إهداء إلى غيمة تمطر حيثما تحلّ... إلى عزيزة قلبي : الأديبة وفاء الطَيّب.
لم يدر بخلدي قبل ذلك اليوم الغريب أنني سأزور مدينةً قائمةً على أجنحة الملائكة ، تغتسل بالنُّور والآذان، تمشط شعرها بسعف النَّخل، تبسط وشاحها المُعَطَّر سحابةً سحَّاء على بيوتها وأزقتها...وحين تنعس تغفو في أفياء مآذنها وقبابها، ولم أحلم يومًا أنَّني سأفارق جسدي هناك، وأنني متى أتحسّس قاع أعماقي لا أجد إلا جمرَ حنينٍ إلى ذلك اليوم، يشتَّد اتقادًا بمرور الوقت ولا يستكين لسطوة الرماد، ولكن كيف حدث ذلك ؟ ، وكيف شردت بي الأفكار عن الرَّكب عند أثر من الآثار، وسارت الحافلة دون أن تتنبّه إحداهنّ لغيابي ، وهل عدت حقًا إلى جسدي أم أنَّني مازلت عالقةً بجناحَي طائرٍ في وادي العقيق ؟. هذا ما أحاول التَّحقّق منه منذ ظهيرة يوم الخميس الثامن من ربيع الثاني ،سنة ألف وأربعمائة وثلاث وثلاثون وحتى هذه اللحظة.
ففي ظهيرة ذلك الخميس، قرأتُ إعلان رابطة أديبات المدينة المنورة عن عزمها بالقيام برحلة سياحية إلى المناطق التاريخية الأثرية في المدينة المنورة فتساءلتُ حينها : هل يوجد في المدينة آثارٌ تاريخية غير التي أعرفها؟ فأنا لا أعرف في المدينة آثارًا، أو ما تبقَّى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه سوى المسجد النبوي الشريف، ومسجد قباء، ومسجد القبلتين، وجبل أحد، وأماكن أخرى قليلة ؟ . لقد قررتُ المشاركة في تلك الرحلة وأنا موقنة أنني لن أرى ما يمكن أن يُعتبر آثارًا، لعلمي أنَق هناك آثارًا كثيرة ومعالم تاريخية أزيلت بحجة سدِّ ذرائع الشرك وعدم التبرّك بالآثار؛ لكنني قررت الذهاب لأكون برفقة باقة من كاتبات ومثقفات المدينة وعلى رأسهنّ صديقتي العزيزة على قلبي الأديبة وفاء الطيب.
ذلك أنني في تيك الآونة كنت أعاني من غربة أدبية تكاد فيها منابع الكتابة في داخلي أن تجف وتنضب . وفي طريقي إلى مسجد قباء ـ حيث مبتدأ الرحلة ومنتهاها ـ كان يساورني إحساس كإحساس من يصحو صباحًا فيفاجأ برؤية أقرب أحبّته حوله يترقّبون استيقاظه لينهالوا عليه بالهدايا والتحايا . لقد كان ثَمَّ فرح يسري في عروقي سريان زخاّت المطر خلال شقوق البيوت المهجورة، وقبيل الثالثة ظهرًا وصلت إلى مسجد قباء ( أول مسجد أُسِّس على التقوى )، وأتاني صوت وفاء عبر هاتفي : "يا مريم نحن في الطريق إليك ... صلِّي ركعتين إلى أن نصل"، فأغلقت الهاتف وفتحتُ نافذة روحي المُتربة على أفق جديد مشرق وخفق قلبي قلقًا وفرحًا بهذا الحدث المميّز بالنسبة لي، وبعد وقت قصير اكتمل عقد الزميلات، وسرعان ما سادت بيننا الألفة والمحبة وذاب ثلج التصنع ،وتعرّفتُ إلى المرشدة السياحية، أستاذة عائشة خجا، التي رحَّبت بنا ببشاشة ثمّ بدأت حديثها بقولها : "ستعود بنا الذكريات إلى ما قبل أربعة عشر قرنًا، ونعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم وأهله وصحابته رضوان الله عليهم "، ولم تكد تنهي عبارتها تلك حتى تغشَّتني غمامة باردة واقشعرّ جسمي، فلم أعد أصغي لكلامها ولم أعد أرى السيارات والزوّار وبائعات السُّبَح والقلائد المبثوثات في الفناء وعلى الأرصفة ... لم أكن أبصر آنئذٍ خلا ضوء أخّاذ يسطع على قمم النخل ويكسو الكائنات بحُلَّة من ذهب؛ و تخيّلت الرسول الكريم محمد صلى الله عليه واقفًا عند النخل بقامته المربوعة، ومنكبيه العريضين، ووجهه الأبيض المشرّب بحمرة، وشَعرِهِ الرَّجِل... وحِرْتُ في ماهية الضوء : أهو سنا النبي صلى الله عليه وسلم، أم شعاع الشمس؟