منذ أن قرأت عائشة تنزل إلى العالم السفلي لبثينة العيسى، و أنا أتحرى متعطشة لقراءة أخرى لبثينة العيسى؛ و ها أنا ذا، اليوم، أتم قراءة خرائط التيه لبثينة العيسى متمنية مجدداً بإشباع أن أقرأ لبثينة العيسى.
خرائط التيه، الدهشة، الذهول. لم يسبق لي و أن قرأت منذ وقت طويل رواية تأسرك، تقيدك و لا تمنحك فرصة لنيل قسطٍ من الراحة عن كل هذا التيه الذي حملته بين سطورها. مرعبة، مروعة، مؤلمة للحد الذي لا تمنحك فرصة النحيب على أرضٍ و عالم تعيش فيه.
قليل أولئك الكتاب الذين يجعلون القارئ يتيه في روايتهم، تيه لا يتيحون له فرصة التوقف للحظة عابرة حتى. كانت خرائط التيه كذلك، على وتيرة واحدة من الجمال. لا تحمل وجود احتمالية أي فرصة للتوقف عن القراءة لأي سبب كان و لأي مدة كانت؛ و قد نجحت الكاتبة في ذلك، حين أن الرواية، رغم أنها كانت من الممكن أن تكون على شاكلة قصة قصيرة، إلى أنها كانت قصة عن حالة تتخللها هذيان يثير فيك سؤالاً موجعاً، أي أنا عن كل هذا التيه؟
في البداية، لم تتمكن الكاتبة من صنع التناغم و الانسجام في السطور الأولى، كما كانت متمكنة من ذلك بعد حالة التيه الذي وقع، و التي كانت هي محور الرواية بحد ذاتها. فالقارئ يجد في بداية الرواية خللاً أدبياً، و لا يتمكن من الانسلال بين السطور بانسيابية تامة، إلى أن يصل في قراءته تيه اليوم الثاني. فتلك المنطقة من الرواية –تيه اليوم الأول- كانت محملة من الخلل التوازني الأدبي بين سطورها الكم الكبير جداً، فلم تتمكن الكاتبة من جعلها منسجمة و متناغمة، و كان لذلك أسباباً عدة.
منها، أن في بداية الرواية، في تلك المنطقة، تيه اليوم الأول، تلتقط كقارئ كلماتٍ عربية مكثفة، ثقيلة بحد ذاتها، و التي كانت من الممكن استبدالها بكلماتٍ أخف وطأة و أكثر انسجام مع النص الذي تتخالط معه. فبعض الكلمات كانت تصنع خللاً في التوازن، فيتضح للقارئ كيف أن الكاتبة حاولت بشكل مبالغ في أن تجعل الرواية بالعربية الفصحى و هذا ليس الخطأ الذي وقعت فيه، و إنما كيف بالغت للحد الذي جعلها تقع في خطأ الخلل الأدبي من حيث الكلمات ثقيلة الوطأة على النص لتفقده التوازن و الانسجام الأدبي. لكن، بعد تيه اليوم الأول، يتدرج ذلك بالاختفاء، بشكل مفاجأ لحدٍ ما. حيث تكون تتمة الرواية منسجمة أكثر بكثير من تلك المنطقة التي تتضمن تيه اليوم الأول.
كذلك، في منطقة تيه اليوم الأول خصوصاً، و غيرها من بعض المناطق، كان تكدس الحوار المحشور في السطور كثيفاً، سبب في خلق خللٍ في التوازن الأدبي. فالحوارات التي كانت تتعاقب بعضها تلو الآخر بشكل متكدس، تسبب ارتباكاً للقارئ حيث يجد نفسه في لحظاتٍ تائهاً بين السطور متسائلاً، من كان المتحدث؟ و كان من الممكن أن تتفادى الكاتبة ذلك بأي شكل آخر تعرض فيه الحوار الذي كان متكدساً في مرات عدة على طول الرواية.
