السخرية والتكبر على عباد الله :
يقول أحد العارفين إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن، مجتمع له أدب رفيع، وأخلاق حسنه ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس. وهي من كرامة المجموع. ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس،لأن الجماعة كلها وحدة، كرامتها واحدة.
والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء المحب بفي النفس : {يا أيها الذين آمنوا} وينهاهم أن يسخر قوم بقوم، أي رجال برجال، فلعلهم خير منهم عند الله، أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان الله.
والميزان عند الله التقوى، فقد روى الحاكم وأبو نُعيم في الحُلية عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال:(رُبَّ أشعث أغبر ذي طِمرين - الثوب الخَلِق البالي- تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبرَّه).
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
ويقَولَ الرَسُولُ الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ:
(لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَاللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَايَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)
إن سخرية الإنسان من أخيه الإنسان معول فعَّال يسعى حثيثاً في تهديم العلاقات الإنسانية، وتمزيق الأُخوَّة الإيمانيَّة شرَّ مُمزَّق،حيث يستعلي المرء بماله، أو حسبه، أو جنسيته أو جاهه مفاخرة ومباهاة وتحقير اًللآخرين.
إن التكبر والتعالي على المسلمين، والتنابز بالألقاب ما تصدر إلا من نفس قذرة خبيثة، سيئة الخلق، تتحدى الله و تتحدى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ذلك ليكن معلوماً أن عاقبة ذلك وخيمة، وأن دوام الحال من المحال. لقد رأينا وقرأنا من يتكلم بإحتقارعلى أخوانه المسلمين ما يندى له الجبين.
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَاتَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(11) سورة الحجرات.
نهى الله تعالى عباده المؤمنين عن السخرية بالآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم، فلعلَّ مَن يُسخَر منه ويُنظَر إليه نظرة احتقار وازدراء واستخفاف؛ خيرٌ عند الله وأحبُّ إلى الله من الساخر الَّذي يعتقد الكمال، ويرمي أخاه بالنقص ويعيِّره.
وخصَّ الله- عـز وجل - النساء بتكرار النهي عن السخرية، مع أنهنَّ يدخلن في النهي الأوَّل، نظراً لتفشِّي هذه العادة السيئة بين النساء.
إن السخرية لا تنبعث إلا من نفس منحطة ملوَّثة بجراثيم العُجْبِ والكبر، فمن يعمل على إيذاء من حوله بدافع الشعور بالفوقية المتغلغلة في أعماقه.
لقد استهان إبليس بآدم وسخر منه قائلاً:{أَنَاخَيْرٌ مِّنْهُ}(76) سورة ص، فباء بالخسارة والخذلان.
قال ابن جرير: "إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك"
وقال ابن كثير: "ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس) ويروى: (وغمط الناس) والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له؛ ولهذا قال:{يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} فنص على نهي الرجال وعطف بنهي النساء".
وقال عن قوم: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}(110) سورة المؤمنون.
ويستفاد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يغنى، وأن ذلك مبعد من الله - عز وجل
وقال القرطبي: "السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه، وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول أوالإشارة أو الإيماء، أو الضحك على كلام المسخور منه، إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته، وقال بعض: هو ذكر الشخص بما يكره منهم خيراً عند الله تعالى من الساخرين، فرب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله تعالى لأبره، وجوز أن يكون المعنى لا يحتقر بعض بعضاً عسى أن يصير المحتقر -اسم مفعول- عزيز أو يصير المحتقر ذليلاً فينتقم منه،