أُدعى حسبك حسيب الله، هذا هو اسمي في الحقيقة، إلا أن الجميع لا يُناديني إلا بالعَرَّاب، وهي صفة التصقت بي من حيثُ أدري أو لاأدري، لا أهمية لذلك.
فإنّ هذا اللقب ألتصقَ بي ببساطة، بعد توغلي بتلك الهواية التي مارستها منذ الصغر، تلك الهواية التي أصبحت حرفة أقتاتُ منها قوت يومي، بل إنها فتحت أبواب المجد، والشهرة، وبأن أكون أحد أشهر أغنياء العالم، ولا تُصدقون ما أقول! فإنها أحلامُ الفقرِ ليسَ إلا.
في عالمنا العربي لا يوجد من يهتم بتقديم الأشياء المميزة لأنها مميزة، إنها تقدم لغايات شخصية ليسَ إلا، كمثل الذي يُحسن لكي يُقال عنه أنه أحسن، وعلى مثله نقيسُ أموراً كثيرة.
زرعت بداخلي أشياء كانت كفيلة بأن أكون ما أنا عليه الأن، كالرهابِ من الشهرة، أو الصعود على منصةٍ ما، مخاطباً الجمهور، أذكر أنني حاولت ذات مرة أن أبرز بإذاعة المدرسة، فما أن تمثلت أمام مكبر الصوت، وأمام مدير المدرسة، والأساتذة، والتلاميذ، حتى تصببتُ عرقاً، وانتفخَ بطني، وكادَ أن يُغمى عليّ، لولا فضل الله بأن سخر من يحملني على أكتافه فوراً يواري ما جئتَ به عن الأنظار.
حالة انتفاخ البطن هذه دائماً ما تُسبب لي الحرج الكبير، فأنا مُصابٌ بالرهابِ من أشياء كثيرة، فالصدام الجماعي أيًّا كان، سيكون سببا لأسباب أخرى، وهكذا دواليكَ وإليكَ ما إليكَ، ولو نظرت إلى تأمل النساء فإنّهُ يكون سبباً أيضاً، أرى الرجالَ يُحدقون إلى النساء، وأعتبني كيف أنظر إلى نون النسوةِ فقط في حياءٍ تخجلُ منه الأحياء، ومن وراء الأسورة أُخاطبهنَّ وأبتسم، شعرتُ بلغة الاتصال الفكرية، فهيَ تُلهمني أشياء كثيرة، وكثيرة هيَ الأشياء التي لا أذكرها.
الأماكن العالية تُصيبني بالهلع، ولذلك حُرمت من الكثير بسبب هذه الحالة التي أنا فيها.
العزلة منذ الصغر أفادتني دونما علمٍ مني، أدركتُ هذا فيما بعد بأنني كنتُ أتأمل الأشياء بمبالغة شديدة، حديث الناس وحركتهم، مقاصدهم ورغباتهم، لذلك كنت أتفوق دراسياً لكثرة التدقيق في الأشياء.
وحينَ نفضَ العمر أعباء عمري الحالي، أجدني كحالي ما تغيّرتُ، أوهمتُ بأنني تغيّرت ولكنني واهم عابث ليسَ إلا، وسأضحكُ هنا لأنني عرّاب وهكذا أظنني، فإنني اكتشفتُ بأني أتيتُ بالمجازي من التعابير، تلك المعاني التي تؤدي إلى معاني أخرى، واسعة الأفق، تنداحُ أخيلة فوق الجنون، ولربما الجنون هو اكتشافي بالتأكيد، ولا بدَّ لي أن أقول بأنني أهذي، لأن من يشاهدني الأن سيقول عافاكَ الله مما ابتلاك، وستقول إحداهن إنَّ حالتي كمن اقتنى موبايلاً جديداً ثم راحَ ينتقل بين النغمات ويحتارُ أيها يختار.
موبايل، جوّال، تلفون، هاتف، أيهما أختار لصياغة مليئة بالفذلكة الكتابية، أخترتُ الموبايل، لأنّه موبايل، أو لأقول مو بايل، أو ليسَ بآيل للسقوط، ألم أقل بأنني أهذي، فلماذا أُتابع إذن!
سأحتجُّ بأنني مهموم، أنفض عنّي الهموم بالجنون، هكذا أظنه التعبير الغازي لقلمي هذهِ الساعة، دونكم عني، لكي لا أكتشفَ مواهبكم الإغريقية، ولكي تكون العبارة مسجوعه، سأردد أفريقية، فقط لكي تتفق المعاني بياناً، وسحراً، وعنفواناً، ولا تسألوا عن معانيها، لأنني لا أعي مقاصدها، لأنني لا أدري أيُّ معبدٍ تتعبّدُ فيه، ولا أدري إن كنتُ أدري أصلاً.
سأتنفس الصعداء، وسأعودُ للطفولة، لتلك السنة الأولى دراسياً، وسأردد وراء الأستاذ، ألفٌ باء، تاء، ثاء، ..... ، ياء، لكي يصفق لي الأستاذ براحتيه المليئة بغبار الطباشير، ويقول لي: ممتاز، ممتاز يا شاطر، ولعلني أقف عند الطباشير قليلاً، إن كنتم تذكرونها، فأنا أذكرها جيّداً، إنها أداة فعّالة لصناعة العرّاب بداخلك، ستجعلك تكتشف الأحرف، واللغة، والأسماءَ كُلها.
آهٍ، لقد تعبتُ من قهقهة الكتابة، من قرع فصول الرتابة، وآهٍ، لقد تعبتُ من إيقاعات الأمل بداخلي، لقد تعبتُ من أحلامي الوردية، وآهٍ، لقد انفكَّ العقدُ الفريدُ من ذاكرتي، من نفسي المُتصاعد تارةً، والهابطُ تارةً أخرى، وآهٍ، لقد تعبتُ من محاولة اكتشاف النجاح، وأسألُ عنه هل هو موجود أصلاً، وأينَ دارهُ التي أفنيتُ الدجى إذلالاً لكي أصل إليه، بلا جغرافيا أعلم مدارجها، ومسالكها جيّداً، وبلا نجمة شمالٍ أقتدي بها، وبلا أراضٍ أو بحار أعلمُ بأنها موجودةٌ في الحقيقية والواقع.
ألم أقل بأنَّ العرّاب صفة ملاصقة بي، تجعلني أكتشف أشياء، وأشلاء لا وجود لها، ولهذا هذا هوَ اكتشافي الأخير، بأنني فاشل، ... لا وكلا، ... بأنني ناجح، ... ولا هذا ... كلا، بأنني مخفيٌّ عن الحياة، ... هو ذا، فيالي من مبتكرٍ سيخلّد التاريخ اسمي، في مساحات فارغة بينَ الأسطر.