(الجزء الثاني)
كتبت في الجزء الأول عن الصورة الشعرية في نصوص الأمير بدر بن عبدالمحسن وكيف استطاع بخياله الخصب وحدسه
الدقيق أن يستجمع تلك الحزم الضوئية للأشياء من حوله بومضاتها وبريقها وتداعياتها النابعة من دلالات وإيحاءات
ليضعها في قوالب شعرية تجسد المرحلة الفنية التي وصل إليها وقدرته الإبداعية في تفجير اللغة لتتشظى بسياق لغوي
مليء بالإيحاءات الجديدة والأخيلة المبتكرة، وها نحن نتتبع مسارب الضوء ومنارات الإبداع من خلال بعض الصور التي
شكلها من عالمه الذاتي وتبلورت في رؤى وانفعالات على السطح الخارجي من خلال النص، مشعلاً وهجاً حضورياً فاعلاً
في أركان البناء الشعري.
وفي حضور وحبور آخر من نص (اغفر لي الزلة) نشاهد صورا شعرية باذخة الروعة والجمال مطلقا لخياله حرية الرحيل مع
دفقاتها والشفافية في أبعادها فيقول:
ظلال العاشق جروحه ومن ما يتبعه ظله
أمانة يا شعاع الشمس لا تغضب من ظلالي
لكل عاشق جروح وهي الظل الملازم له ويتفيأ به ومن ذلك الذي لا تتبعه جروحه، فلا تغضب من جروحي أيها الشعاع
المشرق على قلبي، فلنعيد تكرار هذا المشهد مرة أخرى مع أنفسنا (ظلال العاشق جروحه ومن ما يتبعه ظله).
وفي مشهد شعري آخر يصور لنا البدر بأسلوبه المتقن وأدواته الفنية الماهرة من نص (أنت المزين):
شبي الونس واملي الهبايب بالاصوات
وعدي ضواري وحشتي عن ضلوعي
شبي وأحيي الفرح والأنس والسعادة وأوقديها يا حبيبتي وأطلق أصواتك لتملي (الهبايب) أجوائي وروحي بصوت يبعث بها الهدوء والاطمئنان واطردي وبددي سباع الوحشة الضارية عن قلبي الوجل الحزين.
فكانت في هذا البيت ثلاث صور شعرية جزئية (شبي الونس) (أملي الهبايب بالاصوات) (عدي ضواري وحشتي عن
ضلوعي) تتداخل في حالة ومناخ ورؤية واحدة وتتناغم وتتجانس في أنساقها وتتناغم في سياقها وهذه تنم عن
الهندسة الشعرية والأدوات الفنية التي يمتلكها الأمير بدر بن عبدالمحسن في تجربته.
وفي اللقطة التي تليها يجسد البدر ما يشعر به في هذا البيت:
روحي خلا.. سكانها خوف وسكات
وليل ملا قلبي.. ظلامه يروعي
(روحي خلا) خالية من الحركة والحيوية التي تبعث الدفء والأمان (سكانها خوف وسكات) ويسكنها الصمت الكئيب
وتلتصق بها الرهبة المزعجة، فكانت هذه الصورة التي التقطها من الواقع وأعاد صياغتها مقتصدا للمعاني بها مبتعدا
عن الترف المبتذل الذي لا يخدم المعنى والنص عموما فلنكمل بقية المشهد إذ يقول: (وليل ملا قلبي).. الليل.. الهم والحزن
بدياجيره الحالكة ووحشته المفزعة فنجد هنا أيضا تزاحم الصور التي تغري الحواس وتبهر المشاعر في طريقة رسمها
فنيا بإيجاز وإعجاز ويمضي بنا قدما نحو الأسى الذي تغشاه والألم الذي انتابه في لوحة أخرى لتبيان وتصوير الحالة
النفسية والشعور الحزين الذي ألمَّ به.