، وأحسستني أطير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما دنوت منه تزداد كثافة الضوء وتحُول بيني وبين رؤيته، عندئذٍ ملأت صدري بعَبَق ما تبقَّى من بساتين المدينة، والنِّعناع، والورد الجوري، وتنهدت جذلة . سبحان الله! أفُتِحَت طاقةُ على الجنَّة ليتضوَّع مِسْكُها بين نسوة يقفن على أعتاب قباء، أم أنه فَوْح تراب المدينة تحت قدمَي المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ .آه ...نعم ...هاتِهِ عين الرائحة التي أشمّها في لحظات القرب من الله ومناجاته، تنفح من أقاصي طفولتي .. من حفنة من غبار كُناسة الحجرة النبوية الشريفة، وضعها أبي رحمه الله في كفِّي، بعد صلاته في الروضة، ذات ضحى بعيد، سائلًا في شغف :يا بنية، هل شممت مثل هذه الرائحة من قبل !؟.ولم يعلم أبي أنَّ تلك الحفنة ستترسب في أغواري، وستنبت فيها بمرور الأعوام أشجارُ إخباتٍ، ذات فروع تمتدّ باتّجاه الروضة، وتجذبني معها أنسًا وحبًا . كانت رائحة فريدة لا تنتمي إلى عالمنا ... تترك في النّفس أثرًا كأثَر صلاة خاشعة طويلة في غَلَس الليل، وما فتئَتْ تتطاير في سمائي كخيوط دخان بخور، والآن ،عرفتُ أنها تهبُّ من الأيكة المقابلة لمسجد قباء، من الضوء المتوهج عند النخيل .وتَفتّحَ في صدري فُلُّ تنهُّد وقلت في نفسي: الحمد لله أنني أعيش في المدينة ... الحمد لله أنني ولدت وعشت في بلد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وسرت مع الزميلات في ساحة المسجد ونحن مأخوذات بحديث المرشدة المشوق عن قبائل الأنصار، ووصول النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرًا من مكة إلى طيبة، والمكان الذي بركت فيه ناقته (القصواء) عند مسجد قباء، وكم فرح أهل المدينة بمقدمه!، ثم أشارت المرشدة بيدها قائلة : من هنا سارت القصواء باتّجاه المسجد النّبوي عبر طريق سُمّي: طريق النّور، أو طريق السُنّة، وبعد أن أفاضت في الشرح حول مسجد قباء، ركبنا الحافلة والفرح حادينا ...وبدأت الحافلة تنهب الطريق باتّجاه أول معلم سنزوره، وتأملتُ رفيقات الرحلة والمرشدة وهي تشرح بشغف وحماس، لا تترك شاردة ولا واردة إلا وذكرَتْها، حتى خُيِّل إليّ أنّها كتاب تاريخ متَّنَقِل، وخطر لي أن هذه الحافلة مدينة منورة مُصَغّرة، فنحن اثنتا عشرة امرأة من أصول مختلفة... أغلبنا سعوديات الجنسيّة لكنّنا كلنا بنات المدينة ،"أمُّنا" التي خرجنا من رحمها ...أرضعتنا حبها واحتضنتنا بحنوّ بين مآذنها ، وهي أمٌّ عادلة لا تُفرّق بيننا في المحبة . "إيه، أيتها المدينة الأم، كم أحبك !". واسترخيتُ في مقعدي، وأنا أعبر شوارع طَيْبة وأزقتها كسمكة متناهية الصغر تعوم في أعماق محيط هائل دافئ وتستمتع بذلك الدفء والاحتواء .وتذكرت أبياتًا نظمها الشاعر المديني (ياسر مَحَبَّتْ) في حبه للمدينة :
من أنـتِ يـا ذات المقـامِ الأمجد * فلقد هويتـك منـذ ساعـة مولـدي
وأُسرت في ذاك الجمال وفي الطيوبِ * وفـي ثـراكِ وعـطـره المتـفـرّدِ
ولكم ذكرتكِ فـي البعـاد وغربتـي * وبشوقكِ الدامـي كتبـت قصائـدي
إنـّي المدينـة عشـق كـل مسائـلٍ * عنّي يحـنّ إلـى رحابـة مسجـدي
إنـّي المدينـة شـوق كـل مسافـرٍ * نحوي يتوق إلـى اقتـراب الموعـدِ
