د. صابر عبدالدايم
تعد الطبيعة رافداً عميقاً من روافد التجربة الشعرية، وموقف الشعراء منها له عدة اتجاهات، فهناك من يقنع بالوصف الخارجي للطبيعة، وهناك من يشرك الطبيعة معه في إحساسه، وهناك من يندمج فيها اندماجاً كلياً، وهذا الاندماج يسمى: الغناء الوجداني في مشاهد الطبيعة
والرومانسيون يندمجون في الطبيعة، ويتخذون من مشاهدها أدوات فنية لصياغة مشاعرهم، وتبيان مكنونات أنفسهم، وهذا الاندماج كان وراءه هذا الإحساس الادمي بالاغتراب الزماني والمكاني، لذلك ينتاب الرومانسيين حنين جامح إلى الماضي، وإلى الحياة الفطرية النقية بعيداً عن حياة المدنية الزائفة، وقد عبَّر عن ذلك أحد رواد الرومانسيين وهو شاتوبريان قائلاً: "كانت عزلتي التامة بين مشاهد الطبيعة سبب استغراقي في حالة تستعصي على الوصف، فكنت أحس كأنما يسيل في قلبي ما يشبه جداول من سيول بركانية متأججة، وكان يعوزني شيء أملأ به هوة الفراغ في وجودي"(1).
والشاعر "عبدالله الفيصل" في موقفه من الطبيعة لا يكتفي بالوصوف الخارجي، ولا يندمج فيها اندماجاً كلياً، لكن يظل في تعامله معها في مرحلة وسطى، هي استخدام الطبيعة وتوظيفها للإفصاح عن مشاعره. وهو لا يترك الرمز ملغزاً، بل يضيئه بالموازنة بينه وبين ما في الطبيعة من حالات مماثلة. هو يخالف الرومانسيين في أنه يتمتع بسكينة وجدانية يمليها عليه إيمانه بعقيدته التي تحرص على التوازن النفسي للمسلم. فهو "لا يشغلك بفلسفة، ولا يجهدك باستقراء لتفسير معالم الكون، وأحداث الحياة وأسرارها. فهو مطمئن إلى عقيدة راسخة، مرتاح إلى إيمان عميق، لا يرقى إليه شك، ولا تضطرب معه النفس. لا ثورة على قدر، ولا تجديف ولا غضب، إذا حل المقدور وناء بكلكله استجار منه به بالرضا مستعيناً بالذكرى مما أضاع من أمل، وفقد من حب ورغد وهناء"(2).
وقصيدة "البلبل الصامت" تجربة رمزية كان بإمكان الشاعر أن يكثفها ويعطيها أبعاداً أكثر عمقاً، لكنه، كما قلت، يقف عند مرحلة بث الطبيعة مشاعره وآلامه، ولا يصل إلى مرحلة الغناء الوجداني، فالبلبل كان من الممكن أن يكون معادلاً موضوعياً لذات الشاعر المثخنة بآلام الحرمان، والتصادم مع واقع الحياة المتجهم، لكن الشاعر جعل الحزن قريناً له، وحالة مماثلة لحالته الشعورية والنفسية، إنه في مفتتح القصيدة يصور حالة البلبل الشعورية وفي الوقت نفسه يرسم مشهداً كونيا لحالته النفسية، يقول:
آثر الصمت بلبل الأدواح
وتولّى عن روضه الممراح
وغناءُ الهزار عاد بكاء
وجفا حبه لكيد اللاحي
وحين نفكر من خلال الألفاظ، ونحدث في المفردة الشعرية التي استخدمها الشاعر في بناء صورته الشعرية، نتساءل عن حقيقة هذا الصمت، ولماذا فضله البلبل؟ ولماذا تولى عن روضه؟ وما مسببات تحول الغناء إلى بكاء؟ ولماذا البكاء؟ ومن هو ذلك اللاحي؟
إن كل هذه التساؤلات توحي بالكثافة الشعرية في هذين البيتين. فهما مفتاح القصيدة، وإن شئت فقل هما القصيدة كلها، وبعد ذلك يبتعد الشاعر عن دائرة الرمز الشعري إلى دائرة الوضوح. فيخاطب البلبل الصامت مصوراً لنا بعض ما تساءلنا عنه، إنه يفك رموزه السابقة. فالبلبل أليف الشباب والأفراح، والشريك الصدوق في الأتراح وكلمة "الصدوق" توحي بالصدمة العنيفة التي كانت ثمرة تعامل الشاعر مع الآخرين، فما أبعدهم عن دائرة الصدق والتعاطف الإنساني.