ما هوب صدري.. ذي مداهيل الآهات
وما هوب جفني.. ذي مقابر دموعي
فأصبح صدري هذا الذي ترينه مكانا ومطرحا للآهات والزفرات حتى جفني الذي تشاهدينه أصبح مقبرة للدموع التي
تسجى به ولا تخرج فالدموع عندما تسكن المآقي يكن بكل تأكيد النزف في القلب وهذا كناية عن شدة الكمد والحزن
فأطلقوا لنظراتكم التأملية العنان في هاتين الصورتين (مداهيل الآهات، مقابر دموعي) وفي مشهد شعري جديد من
خلال نص (شديد الرمل) وقصة يرويها ويصورها البدر ببؤرة حدسه حيث يقول:
ليلة شديد الرمل.. جتنا ركايب
من الشمال وبركت بين الأيام
في تلك الليلة التي عزمت أحلامنا وآمالنا (الرمل) على الرحيل أتت من الشمال جمع من الأحزان ولآلام (ركايب) جموع من
الأسى والهموم لتقيم بين ساعات أيامي وفي لحظات عمري ونكمل المشهد سويا بصور رائعة بإيحاءاتها ورموزها
بكل ما تحمله من توق ومتعة ذاتية وتفرد جميل حيث يقول البدر هنا:
طوي التراب وشل فوق النجايب
والجو ثارت به معاصير وعسام
(طوي التراب) الهيئة التي كنا عليها سابقا.. (النجايب) الوقت فأصبح (الجو) الحياة سوداوية وفوضى تجتاح ذلك الهدوء
السابق.. فيتوالى المشهد ونصل إلى منحنى آخر منه موجها الخطاب للطرف الآخر:
علمي بوجهك ف اسود العج غايب
والريح تدفعني وانا ما لي اقدام
فكان آخر عهدي بك تلك اللحظات قبل الرحيل وما يصاحبها (أسود العج) من أحزان وحرقة وألم (والريح تدفعني).. القدر
(وأن مالي أقدام) لا قدرة ولا حيلة أمام المكتوب، تصوير متقن وبطرح واع وكأننا مع الحدث وبه لدقة تفاصيله ورقة
ألفاظه.
لولا الشجر.. شدت غصونه نهايب.. جلدي وثوبك قلت أنا وأنت الأوهام
(الشجر) كل ما هو جميل مثمر (جلدي) الصبر (ثوبك) الوفاء فلولا الصبر والوفاء أمام هذه الأقدار لكنت أنا وأنت ضمن
الأوهام بالفعل لا خيمة.. لا طنب لا صوت شايب.. لا صرخة.. لا طفل لا كحل وزمام
نلاحظ هنا كيف يستخدم البدر المفردة التي تكتنز في قاموسه اللغوي لتعبر وترمز عن حالة أوصفة للموقف يمر به
(لا خيمة) المكان الذي يجمعنا (لا طنب) لا يوجد ما يثبت به صبرنا وجزعنا (صوت شايب) حتى الذكريات القديمة حرمنا منها
(لا صرخة) لا بوح لأنيس أو جليس لا طفل لا كحل وزمام لحظات اللقاء البريئة وما تحمله من جمال وفرح.. (الزمام) الحلية
التي تضعها المرأة في أنفها للزينة.
صورة تلو الأخرى تشدك في مدلولاتها وتبهرك في إيحاءاتها ورموزها وتسمو بك حيث الذائقة وحيث الشعر الحي الذي
يجعلك في تزامن انفعالي وتوغل حركي معه وبه متصلا بالحالة العامة للنص وملتصقا بعلاقة حميمة مع المشهد فلنكمل
سويا بقية الصور الشعرية في هذا النص حيث يقول البدر:
طاح الرواق وطاح حلم الحبايب
لا ناي في روحي غدت روحي حطام
(طاح الرواق) كل مكان نستتر به عن وجيه الخليقة من مواعيد وشوق ووله (وطاح حلم الحبايب) سقط على أرض الواقع
المر (لا ناي في روحي) صوت للسعادة يبعث الراحة والهدوء فأصبحت روحي حطاما بالية بسبب ذلك الرحيل والنوى،
فنان يرسم من اللغة جنان فتعشوشب الدهشة في نفوسنا للبحث عن المزيد في رضاب فكر هذا المبدع الممتع:
ما غيرها ضلوعي في صدري حطايب
وشم الجروح اللي بكبدي من العام
فلا يوجد بصدري سوى هذه الضلوع التي أصبحت حطبا لنار حزني ووشم لتلك الجروح التي أتحسسها بكبدي منذ عام.
إن كان ذا قبري ف ابي له نصايب
قبر الورق خلوا شواهده الاقلام
يا معمر الدنيا عمارك خرايب
ما حد ورث جدرانها غير الأيام
أيها الراكض خلف هذه الدنيا ولاهث في بنائها ستموت غدا ويرث ما خلدت الزمن فقط.
