يُخبرنا فيصل درّاج:
بعثت ملاحظة عارضة، أصابت عملًا لإميل حبيبي أخطأ النجاح. فبعد روايته [ الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل ] ، التي حظيت بتصفيق واسع، حاول الأديب الفلسطيني، الذي بقي في مدينة حيفا، أن يعطي "متشائله" اسمًا جديدًا: لكع بن لكع .
بنى روايته الجديدة بمواد تشبه ما بنى منه روايته الشهيرة، ارتكن إلى لغة تراثية صقلتها الصحافة، زخرفها بسخرية سوداء، ودعمها بإشارات سياسية، تخز العرب ولا تقتصد في هجاء الاحتلال الإسرائيلي. غير أن ما سعى إليه ضلّ طريقه، ترسّب في محصول فقير، عاينته مع الأردني غالب هلسا بلا إعجاب كبير.
سألني هلسا بنبرة متلكئة كأنها لتلميذ خجول: هل قرأت عمل إميل الأخير؟ أجابه وجهي بنفي بلا كلمات، وردّ بكلام موجز: " قلّد ما كتبه ولم يحسن التقليد ".
تشاركنا الرأي في حوار مشترك، اقترحته جريدة السفير اللبنانية، في أوائل عام 1978م، أوحى بتواطؤ موتور ضد أديب فلسطيني ذائع الشهرة. لم نكن ندري، حينها، أن نقدًا محدود الكلمات يمكن أن يستدعي غضبًا لافحًا..
ظهرت بدايات الرد في مجلة الجديد، التي كان يصدرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح بلغة تلك الأيام بكلمات من نار بلا نور:" البرجوازيون الصغار يهاجمون رفيقنا في بيروت"؟ كان هذا عنوان مقالة كتبها المؤرخ الرصين الدكتور إميل توما. كان "الإميلان"، كما كان يقال، عضوين في الحزب الشيوعي.
صدّ الرفيق المؤرخ الهجوم الذي وقع على الرفيق الروائي، اعتصما بحبل "الطبقة العاملة"، وواجها طبقة ضالة تدعى: البرجوازية الصغيرة. بدا المؤرخ اللطيف، قاضيًا عنيف الإدانة، ينكر على الذين هاجموا رفيقه معرفة الأدب والنقد، وبدا الرفيق الروائي مبدعًا معصومًا عن الخطأ، تضمن حزبيته إبداعه القويم.
ما ترسّب في الذاكرة لا يعود إلى "برجوازيين صغار"، تطاولوا على النقد الموضوعي وهم يتطاولون على رفيق روائي، ولا إلى خلاف أدبي يدور بين الرذيلة والفضيلة، بل عاد إلى ظاهرة: ( القبيلة الحزبية ) ، التي إن اشتد غضبها دعت إلى معايير قبلية في الكتابة والقراءة، واستنفرت أفراد القبيلة للإجهاز على خصومها.
لم يتبقّ، تقريبًا، رفيق يحسن الكتابة، أو لا يحسنها، إلا شارك في "معركة الحق"، مسلحًا بتهم جاهزة، تبدأ بالعماء الفكري والسياسي وتنتهي بالتآمر على الأدب المقاتل، حتى اقترب عدد المشاركين، من فلسطينيين وعرب، من العشرين أو جاوز ذلك.
قال لي هلسا ببراءة لازمته حتى رحل: ( ألا ترى معي أن الرفاق يشخصنون الحقيقة، ويختصرونها في أدباء حزبيين؟ لماذا يساوون بين الاختلاف و"الشذوذ"، ويسرفون في الاتهام حتى تعييهم الكلمات؟).
ارتكن الاتهام في تلك الواقعة إلى "معايير جماعية في النقد والإبداع"، وإلى نبذ المفرد والتفريد والاحتكام إلى "واحد مجهول"، يباركه تعميم، هو تجهيل، لا فرق إن كان "الواحد" معمّمًا، أو حاسر الرأس، يطمئن إلى "مادية جدلية" مفترضة، أو إلى اتّباع موروث يجهض المفاهيم الحديثة، التي يدّعي الانتساب إليها.
يُتبع..