وأنا المصونة منـذ أن نـزل الهـدى * لا أُستـبـاح لآثـــم أو مـعـتـدِ
رُفّعتُ عن دنـس الطغـاة وغيّهـمْ * وحُميت من عبـث اليهـود الحسّـدِ
في كـل شبـر مـن ترابـي عـزةٌ * أُدعـى بطيبـة أو مديـنـة أحـمـدِ
مجـدٌ وعـزٌ قـد ورثتهمـا مـعـاً * عبـر القـرون السالفـات بمفـردي
اثنتا عشر امرأة في حافلة، تتطاير هَويّاتهنّ الورقية تباعًا من النوافذ ويغدين روحًا واحدةً شائقة إلى الخوض في عروق طيبة حتى تصل إلى قلبها، وفي تلك اللحظة لوّحت لي من شرفة ذاكرتي، بطلة قصتي (سرداب التاجوري) الطفلة الفلسطينية التي تلحّ على أمها في السؤال عن ماهية السرداب المهجور في بيتهم المديني القديم، فتجيبها الأم بعد أن تضجر من كثرة أسئلتها عن السرداب : إنّه نفق طويل يمتد كالعروق في جسد المدينة المنورة، فتسألها الطفلة : وإلى أين يذهب ؟ .
ـ إلى قلب المدينة الذي يحبنا ونحبه .) ثم قالت المرشدة " هاهو بئر الصحابي الجليل سلمان الفارسي"، و في صفحة السماء انسكبت أمام ناظريّ كلمات سلمان فضَّةً رقراقةً :
"أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم" . سلمان المهاجر من أصفهان حيث تتضرّم النار في أتون المجوسية و تقضي على عقول ألّهتها . هنالك حيث كان سلمان يكتوي بنار أخرى في داخله لا يطفئها الماء ... نار تَؤزُّه أزَّا ؛ليرحل عن وطنه وأهله، ويطوي الجبال، والوهاد، والبلاد، ويتنقَّل بين الرهبان والكهنة والقساوسة باحثّا عن الدين الحق، ولا تخمد ناره إلا وصيةُ رجل من عمّورية :
"قد أظلَّك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرّتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل " وتبدّى لي سلمان- صاحب فكرة حفر الخندق حول المدينة- من وراء نافذة الحافلة غاذًّا السّير في شعاب المدينة وآطامها... متسائلًا بصوت مكلوم : أين نخل المدينة ؟ .فأجبته بلوعة : ماتت عطشًا ولم يبق منها غير نخيلاتٍ قليلة .وقالت مرشدتنا "نحن الآن في طريقنا إلى وادي العقيق، وقد ورد في الأحاديث أنّه وادٍ مبارك، وتدلّ الكتابات التاريخية أنه كان في بعض العصور أشبه بنهر دائم الجريان، حيث كانت مياه السيول والأمطار تتدفق إليه ثرّة من مناطق شتّى، وأنه كان كثير النخل والعيون؛ لذلك قامت على ضفافه قصور كثيرة للموسرين، وتصف المصادر التاريخية مياهه بالعذوبة " وسرحتُ بذهني إلى وادي العقيق قبل أن نصله مستشرفةً قصور التابعين الغافية على خمائل الوادي ، وأغرتني ظلال الأشجار السابغة على الضفاف فاضطجعت فيها مفتونة بالخضرة الطاغية على المكان، والفاكهة الغضَّة المتدلية من الأغصان، والماء الهادر تحتي، ورذاذ عبابه الذي يداعب وجهي، و نَشِيتُ من توهّج شعاع الشمس على الماء الجاري كوابلٍ من الألماس . وقد شدّ انتباهي أن بوّابات بعض القصور مشرعة لفتية صغار يروحون ويجيئون، وهم يتدرّبون على ركوب الخيل والرَمْي بالنّبال، بينما يشاهدهم أناسٌ على الشرفات، وفي الأفنية، ويهتفون لهم مشجّعين، ساعتئذٍ حلّقتُ ببصري مع أسراب عصافير غرّيدة، ذات ألوان زاهية ؛ تحوم حول الوادي، وبعضها يتقافز على الأغصان والأسطح و النوافذ حيث ترتصّ أصص نباتات فخارية، تتدلى منها فروعُ خضراء دقيقة كأنّها زخارف منقوشة على الجدران، ثم انتهى إلى سمعي تلاوة للقرآن الكريم بصوت لم أسمع قطّ أجمل منه؛ حتى أنني حسبتها تلاوة لملائكة تجوب الوادي ؟ وحدّثتُ نفسي بأنّ أناسًا يسكنون هذا المكان لابدّ أنهم في نعيم مقيم و لا بدّ أن هذه هي جَنّة الخلد . "رباه، أأنا حقا في وادي العقيق ؟!" وفجأة، تلاشت أخيلتي على صوت مرشدتنا "هيا، لننزل .ها قد وصلنا إلى وادي العقيق ". وخنقتني الغصة؛ إذ وجدتني أقف في شارع إسفلتي كئيب يشقّ مساحات ترابية أشبه ما تكون بالصحراء، ومنازل خرسانية مبعثرة على جانبه ولم أر ما يدلّ على أنّ المكان كان واديًا ذا ضفاف خصيبة ، وصحتُ لحظتئذٍ بملء صوتي، ورغبة في البكاء تلحّ عليّ : لمَ لمْ تعد تمطر السماء؟. فلم يجبني سوى رجع الصدى . آنذاك، تذكّرتُ عنوان مجموعة وفاء الطيب القصصية ( معاناة عقيق أحمر ) وكنت وقتئذ لم أحظ بقراءتها بعد، و تساءلتُ : هل كتبَتْ وفاء في مجموعتها قصةً عن معاناة وادي العقيق ؟."هذا هو قصر عروة بن الزبير" التّفتُّ إلى حيث أشارت المرشدة بإبهامها، فرأيت بناءً عتيقًا ضخمًا، تهدَّم بعضه، وبعضه لا يني يتماسك كعزيز قوم ذلَّ . هاهي أطلال قصر التابعي الجليل عروة بن الزبير؛ أبوه الزبير بن العوّام حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اشتهر عروة بصبره على البلاء؛ ففي حادثة خلّدَها التاريخ ذُكر أنَّ ساقه أصيبت بالغرغرينا، ولم يجد الأطباء لها علاجًا سوى بترها؛ حتى لا تسري إلى بقية جسده فتقتله، فبتروا ساقه . ثم أتاه خبر موت أحب أبنائه إليه في نفس اليوم فقال:" اللهم لك الحمد وإنّا لله وإنّا إليه راجعون , أعطاني سبعة وأخذ واحداً , وأعطاني أربعة أطراف وأخذ واحداً , إن ابتلى فطالما عافا , وإن أخذ فطالما أعطى , وإني أسأل الله أن يجمعني بهما في الجنة". وقد حزّ في نفسي أن بيت عروة محاط بسياج خفيف متهالك تستطيع القطط والكلاب أن تدخل من خلاله وتخرج بكل يسر وسهولة ، وانقبض قلبي حين دخلنا إلى البيت الذي تساقطت كثير من أحجاره وتصدَّعت جدرانه، وهوى جزء كبير من سقفه؛ حتى أنني خشيت أن يتداعى على رؤوسنا ، وصعدت درجًا اندثرت جلُّ درجاته وغدا شبيهًا بمنزلق ترابي وبغتةً، رأيت على بسطته عروة بن الزبير شيخًا طاعنًا في السنّ، متكئًا على عصًا غليظة، والريح تعابث شعره الأبيض ولحيته الطويلة؛ يرنو إلينا ونحن نتجوَّل في بيته. قلت له :"أنا امرأة من المدينة أتيت لأرى بيتك"، ثم أردفت في ارتباك:"اعذرني أيها التابعي الجليل ...والله لم أعلم أن لك بيتًا في المدينة"، فزوى مابين عينيه، وأشاح بوجهه عني، وعلَّق معاتبًا "تعرفين كل أسواق المدينة ومتنزهاتها، ولا تعرفين أن لي بيتا فيها!"فطأطأتُ رأسي خجلًا وخيبةً وشرعتُ أُعِدّ أسئلةً لأطرحها عليه، لكنني حين رفعت رأسي وهممت بالنّطق رأيت وميضًا في عينه ولم أتبيّن :أكان دمعةً أم قطرةً من شعاع شمس العصر التي تؤدّ الخطى راحلةً ،ثم نهض من مجلسه وصعد إلى الطابق العلوي ووَقْعُ قدمه وعصاه يخفت رويدًا، وبعد دقائق قليلة، ناديته ولكنه لم يُجب، وهممتُ باللحاق به لكن دون جدوى، وسرح بي الخيال إلى العصر العباسي وكيف كان هذا الوادي خالًا يزيّن وجنة المدينة الحسناء ببساتينه وقصوره، وعندما اجتازه جعفر بن يحيى البرمكي ،وكان من الكرم وسعة العطايا كما هو مشهور، ، وكانت سنة مجدبة، فاعترضته امرأة من بني كلاب وأنشدته:
إني مررت على العقيق وأهله يشكون من مطر الربيع نزورا
ما ضرهم إذا جعفر جار لهـم أن لا يكون ربيعهم ممطـورا
فأجزل لهم العطاء.