العمر شدة والليالي ركايب
والرمل يمحي الرمل والموت قدام
(العمرة شدة) رحيل نحو الآخرة (شدة والليالي ركايب) والليالي الراحلة التي نمتطيها قدما في هذه الحياة فتسير بنا
نحو اليوم المحدد الذي كتب لنا الموت به (والرمل يمحى الرمل) والأحداث يطوي بعضها بعضا وتزيل اللاحقة منها السابقة
لها حتى نصل إلى لحظة الموت التي أمامنا وتنتظرنا.ومن نص (رسالة من بدوي) نقف أمام مشهد آخر تتفجر اللغة من
خلاله وتتزاحم الصور والمعاني في أبياته:
يا بنت أنا للشمس في جلدي حروق
وعلى سموم القيظ تزهر حياتي
أنا بدوي.. ثوبي على المتن مشقوق
ومثل الجبال السمر صبري ثباتي
ومثل النخيل خلقت أنا وهامتي فوق
ما عتدت أنا أحني قامتي إلا فصلاتي
(يا بنت أنا للشمس في جلدي حروق) على الرغم من هجير الشمس وحرارتها العالية التي تركت ندبا وحروقا على جلدي
إلا أن قلبي أبيض صاف لم تغيره ظروف أو تحده مطامع فهنا ترف حسي وانزياح معنوي نحو السمو وفي فضاء صاف
نقي مرتبط بالروح وصدى للبوح وفي الصورة الثانية يقول:
(وعلى سموم القيظ تزهر حياتي) فالذات مرتبطة بالصحراء بعيدا عن الملذات والنفس راضية قانعة تبحث عن الهدوء
والاستقرار النفسي (أنا بدوي.. ثوبي على المتن مشقوق) لا برتوكولات ولا تنعم فالعرض مستور والضمير واضح صادق
والنفس غنية أبية و(مثل الجبال السمر صبري ثباتي) على الرغم من هذه القسوة وشدة المحن وقلة الحيلة إلا أنني صابر
لا تهتز لي مشاعر ولم تنهار بي أحاسيس ثابتا كتلك الجبال الشامخة أمام الريح (ومثل النخيل خلقت أنا وهامتي فوق)
نفس شامخة وروح أبية (ما عتدت أنا احني قامتي إلا فصلاتي) فلا خضوع ولا خنوع إلا لرب السموات والأرض. بيت غني
بإيحاءاته ودلالته ونص تشرق الصور في فضائه
ونختار من نص (ذليل الدمع) هذه الصورة.
أنا الحطاب في قاع جرد ما به شمع وغصون
حداه البرد والليل الطويل وشب في فاسه
كنه فنار لاح في عين ملاح، هذه صورة من نص (زل الطرب) الذي صور لنا البدر حالته الداخلية وما يكمن في قلبه من شعور حيث يقول:
كنّك تدق القلب.. دقك على الدف
عسى الضلوع توقي القلب لا طاح
نورك دعاني عندك الشوف وقف
كنه فنار لاح في عين ملاح
ومن نص (ذهن الورق) كان للشفق حضور بأول اليوم وآخره ونختار بعض الصور الشعرية في هذا النص
أول اليوم عانقت الشفق وآخر اليوم عانقني شفق
وهذه الصورة الأخرى:
اقطع الليل لديار النهار
واغسل الدمع من شط العرق
وهنا من نص (مع السحاب) يبلل هذه الصورة الشعرية التي تسيل شمس الإبداع خلالها:
جهي مطر دمع السحاب المجاهيم
سود العيون اللي انتثر وبلهنه
رمح الشمال اللي طعن مهجة الغيم
شق السحاب وسالت الشمس منه
ساعة غشاني دمعها كنه الديم
دب الوجل في المهجة المرجهنة
ومن نص (ديمه) تنهمر الصور كانهمار مطر على صدر الثرى:
عشق جمع ما بين قاع وغيمه
فيض على صدر الثرى دمع الأمزان
فكلانا بحاجة للثاني كما تنتظر الأرض كرم السحاب المغدق (فيض على صدر الثرى دمع الأمزان) فهطلت تلك الغيمة
منهمرة ومبللة سطع الأرض وكأنها محاجر العيون التي تنزل الدمع على صفحة الخد.
همس النديم.. اللي يعاتب نديمه
صوت المطر.. كنه تعاتيب خلان
فصوت المطر المتساقط كأنه صوت حبيبين يتهامسان بعتب ولوم
فالغيم وهطول المطر على الأرض وصوت المطر عندما يلامس الأرض يتكرر علينا هذه المنظر دائماً ولكن ربطه بهذا المعنى
وتوظيفه بهذه الصورة هو الذي أعطاه بعدا آخر وإيماءة جديدة وهذه رسالة واضحة من البدر أن الشاعر ليس ناقلا
للمشاعر والأحاسيس كما هيا أو كما سمعه وحفظه من الغير بل يجب عليه إضفاء الإيحاء والرمز بتلك الصور الشعرية
مجسداً مشاعره بالرؤية التي يراها والرؤية التي يؤمن بها.
جريدة الجزيرةالاربعاء 12 محرم 1428
http://www.al-jazirah.com/81165/tr2d.htm
آخر المشاركات
03-06-2007, 05:20 PM
الصورة الشعرية في نصوص الأمير بدر بن عبدالمحسن (الجزء الثاني )
العرض العادي
