شباك خالد العريمي
بالله عليكم ، ما الذي سأكتبه عن هذا النص ؟! عما سأكتب فيه ؟! عن كمية الوعي الهائلة ؟! عن كثافة الشعر ؟! عن اللغة الباذخة ؟! عن الرؤيا والرؤية ؟! أم عن ماذا بالضبط ؟! .
نص يشعل الكثير والكثيرمن الفوانيس التي لا تنطفئ ذبالاتها ، ويوزعها على امتداد شوارع الروح ، يتتبعها شارعا ، شارعا . انه " شباك " (1) خالد العريمي ، هذا النص الباذخ ، المثمر ، يأتي مكتظا بما فيه من أول قطرة ( خصلة ) مداد .
نص يرش غيماته على عشب الوجدان ، فتتضمخ الامكنة بعطره وأريج تداعياته وتراسله ، يأتي مشتعلا كبنفسجة ، زافرا بالاحتمالات ، ومتقدا كآهة ، تسح مطرا " يمسح على أجساد البيوت " . نص مارس جميع الطقوس ، واستخدم كل التقنيات ، وأتقن شتى أحابيل وغوايات و"ألاعيب" الشعر ، ورغم هذا أتى مرتجلا ، لكن أي وعي يرتجله ؟! وأي شباك يبعثر أسئلته ؟! ، إنها "عفوية المنطوين على شي " كما يجليها أنسي الحاج في خواتيمه ، ويفند قصده بقوله " أقصد الذين ، متى قالوا ، لا تنحصر ظلال كلماتهم بحدود حروفها "(2) :
يكتظ وجهك بالمسا
باشتعالات البنفسج
بالسنين ...
باحتمالات الفراغ الكاذبة /
عروة الغيم السجينة في يد فانوس العتم /
نجمة مرت هنا ...
تشتهي توقد على ضلوعك
طقوس الارتجال
الليالي نهد
ما فطم هـ الشارع الباكي الحزين
كان .. نافر
والفراش أيقن ألاعيب المصابيح القديمة
واحتمى بخصلة مداد
وضي كافر
والمطر
يمسح على أجساد البيوت بشهوته
ينولد فيك الشتا
والذكريات
لك أن تتأمل ، عزيزي ، هذه التوليفة المسائية لهذا المكتظ وجهه بالمساء ( فانوس – العتم – نجمة – الليالي – فراش – مصابيح – ضي ) لتعلم أي وعي ، وأي شاعرية ، يكمن خلف هذا الاكتظاظ /الاشتعال / الارتجال / المطر .
لك أن تتملى في هذه الصور التي تصخب بالحركة ( الصور المتحركة ) وتزخر بالمشهدية :
- نجمة مرت هنا ...
تشتهي توقد على ضلوعك
- والفراش أيقن ألاعيب المصابيح القديمة
واحتمى بخصلة مداد / وضي كافر
- والمطر
يمسح على أجساد البيوت
ولك أن تتلقف الإشارات أو الومضات التي توصف لك هذا الوجه المكتظ بالمساء/ باشتعالات البنفسج / باحتمالات الفراغ / بالغيم ، وترك شباكه مشرعا للعشق والشعر والغياب والرؤية :
- "نجمة مرت" هي من أوقد جمرة كل هذا الشعر / الحنين
- كان نهد الليالي نافرا ، مليئا بحليب التشرد والتسكع والضياع والحرمان ، وظل ذلك الشارع / الطفل الباكي الحزين يجتر طفولته البائسة وجوعه المزمن .
- "والفراش ( أيقن ) ألاعيب المصابيح القديمة" ، أيقن لعبته القديمة الجديدة ، لذته ، موته ، "واحتمى بخصلة مداد وضي كافر"
- والمطر يمسح على أجساد البيوت
يا الهي .. لقد وضع خالد الشاعر / المخرج / الخلاق لمسته الأخيرة على المشهد ، مسحة أخرى من القتامة ، طبقة إضافية من الأسود ، أشبه ما تكون بلمسة (سيابية )
ثمة مساء ، وعتم ، ونجمة ممسوسة ، وبكاء حزين ، وماذا بعد أيها الفنان المرهف ؟
المطر ، نعم المطر ، فهل هناك أقدر من المطر على إيقاظ الذكريات واستدعائها ؟ وبعث الشعر من كوامنه ؟ لا سيما وهو يسح في ليلة ليلاء ، من تلك الليالي الطوال اللواتي اشتكى من قسوتهن أبو الطيب المتنبي " طوال وليل العاشقين طويل " .
نعم انه المطر ، ذلك الإتقان السيابي في لوحته الرائعة (أنشودة المطر) ، " أي حزن يبعث المطر " ، " وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع " وأي ذكريات يوقظ ؟! ، وأي شباك يُفتح بلهفة منتظر ، والى أي حكاية يقودنا خدر اللحظة ...
ما على الشباك غيرك
والعابر اللي داس
في غفلة من الساعة
عقارب وحد .. تك
مرتبك
دق ...