وبقيت أغوص في أعماق التاريخ إلى أن نادتنا المرشدة لنغادر إلى جبل أحد. إنّ وَقْع اسم هذا الجبل في نفسي يشبه وَقْع اسم نبيٍّ من الأنبياء، بل شعرت أنني في طريقي لألتقي بنبيّ "هاهو جبل أحد" عن بعد ينتصب شامخًا مهيبًا في عنان السماء، يكلّله مزنٌ أبيض كعمامة شيخ وقور، يضرب جذوره عميقةً في أرض المدينة، لا، بل إن المدينة تضرب جذورها فيه، و من علوِّه المهيب لا يفتأ يتأمل المدينة بمسجدها النبوي المتلألئ بياضًا، ودروبها المشوقة إلى أحضان البساتين، وقلوب تَمَلّكها حبُّ المدينة، وخالط شغافها. لا أعرف بالضبط ماذا حلّ بي عندما خفق قلبي تعظيمًا له فتضاءلتُ حتى غدوتُ في حجم ذرة رمل، وأضحى كوكب الأرض كرةً لا تتجاوز حجم قبضة اليد، تستظلّ بجبل أحد. ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أحدٌ جبل يحبنا ونحبه" سبحان الله !الجبل يحبّ !،الكتلة الصخرية الهائلة الصمّاء تحب!، لا ليست كتلة صمّاء . إنّ كل مخلوقات الله حية . يقول عزّمن قائل (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء: 44]. وطفقَتْ مرشدتنا تحكي أحداث معركة أحد ،وكيف اختلف مسار أحداثها ونتائجها ،حيث انقلب النصر إلى هزيمة، وسبب هذه الهزيمة المريرة ـ بعد ذلك النصر العظيم ـ هو أن الرماة الذين كانوا خمسين راميًا ، قد وضعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة وأمّر عليهم عبدالله بن جبير ،وقال لهم موصيًا إياهم في شخص أميرهم " انفح عنا الخيل بالنّبل ؛ لا يأتوننا من خلفنا واثبت في مكانك إن كانت لنا أو علينا " هؤلاء الرماة ـ لما نصر الله المسلمين في أول النهار وانهزم المشركون أمامهم، وأكبّ المؤمنون على جمع الغنائم ـ لما رأى الرماة هذا الواقع ثبت بعضهم في أماكنهم وهم القليل ونزل البعض الأكثر متعلّلين بهزيمة المشركين، وأخذوا في جمع الغنائم كغيرهم . ولمّا رأى خالد بن الوليد ـ وهو على خيل المشركين ـ خُلُو الجبل من الرماة وضعف المقاومة منه، كرّ عليهم بخيله ، فاحتل الجبل وقتل من فيه ، وأصلى المشركون المسلمين نار سهامهم، وعاد المشركون الفارّون إلى المعركة، ووقع المسلمون بين نارَين فكانت الهزيمة ) (1) . وأشارت المرشدة إلى جبل الرماة فقدحتُ زناد الخيال، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل في بداية المعركة " من يأخذ هذا السيف بحقه ؟" (2) فيسأله أبو دجانة "وما حقه يا رسول الله ؟" فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم " أن تضرب به العدوّ حتى ينحني" فيعطيه إياه، فيلفّ أبو دجانة عصابته الحمراء على رأسه، ويمشي بين صفوف الجند مختالا. أرى أبا بكر، وعمر، وعلي، ومصعب ابن عمير، وحنظله (غسيل الملائكة)، وأبو طلحة الأنصاري ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ يستبسلون في القتال في سبيل الله، وملء سمعي صهيل الخيول، وصليل السيوف، وطقطقة الحجارة، وصراخ الجند، وهتافهم، وملء بصري بريق السيوف، وعجاج الغبار الثائر في المعركة. أرى