كنت صغيرةً حينما سمعت أخوها يعنفها بشدة , وأصغر من ذلك بكثير لحظة توقف سيارة ٍ يبدو صاحبها ليس من
سكان حيّنا حيث ترجل من سيارته وبنظرة مخيفة خلف لثام متقن صوبها نحوها يريد جر " مشاعل " من بيننا وتلويث طفولتنا بذكرى مرة .
كانت " مشاعل " صاحبة ابتسامة لا تغيب ووجه صبوح ونبرة صوتٍ طفولية رغم أنها تعانق الثلاثين عاما على ما أظن .
كطفلة أحببتها لأنها تشاركني اللعب في الشارع وتقاسمني اقتلاع "النعناع" من حديقة بيتهم الصغيرة
وأحمل انا لوحدي التوبيخ من أمها لأنه بذلك لن ينمو " النعناع" مجدداً .
نظراتها المختنقة بالدموع يلوح طيفها أمام ناظري كلما هممت بالدخول إلى بيتنا مسرعة هرباً من شمس الرياض الحارقة
وأنا أرى بقايا ذكراهم في بيت قد تركوه منذ زمن ويخنقني السؤال:
كيف أنتِ يا مشاعل؟
مشاعل ابنة جيراننا , تترنح في مشيتها , تصرخ بي دوما كلما حاولت تنظيفها من اللعاب المتناثر على وجهها , أحاول
تقييدها وببراءة أهددها " يجب أن تكوني نظيفه لنأخذك معنا للملاهي "
ذات مساء تملكتني جرأة سؤال الجاهل المحب لشيء يحذرّه الجميع الإقتراب منه : ماما مشاعل ليه كذا؟
لتربكني استثارة امي وعلوّ نبرة صوتها : ماذا فعلت بكِ؟
-لا لاشيء بس هي كبيرة وتلعب معنا وخالد يهاوشها كثير وأمها ماتقولها شيء.
-مشاعل مريضة وانتبهي لا تؤذيك !
في الغد سألتها : مشاعل وش فيك؟
-ابي أروح للبقالة .
-لالا أنتِ مريضة ؟
-شلون يعني ؟
-يعني في شي يوجعك ؟ بطنك يوجعك؟
أجابتني وهي تلوح بيدها في وجهي مشيرة إليّ بالنهوض
-مدري , نروح البقالة أمي منيرة عطتني فلوس!
بعد أشهر لم تخرج مشاعل للعب معنا ولم أرها بعد ذلك أبدا ً , كنت أسأل نفسي كثيرا عن سر اللعاب والمشية
المترنحة واصرارها دوما على اللعبة ذاتها وعن المرض الذي تقول أمي عنه .
دخلت المدرسة , اختلطت بالكثير من الفتيات فماعاد لعب الشارع يستهويني وأنستني فرحة المريول و" المطارة " وساندوتش الصباح
" مشاعل" فلم أسأل عنها ولم تأتي في بالي لحظة .
في الصف الثالث المتوسط طلبت منّا مشرفة النشاط تجهيز برنامج اسقبال لجمعية " المنغوليّن "
وذكرت لنا معلمة مادة العلوم أن من تشارك به ستحصل على درجة لأننا سندرس الأمراض الوراثيه ومن ضمنها هذا المرض.
جهزنا البالونات , والمسرح والأناشيد والكلمات ونحن نجهل حقيقة المنغولين وكنا نتبادل الدعابات أنا وصديقاتي :
-هل لهم علاقة بالمغول؟
-أيّ مغول ؟
-جنكيز خان وحرب التتار مثلا !
ضحكنا كثيراً حينما قلنا بصوت واحد: معقووووول !
لحظات لا أنساها حينما رأيت طابور الأطفال وهم يرتدون زيّا موحداً
كتب عليه" الجمعية الخيرية لمتلازمة داون " يمشون بإنتظام والأستاذة تشير إلينا أن قد جاؤا .
لحظتها تذكرت " مشاعل " وعرفت من أي شي تشكو.