دق
مرتين
طفلة ملت جنون الانتظار
تفتح الشباك
قال أحبك
واختفى في شعرها
ينزف دموعه وجع هـ الليل
- وين رايح .... ؟؟
بعثر الفوضى على حفن السؤال
زفرة حبلى بطفل الغيم
- وين رايح ... ؟؟
- لاحتضاري
لاحتياجي لاحتجاجي
عند بوابة وطن
انه الشعر ، عندما ينمنم جنباته بفسيفساء الأجناس الأدبية الأخرى ، والفنون البصرية كالسينما بإيماءاتها البصرية ، بحوارياتها ، وإيقاعاتها السمعية ، والتأثيرية
مشهد داخلي : ما على الشباك غيرك
مشهد خارجي : والعابر اللي داس في غفلة ...
إيقاع تأثيري ( سمعي ) : عقارب وحد .. تك / مرتبك / دق / دق
تماهي الداخل مع الخارج : طفلة ملت جنون الانتظار / تفتح الشباك
مع عدم إغفال لعبة التقديم والتأخير هنا ، فخالد لم يقل : تفتح الشباك طفلة ملت جنون الانتظار .
الحوار الأخاذ ، يتخلله التوصيف الشعوري والشعري :
قال أحبك
واختفى في شعرها
ينزف دموعه وجع هـ الليل
- وين رايح .... ؟؟
بعثر الفوضى على حفن السؤال
زفرة حبلى بطفل الغيم
- وين رايح ... ؟؟
- لاحتضاري
لاحتياجي لاحتجاجي
ويستمر الشاعر في استيهامه وتداعيه بالولوج عبر شباك بعيد آخروهو في حضرة شباكه الأثير :
هنااااك ..
خلف الريح
عند أول ناصية خوف وزحام
احتفى جدي بقصيدة ملح
عاندها وبعد
هناااااااااك
خلف الحزن
ارث النخيل
وقصة أشياء وبلد
وانتظار
ويعيده السؤال الممزوج بحرقة موجعة ، سؤال أنثاه ، إلى شباكه الحميم : للأبد ؟
انها لعبة الزمن في القصيدة ، والانتقال حتى في حالة الاستعادة للماضي ، فهو ينتقل من ماضي بعيد إلى ماض أبعد في امتداد هذا الماضي ...
انها لعبة الانتقال في الزمن التي يجيدها خالد كما يجيد الموسيقي التنقل من مقام الى مقام بمنتهى السلاسة والامتاع .
ويتعلثم بجوابه المتردد والمكتظ باحتمالاته واشتعالا ته : للأبــــد !
ويبحث في ضفائرها عن سلام يعيد إليه توازنه ، ليرمي بكلام لا يجيده الكلام ،ولا يرومه :
من ضفايرها سرق قمرة سلام
وفي شفايفها رمى بعض الكلام
ليستقوي ، ربما ، على اللحظة الحاسمة ، اللحظة الفيصل ، واللحظة البرزخ بين الـ هنا والـ هناك ، بين الحضور والغياب :
التفت ....
وثمة صمت طويل ومعذب تقوله النقاط المتتابعة :
يفتل من إحساس الخشب شاهد
ارتمى فـ حضن الرياح
أشعل غيابه وراح
راح ، وظل الشباك يرمقه وهو يبتعد خطوة ، خطوة ، ويوزع في المدى حرقته :
وين راح
هنا يعيدنا الممر اللولبي الذي أخذنا في أدغال ذاكرة خالد القصية ، حيث شباك عشقه ، والطفلة التي ملت جنون الانتظار ، يعيدنا إلى خالد الباكي ، الوحيد الذي أغرقته الذكريات وتداعياتها ، وهو يضع يده على خده لينفث بداهة عميقة ، عمق الشعر :
هـ الغريب اللي تعب
من كثر ما قال الوطن
وش هو الوطن ؟!
غير شباك وحنين
وش هو الوطن ؟
غير أرض تعرفك من ظل إبهامك
من حزنك
ورجفة أقدامك
وانت تبحث في غيابك
عن غيابك
ولا عرفت
ان اعتصام السرب بأوزار القصيدة
كان حبة أسبرين
وتعاود البداهة إنتاج نفسها من جديد بتنويع شعري آخر باللعب على ثيمة المكان والزمان ( هنا – هناك ) :
وش بقى منك هناك ؟!
وش بقى منك هنا ؟!
غير شباك
وزمن
ولما يزل الشباك ، هناك ، كما تركه خالد ، يومها ، متوهجا ، مرتبك الأنفاس ، بذات حرارة العشق الأول ، واللحظة الأولى :
وما على الشباك غيرك / وربكة أنفاس / وستارة / والمطر / والليل / والأحزان / والشارع / وسارة .
الهوامش :
(1) خالد العريمي ، شباك ، نشر في جريدة الوطن ، مارس 2005 م
(2) أنسي الحاج ، خواتم 2 ، رياض الريس ، الطبعة الأولى ، 1997 م