بدأ الحفرَ سريعاً، لا يعلمُ أيّ فكرة تُراوده الأن إلا أنّه يستمر بالحفر، يسألُ لماذا أحفر؟ ما زال جاهلاً، استمرَّ في عمله الشاق لسنوات، ألهمهُ الفكر بعد هذه المدّة الطويلة بأن يتوقف حالاً عن الحفر، قد ناهزَ التسعينَ صيفاً ولم يشعر، ظل حائراً بينَ جهله بعمل أخر يستعيضُ به عن الحفرِ وَ عمرهِ الذي أنتبهَ له بعد فوات، إنّه ينتظر الموت.
هبطَ على رأسهِ غُراب، بدأ نعيقه المتتالي المزعج، حاولَ إبعاده بلا طائلة، كلما حاول الرجل إبعاده اشتدَّ الغرابُ عناداً ، بل إنّه بدأ ينقرُ بمنقاره فوق رأسه، ثمَّ ينعق، ثمَّ ينقر، وهكذا حتى ضجَّ بهِ الرجل وكره الحياة بسبب هذا الغراب.
تقاطرَ الدم من رأس الرجل بسبب نقر الغراب المستمر، بدأ يتزايد تقاطراً حتى اندلق كقطرانٍ مسكوب، اختلط الدم بالأرض، لتنبت سبع أعين جرّاء ذلك، والأعين تحدجُ الرجل بنظراتٍ مريبة، تكادُ تُمزّقه إرباً، ليجزعَ من هول النظراتِ جَزَعاً، فانفلتَ بكاريزما تمخض بها عمرهُ فيما أفناه، يطأ بقدمهِ رؤوسَ الأعيُنِ تلِك، وهيَ لا تفتأ بدسّ رؤوسها في التراب، مهما حاول أن يدوسها بقدمه المضطربة، ثم تعود، ويعود، ودواليك بمشهدٍ أندمجَ فيه المشهد الأول، نقر الغراب المتوالي، والمشهد الثاني، تحديق الأعين المُريب، فنادتهُ الحفرة التي حفرها، أن تعالَ إليَّ أحملكَ بداخل بطني أيها النجيب، سأكونُ حبلى بك، ولن ألدكَ من جديد.
أنتهى صاحبُ الفرشةِ من مشهده الأخير، ها هيَ لوحتهُ الفنيّة تجلّت أمامهُ واضحةُ المعالمِ بعدَ أن بصقتها مخيّلتهُ كنفطٍ خام، إذ أخرجَ منها ألوان الحياة ليعيد تشكليها بأبعاد مُتناهية الدقة، بكيميائية محترفٍ رائدٍ في هذا المجال.
قامَ من مكانهِ نازعاً ملائته بعدَ أن تلطخت بآثارِ فنّهِ السريالي، ثمَّ توّلى إلى سبات، غارقاً في انتشاءِ إلهامٍ فذ، وإذ بهِ يسمع قرع أنعل القوم وهم مغادرين المكان، تذكّرَ شيئاً مهمّاً، إنّهُ في القبرِ مفارقاً دنياه، إنّهُ ميّتٌ الأن.
|