كتبت هذه القصيدة أثناء الانتفاضة الأولى التي اندلعت بتاريخ 8/12/1987م ولم أتمكن من نشرها إلا بعد عدة سنوات من انتهائها.
الحجر الأخير
د. طاهر عبد المجيد
صبراً تقول وكيف لــي أن أصبرا
لا بدَّ للمكبــوت أن يتفجَّــــــــــــرا
لم يبق للقلب المحاصر فرصـــــة
ووسيلة أخـــرى لكـــي يتحــــرَّرا
ويعيد للأطفــــال ما حلمــــوا بـــه
يوماً وما من عمرهـــم قد صودرا
طفــــل هناك علــــى التراب ممدد
ويد أمام الشمس تمسح خنجــــرا
وتسلُّ من شفتيـــه آخــــر قبلــــة
ولدت وماتت وهو يحتضنُ الثرى
والجالسون علــى ضفاف جراحنا
يتســـامرون كأن شيئاً ما جـــرى
وكأنهـــــم لــم يعلمـــــوا أن الذي
بالأمس قــــد خذلـــوه لن يتقهقرا
أو ينحنـي للريـــح مهمـــا حاولت
بجنـــونها وعنادهـــا أن تعبـــــرا
لمـا أصيـــب تدفَّقـــت أنفاســـــــه
وتســــارعت خطواتــــــه فتعثَّــرا
وأتـــى إلى الحجـــر الأخير أمامه
وانقضَّ كالأســـد الجريح مكبِّـــرا
ورمـــى بـــه والنور يخبو حولــه
والعمـــر بين جراحـــه قـــد بُعثرا
ثــم ارتمـــى فــوق التراب كأنَّـــه
منذ الولادة لـــم يذق طعم الكــرى
وقبيل أن يهوي إلى الأرض التي
كانت تخاف عليــــه أن يتهــــورا
وثبت تعانقـــــه بكـــل حنانهـــــــا
خــوفاً علـــى الأضلاع أن تتكسَّرا
وتشــد أطراف الجـــراح علـى دمٍ
تأبـــى لـــه الأشــواق أن يتخثــرا
وكأنمــــا هـــي أدركـــت لما رأت
فــي الصــدر جرحاً غائراً ومعفَّرا
أن الأخيــر مــن الحجارة لـم يكنْ
حجــــراً ولكـــن كان شيئاً آخـــرا
فاستسلمـت لمـــراده ولدمعهــــــا
تبكــي وتُوْسِعُ صدرها كــي يُقبرا
رسم الرصاص على بياض جبينه
وســـــواد غرَّتـــه شريطاً أحمــرا
وهوى فشكل فوق خضرة أرضـه
علمــــاً تتــوقُ إليـــه آلاف الذُّرى
علــــمٌ لدولتـــه التي أرســـى لها
حجر الأساس وغاب عنها مُجبَرا
هــــل كـــان يختار الحياة بموتــه
أم كـــان حــب الأرض منها أكبرا
ومــــن الذي يختـــار منـــا حبَّـــه
وحبيبـــه حتـــى وإن هـــــو خُيِّرا
ولقــد تــوغل فــي الغرام فلم يجد
كالمـــوت عن صدق الغرام مُعبِّرا
وبموتــــه هــــذا أعــــاد لأرضــه
فــــرح الرَّبيع بهـــا وكان مهجَّرا
حتى صخور الأرض رغم حدادها
لبست مــن الأعشاب ثوباً أخضرا
وأتـــى النَّسيـم إلـــى بقايا روحـه
فأذابهـــــا فـــي كفِّــــه وتعطَّــــرا
ومضـــى يُحــدِّثُ بالحكايــة نفسه
متجـــولاً بيـــن المدائـــن والقرى
ووراءه الأيــــام تنظـــــر حولهــا
وكأنمـــــا هــي لا تصدِّق ما ترى
وقـــد استبدَّ بهــا الذُّهول وراعها
طفــــلٌ يواجــــه حتفــه مستبشرا
ويمر من بين الرصاص رصاصةً
لا شيء يشغلـــه ســوى أن يثأرا
طفــــل كمـــا الأطفــــال إلا أنــــه
ســلك الطريق إلى الرُّجولة مُبْكِرا
ومضى بما حمل الفؤاد من الهوى
واختار من بين الدروب الأقصــرا
لا زاد يحملــــــه ســوى أشواقــه
تلك التــــي أنستــــــه أن يتذكّــَرا
فهناك خلـف الليل بيـــن ظنونهــا
أمٌّ تُغالــــبُ دمعهــــــا المتحــــدِّرا
وتســــائل الأشبــاح عن طفلٍ لها
مـــا اعتاد قبـل اليـــوم أن يتأخَّرا
تركتــــهُ يلعــبُ بالحجــارة حينما
ذهبت تُضمِّـــدُ جرحهــا المتفجِّرا
وتُعـــدُ مقلاعـــــاً لــــه جدلته من
شَعْــــرٍ لهــا بالأمس كان مُضفَّرا
لا تحزنــــي أمَّاه طفلك لــــم يمت
أبـــداً وإن كـــان الممــــات مقدَّرا
ولتطمئنـــي فهــــو بيـــن رفاقــه
حـــيٌّ يُـــرى بثيابهـــــم متنكِّــــرا
ما مــات مـــن ترك الحياة وراءه
تسعــــى إليــــه تحــــرراً وتطوُّرا
ودعي السُّؤال فقد يجيء بنفســه
من شرفــــة الأحلام يوماً مخبــرا
ولسوف يبقى حيث فاضت روحه
متشبِّثاً بالحلـــــم حتــــى يُزهـــرا
وسيدخـــلُ التَّاريخ مــــن أبوابــه
متبختراً مـــا شــــاء أن يتبختــرا
وسينهض الشُّهــــداء لاستقبالــه
بطــــلاً فريداً قــــلَّ أن يتكــــــرّرا
فهــــو الكبيــــر بحبِّــــه وبفعلـــه
فيهـــم وإن بالعمــر كان الأصغرا
ولتهنئـــي يــا أرض بالجيلِ الذي
لـــم ينتظـــر زمناً إلـــى أن يكبرا
جيـــــل مـــن الأطفال يعــرف أنه
فيما تُريــدُ الأرض ليس مخيَّــــرا
جيـــــل إذا الطغيان لـــم يترك لـه
أمــــلاً يلــــوذ بــــه طغى وتجبَّرا
وأراق مــــن دمـــه الذي يحيا به
ليكون دون الأرض خطاً أحمـــرا
وغــداً سينصفه الزمان وإن بغى
وسيشهـد التاريخ مهمــــــا زوِّرا
وإذا الحقيقة أسفرت عـن وجهها
فمن الذي في وسعـه أن ينكـــــرا
د. طاهر عبد المجيد