ويفصح الشاعر عن مسببات هذه المعاناة في ثلاثة أبيات يتصدرها الاستفهام الدال على فداحة الصدمة والإحساس بالإحباط، وقد تشابهت عليه الأشياء، وتداخلت الأزمنة وغامت أمامه الرؤى، وقد صور ذلك في كثافة تعبيرية بتوظيفه للطبيعة الزمنية متمثلة في آيتي الليل والنهار. فقال متحدثاً عن نفسه بأسلوب الغائب:
كيف يهوى الغناء من قد تحسّى
من أسى الدهر مُتءرعَ الأقداح
ودهتءه بما يروعُ العَوادي
فإذا الليل عنده كالصباح
من أساه ولوعة تتلظى
تركته في عالم الأشباح
وكأن الشاعر بهذه الوسيلة اللغوية "صيغة الغائب" أدخل في تجربته كل حالة مماثلة. وما أكثر هذه الحالات. إنها قصة متكررة في كل زمان وفي كل مكان.
ولا يغفل الشاعر عن قرينه الحبيب "البلبل الصامت"، بل يعود إليه مرة أخرى بعد سفر في زمن الغياب وتنامي التجربة. ونبصر البلبل أمام الشاعر وجهاً لوجه. كأنه يستحثه على معاودة الغناء، ويمكن أن يكون البلبل صوت الشاعر الداخلي وحلمه الطامح إلى افاق أعذب وأندى. إن الشاعر يبرر موقفه الأسيان مخاطباً البلبل مرة ثانية:
فاعذر اليوم ترى من ذهولي
ودع القلب مغرقاً في النواح
فالحياة التي أحب وأهوى
أصبحت كالجحيم ملء جراحي إن الشاعر هنا يتوق إلى حياة من طراز خاص، ربما تكون الحياة المثالية التي ينشدها الرومانسيون، إنه يتصور أنه في عالم الأشباح، والحياة أصبحت في رؤيته كالجحيم ملء جراحه. وهذا التصور نفسه هو تصور الرومانسيين لعالمهم الذي يعيشونه ورغبتهم في عالم مثالي خال من الشوائب.
فالذهول والنواح، والجحيم والجراح، والأسى، واللوعة، والبكاء، والتشوق إلى بناء عالم جديد، كلها آفاق رومانسية. بل نعثر على هذا المعجم صراحة في قول شاتوبريان: "كان خيالي المتوقد، وحياتي وانفرادي عن الناس سبباً في أني انطويت على نفسي، ولم انطلق فيما حولي، وحين اعوزني الحبيب الحقيقي آثرت بقوى رغباتي الغامضة شبحاً لازمني، وتتضاعف لدي قيود تربطني بالشبح الذي صوره لي خيالي. على أني لا أستطيع أن اتمتع بما لا وجود له. فكنت كمن يحلم بضروب من السعادة لن تتاح له بحال، فيخلق لنفسه حلماً تعادل ملذاته نكال الجحيم"(3).
ويتكرر الإحساس نفسه والتصوير ذاته في قصيدة "أين مني؟"، حيث يتخذ الشاعر من الطائر تجسيداً لغربته فيقول:
يا طيرُ هيّجت آلامي وأشجاني
بما تغنيه من ألحان ولهان
بي مثلُ ما بك من أحزان مغترب
فالكل منا وحيد ما له ثاني
بعثت شكواي ألحاناً مرتلة
وأنت شكواك ترجيع لألحاني
تشكو فراق رفيق كنت تألفه
أما أنا فشكاتي بُعد أوطاني
وهذه القصيدة احتذاء شعوري وفني لقصيدة شوقي حيث يقول مطلعها:
يانائح الطلح أشباه عوادينا
نأسى لواديك أم تأسى لوادينا؟
ومن قبل شوقي يتحدر إلينا صوت مطيع بن إياس مخاطباً نخلتي "حلوان" وهو مغترب:
أسعداني يا نخلتي حلوان
وابكياني من ريب هذا الزمان
ولعمري لو ذُقتما ألم الفُر
قة أبكاكما الذي أبكاني
والحلم لدى الشاعر هو الملاذ إذا ما تجهم الواقع وعزَّت الأماني على التحقق. وهذا ديدن الرومانسيين في الاتكاء على الحلم وتوظيفه أحياناً في صياغة التجارب. والشاعر هنا يسوق استفهامات عديدة، مركزاً على الأماكن التي يشتاق إليها وطنه وهي مسارح ذكرياته، ومغاني آماله وأفراحه، وقد وظف أداة الاستفهام "أين" وكررها ست مرات، مما يفسر لهفته وتحسره، وشعوره الحاد بالغربة المكانية والزمانية، وبعد هذه اللوحات الفنية لمشاهد الحنين يقول الشاعر مخاطباً الطائر في نداء رفيق حان:
إن عزَّ يوماً على الأيام عودتها
فالحلم يا طيرُ أدناها وأدناني
وحين يخاطب الشاعر البلبل أو الطير فإنه لا يبتعد كثيراً عن مخاطبة إيليا أبي ماضي لبلبله "الفيلسوف المجنح"، ولا يبتعد عن صوت عمر أبي ريشة في قصيدته "إلى البلبل". ولا غرابة فدائرة الوجدان مستقرهم والطبيعة كتابهم المفتوح يقرؤون فيه جمال الكون ويستشفون منه أسرار الحياة.
ويوظف الشاعر مشاهد الطبيعة وكائناتها في تصويره لمشاعره من خلال الصورة الشعرية الجزئية، وليس من خلال الصور الكلية الممتدة، حيث تصبح القصيدة كلها صورة شعرية واحدة.