أيضاً، من الأمور التي كانت سبباً في اخلال التوازن الأدبي، و الذي يقع فيه معظم الكتاب، أن تحوي الرواية حواراتٍ على لسان الشخوص في شكلين. مرة باللغة العربية الفصحى و مرة بلهجة الدولة التي ينتمون إليها. مما يثير لدي التساؤل ذاته في كل رواية أقرأها على ذات الشاكلة؛ أكان حقاً هنالك اتفاق بين الشخوص و الكاتبة بالمواضع التي يتحدثون فيها بالعربية الفصحى و في تلك التي يتحدثون فيها باللهجة التي تخصهم؟
مما زاد من سوء الأمر كذلك، اللغة غير العربية التي تتواجد في سطور الرواية، كان من الأفضل على أقل تقدير ترجمتها للقارئ العربي أياً كان مستوى القارئ.
صيغة الرواية من حيث الأزمان، الأفعال، صيغة المخاطب، فعل المضارع، فعل الماض، زمن الاستمرارية، كل هذه الأمور، كانت معالجة في الرواية بطريقة ركيكة، مما تسبب للقارئ ارتباكاً و توقفاً لحظياً يسترجع فيها من المتحدث عنه؟ من المخاطب إليه؟ من المتحدث إليه؟ كل ذلك كان كفيلاً من أن يسبب خللاً أدبي بشكل ما.
أيضاً، كانت الكاتبة بثينة العيسى تائهة في بعض السطور. حيث يجد القارئ في الرواية سطراً ما غير مكتمل الفكرة، و آخر يجتاحُه فكرة أخرى و هو لم يكتمل في توصيل معناه. كل هذه التيه في بعض السطور القليلة، كانت كفيلة بإرباك القارئ و التسبب في اتزان أدبي للرواية.
الأخطاء الإملائية، الخطأ الصريح الواضح المفضوح الأكثر شيوعاً؛ فالرواية كانت تحمل من الأخطاء الإملائية ما تسببت في اخلال التوازن الأدبي للرواية بشكل هائل.
بعيداً عن كل هذا الاختلال الأدبي الذي كان معظمه متكدساً في تيه اليوم الأول، كانت في مقدمة الرواية في بعض من أجزاءها، خللاً قلل من التقييم الإيجابي للرواية. حيث أن الكاتبة، كانت متواجدة بشخصها في حدود بعض السطور. فمرة تشعر و كأنها تتحدث إليك طارحة في شأن ما وجهة نظرها، مما لا تتيح في ذلك مساحة يفكر فيها القارئ متخذاً الأمر من وجهة نظره؛ و مرة كانت تسيء إلا شغف القارئ للاستمرار في قراءة الرواية، حيث أنها في تلك اللحظات كانت تفضح ما سيحدث، أو الحدث المقبل على الحدوث، مما يفقد القارئ حماسه لما لم يستطع توقع حدوثه؛ و قد و قعت في هذا الخطأ بفضح ما سيحدث مرتان بالتحديد. قليلٌ من الكتاب ينجح في أن لا يتواجد بشخصه فيما ينتج من كتاب، و لم تتمكن بثينة العيسى من ذلك في خرائط التيه بشكل تام.
أما عن خرائط التيه، الرواية، كانت قصة مدهشة، مذهولة، مذهلة. تمكنت فيها الكاتبة من أن تجعل الرواية منذ الوهلة الأولى و حتى آخرها مأهولة بالدهشة و الذهول. تجعل القارئ يلتهم الرواية بنهم كبير.