الصحابية أم عمارة حين انهزم المسلمون، تنافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، وترمي عن القوس... غير عابئة بجراحاتها النازفة الغائرة، وفي هذه البقعة يصلّي المصطفى صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد، وجثمان عمّه حمزة بن عبد المطلب بين يديه، وكلما صلّى على شهيد، صلّى على حمزة، حتى صلّى عليه سبعين مرةً، بعدد الشهداء، والحزن يهصر قلبه على فراقه . هنا تُفتَح أبواب الجنان للشهداء، وتُسرَج قناديلها، هنا ترتصّ الملائكةُ صفوفًا لانهائية، وتجلّل المدينةَ بأجنحتها، و في لجَّة تلك المعمعة رأيتني عند بوابة فلسطين أمتطي جوادً وأمتشق سيفًا، وفي جسدي تسري طاقةٌ خارقةٌ، وحولي جيوش المسلمين تحتشد، فانضويتُ تحت لوائها، وجلجل في الكون هتاف ( الله أكبر )، واحتدمت المعارك على امتداد مدائن فلسطين، ودُكَت مغتصبات بني صهيون، وتهافتت أعلامهم .عندئذٍ رفعتُ رأسي إلى السماء فرأيت غيومًا مربَدّة، ومالبث الرعد أن قصف ودمدم فارتجّت الأرض تحت قدميّ ارتجاجًا تحطّمت له أقفالُ المعتقلات والسجون، فانطلق منها آلاف الأسرى والمعتقلون صوب المسجد الأقصى مهلّلين، ثم انثعب الغدق من مزاريب السماء يغسل الأرض من أدران يهود، وألفيتُ كلّ ما حولي يطهر، يضيء، يزهو، يزكو، يسمو... فركضت فرحة أغتسل بماء السماء، وشيئًا فشيئًا استحال المطر رذاذًا وياسمينًا يغمر الأرض على مد البصر، ثم سكن وانقشعت الغيوم، وطلعَت شمسٌ بكرٌ أضاءت الأكوان في يوم كأنه أوّل يوم في عمر الخليقة . خطوتُ صوب الحافلة وأصابعي تقبض على بعض ياسمين ومطر، بَيْد أنني حين صعدت إلى الحافلة، لم أجد بكفّي سوى يد حقيبتي وهاتفي المحمول الذي كنتُ أصوّر بعدسته .شرعتُ أهزج بصوت خافت " غدًا نلقى الأحبّة محمدًا وصحبه " وطرفتُ إلى الشمس فإذا بها تودّع حافلتنا الأسيفة، وعتمة المغيب تؤجّج شجني على فراق النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه . كان آذان المغرب ينداح في سماء طَيبة مكفكفًا دموع قلبي، وكلما دنت الحافلة من مسجد قباء، أيقنت بوشوك انتهاء الرحلة، وما إن توقفت الحافلة عند المسجد ووطأت قدماي أرض الشارع، حتى انفرط عقد الرفيقات وسارعت كلُّ واحدة منّا لأداء الصلاة، وحالما انقضت الصلاة بحثتُ عنهنُ بين الجموع فلم أر لهنّ أثرًا، فذهبتُ إلى الرصيف الذي توقّفتْ عنده الحافلة، إلا أنني لم أجدها هناك، والتفتُّ إلى البقعة التي أناخت فيها ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ورأيتني أمسك بخطامها، ثم أسير في طريق النّور إلى المسجد النبوي، ويدُ الرسول صلى الله عليه وسلم تربت على رأسي حتى وصل بَرْدُها إلى قلبي، ثم ناديتُ بصوت مختنق : يا رفيقات الرحلة، يا وفاء، هل ذهبتُ معكنّ حقًا، أم أنّه كان حلمًا من أحلام المنام ؟.
بقلم : مريم خليل الضاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) و(2) : 229و225 من كتاب العلاّمة أبو بكر الجزائري ( هذا الحبيب يا محب ) .