ومن الصور الجزئية ما نبصره في قصيدة "توأم الروح"(4)، حيث يصور أمنياته في النظر إلى هذا الحبيب وسعادة أيامه ولياليه بمن يسعد النظر إلى الأنجم في الليالي الوضاء، والصورة هنا مستمدة من الخيال الرومانسي المحلق في الفضاء الطلق بعيداً عن قيود العالم الأرضي.
وفي قصيدة "منى غدي"(5) يلجأ الشاعر إلى التصوير الحسي موظفاً التشبيه في توصيل مشاعره. ويوصف من يهواه وصفاً حسياً مركزاً على صفات الحس الظاهرة، فيقول:
عيناك عينا مهاة
والشعر كالليل أسودُ
والثغر عقد لآل
ياليتني فيه أُنضَدُ
وهذه التجربة مفعمة بعبق الأمل، وطيوب الاصرار والحبيب هنا يتجاوز الواقع المحسوس ليصبح رغبة في الحياة.ويتنامى هذا الشعور نفسه في قصيدة "حلم الهوى العذري" فيصور حبيبته بأنها ابنة البدر، وأنها ينبوع الشذا، وأن روحها كالسنا، وبعد أوصاف متعددة يجمع هذه الصور الجزئية في لوحة متكاملة قائلاً:
فتحسب أنها شفق
تلفع هالة البدر
والطبيعة النباتية يوظفها الشاعر في تجسيم شعوره تجاه من يحب، وهو في الوقت نفسه يرسم صورة جمالية لهذا المحبوب مازجاً بينه وما في الطبيعة من جمال ساحر باهر يقول:
إن رأيتُ الغصنَ من شو
قي حسبت الغصن قدّك
أو رأيتُ الوردَ صبحا
خلت ذاك الوردَ خدّك
وتوظيف الطبيعة بالأسلوب نفسه يتكرر في قصيدة "أمل المحروم"(6)، حيث يصف المحبوب وصفاً حسياً منطوياً على عاطفة مشبوبة، وحرمان ممتزج بالأمل، يقول:
وقوام يتهادى في الربى
فيقول البانُ ما أهيفهُ
وفم لو قال من ينعته
هو كالعُنّاب ما عَرَّفهُ
وثنايا لؤلؤ مختلف
ألق سبحان من ألَّفهُ
ولم يجعل الشاعر الكائنات الطبيعية هنا مثالاً نحاول الاقتراب من نموذجه مستخدمين التشبيه وسيلة للوصول، بل جعل المحبوب في صورة يعز على الطبيعة أن تصل إليها.ألم يجعل غصن البان في دهشة وعجب من قوام الحبيب؟ والعهد بالشعراء أن يجعل البان نموذجاً أعلى يشبهون به قوام المحبوب!
ألم يتهكم الشاعر على من يشبّه فم الحبيب بالعناب؟ وذلك لأنه في منظور الشاعر أجمل وأروع من ذلك.
ولعمري إن هذا ضرب من التجديد في التصوير الشعري مع احتفاظه بوهج القديم.. وبذلك نجا الشاعر من الوقوع في دائرة التقليد..
وأحياناً تتوقف أحاسيس الشاعر وذكرياته عند ظاهرة طبيعية وواقعية كما في قصيدته "وحي الكرنك" و"على ضفاف النيل"، ولا يصف الشاعر هذه المشاهد والمرائي وصفاً خارجياً تقليدياً، وإنما يوحد بينها وبين مشاعره، فهي مغاني الذكريات، وهي ممتزجة بأحاسيسه تخالط منه اللحم والدم.
يقول الشاعر من قصيدته "وحي الكرنك":
هل تذكرت الذي كان لنا في الكرنك
حين أشهدنا على الحب نجوم الفلك
فكأني لم أمتع بشذى من حسنك
وكأني لم ألج يوماً مغاني عدنك
وفي قصيدة "على ضفاف النيل" يتوارى المكان. وكان بإمكان الشاعر أن يربط بين سحر المكان وسحر المحبوب، بين ظمأ القلب وظمأ الأرض، ويربط بين المشاهد الطبيعية والمكابدات النفسية، لكن الشاعر لاستغراقه في تجربته الذاتية لم تثره المشاهد الخارجية بقدر ما أقضّت مضجعه الذكرى.. فرجع بذاكرته إلى الماضي البعيد، وأخذت الذاكرة تحدق في أطلال الماضي وأصداء الذكريات ترددها الآفاق.
يقول مصوراً محبوبه بالنجم، وبينه وبين هذا النجم كانت المحاورات الدافئة على ضفاف النيل:
يا حبيبي هل نسيت الأمس لما
كنت نجمي بين سُمّار الليالي
وضفاف النيل مهوى حبنا
وعلى شطيه ساعات الوصال
حين ترنو لي بطرف ساحر
ورنت عيني بقلب غير خال
موضوع اعجبني شاركوني قرأته
رحم الله الشاعر عبدالله الفيصل