لكن، حين تتحدث الكاتبة عن بعض اللحظات، لم تكن عميقة في حديثها عن تلك اللحظة كعمقها اللامتناهي في الرواية كوحدة واحدة. مثال ذلك، لحظة الهروب من القارب، مشاري، جرجس، و الآخرين، لم يكن وصف الكاتبة لهذه اللحظة عميقة للحد الذي تمنح فيه القارئ الرؤية التامة لما كان يحدث. فلم يكن القارئ مقتدراً من إيضاح الصورة في مخيلته بعدما تمكن من صنعها في مخيلته كما وصفت الكاتبة. لأن الكاتبة كانت تمسح بيدها على اللحظة في وصفها دون أن تغرز أصابعها في تفاصيل اللحظة لتوصل بوصفها للقارئ الرؤية الكاملة، فلم يقتدر القارئ على إتمام ما خلقه من الرؤية في مخيلته.
يظهر هذا في عدة مرات، فيتضح للقارئ أن الكاتبة لم تتمكن من التعمق في أمر ما، سواء كان لحظة، حالة، قضية، فعل، أياً يكن هذا. عدم التمكن هذا، لم يكن عدم مقدرة من الكاتبة، و إنما سببٌ آخر –لا أفضل ذكره- امتنعت فيه الكاتبة عن التعمق في تلك الأمور بالشكل الذي كانت فيه متعمقة في الرواية كوحدة واحدة تامة.
مثلاً، أن يكون نظام، الذي يصلي، يتعبد، يضع صورة الكعبة على الجدار، هو ذاته الذي يتعامل مع مشاري بالطريقة التي تعامل فيها معه. هذه الصورة، و صورٍ أخرى عدة، التي كانت الكاتبة تفضح فيها بعمق تام ما أرادت أن توصله للقارئ من قضية كانت تتحدث عنها، بخلاف أمور كانت لا تتعمق فيها بالمقدرة التي كانت تمتلكها؛ و على ذلك، فضلت في أمور و قضايا أخرى أن لا تصل فيها حد العمق الذي تقتدرهُ و تتمكن فيه.
كانت الكاتبة جيدة جداً في تفاصيل القصة. حيث أن معظم الكتاب يقعون في خطأ الحظ العاثر، اللعنة، الشؤم الذي يغطي رواياتهم بحيث كل ما يحدث لأبطال الرواية و شخوصها سيء للحد الذي لا منطقية فيه.
رغم أن خرائط التيه كانت كتلة كبيرة من الشؤم، إلا أن الكاتبة لم تقع في خطأ اللا منطقية في مسار الأحداث. فكل الشخصيات، الأحداث، ردات الفعل، كانت منطقية لحد كبير. فكانت الكاتبة متمكنة من أن تخلق الشخوص بشخصياتٍ متناغمة مع الأحداث و مجريات الرواية دون أن تفصح عن شخصيات الشخوص عن الحد الزائد عن اللزوم؛ و كانت جيداً جداً في ذلك.
بعيداً عن كل هذا، فكرة ترتيب الرواية من فصول و تواليها كأيام، كانت فكرة مستهلكة أساءت للرواية بشكل سلبي. كان من الممكن اتباع نهج آخر مبتكر غير مستهلك لعرض الرواية على القراء.
بثينة العيسى، أيضاً، في روايتها عائشة تنزل إلى العالم السفلي، كانت بذات الفكرة، أيامٌ متتابعة، تروي لنا فيها بثينة بذات النمط في خرائط التيه عن تيه اليوم الأول و الثاني و ما يلحقه من أيام.
و مع هذا و ذاك، كانت بثينة العيسى ممتازة في عنوان الرواية، الذي لا يمنح القارئ و المقتني أيضاً فرصة للتخمين أو توقع ما ستتحدث عنها الرواية. أيضاً، النص الخلفي المطبوع على غلاف الرواية من الخلف، كان ممتاز للحد الذي لا يسيء لشغف القارئ في اقتناء الروية، حيث أن ذاك النص لم يفضح شيئاً و لم يرسم انطباعاً أولياً يفسد فيها بذلك شغف الاقتناء و القراءة.
الموضوع مفتوح للنقاش.. أهلاً