كثيرا ما تناولت البحوث الأدبية والدراسات الخاصة بالشعر مستوى التميز في شعر عدد من رموز الساحة الشعبية وقد كان التركيز في الغالب الأعم على جماليات القصائد ومستواها الفكري والإبداع فيها وفي الحديث عن الشاعر محمد بن لعبون تم التركيز على عدد من عناصر تميزه مثل تجديده في البحور وتناوله لفن معين من الشعر بوفرة كالغزل لكني سأتناول شعر ابن لعبون بطريقة مغايرة جدا من حيث تسليط بعض من ملامح قصيدة النثر على شعره
1
قصيدة النثر تؤمن أن الصنعة داخل الشعر هي من علامات عصر انحطاط الشعرية.
فنجد أن الشاعر الجميل محمد بن لعبون لا نقول أنه ابتكر الوزن اللعبوني ( الرمل ) بل أعاد اكشتافه وخلص القصيدة الشعبية من استعمار البحر المسحوب الذي احتلها طيلة احتلال الدولة العثمانية للوطن العربي وأحيانا الهلالي لكن ابن لعبون جاء في فترة من الشعر والابداع وأدهش السمع بأن هناك بحورا أخرى غير المتداولة وكأنه يقول ففي الشعر أبدال وفي البحر راحة.
حتى أن المتلقي سواء المختص والعامة أطلق على بحر الفنون إسم البحر اللعبوني نسبةً إليه على اعتبار أنّه أول من نظم على هذا البحر وقد يكون هذا صحيحاً فالمعروف عن هذا الشاعر الفذّ أنه ابتكر الكثير من الألحان الشعبية المشتقّة من البحور الأصلية
ومن هذا المنطلق تتجلى فصاحة الشاعر وسبقه غير المسبوق في تجليات قصيدة النثر فيما طرح من غير ان يخرج عن العباءة العامة للشعر في الجزيرة العربية
إلى ذلك فإن ابن لعبون قام بإدخال مفردات وصور بلاغية أجمل وبأسلوب رشيق جدا في مسألة الابتداء بالقصيدة الشعبية والتي كانت كأنها خطبة جمعة حيث تبدا بالحمد والبسملة ( ولست ضد ذلك ) حيث كانت الجماهير الغفيرة والأمم العربية الشاعرة لا تكاد تتخلص من هذه الصفة لاعتبار الوازع الديني ربما او التقليدية من جهة أخرى لكننا وجدنا أن ابن لعبون يبتدئها بعناصر نفسية وطبيعية تختصر فلاشات المدخل في القصيدة التقليدية وعناصر الإدهاش فيها منذ اليبت الأول
كما في قوله
يا منازل مي في ذيك الحزوم
قبلة الفيحا وشرق عن سنام
في سراب عن جوانبها يحوم
طافحات مثل خبز في يدام
ما بكت فيها من الفرقى غيوم
من نظير العين الا عن غرام
حقيقة عندما أقرأ هكذا شعر لرجل توفي في 1247 هجرية أتساءل أين يكون له هذا الخيال الواسع في ظل ظروف بيئية وعلمية وجغرافية لم تكن تسمح له من الوقوف على عتبات الابداع حتى .
2
عندما يؤكد البعض أن قصيدة النثر لا يخضع نمط التفكير فيها لقوانين الفكر المعروفة وأحكام المنطق السائد وأن الشاعر يرسم أجواء قصيدته وفق منظوماته الفكرية الخاصة وحسب متطلبات منطقه الخاص و عالمه الخاص الذي لا يضاهيه أحد فيه.
نجد أن ذلك يقع جليا في عدد من قصائد ابن لعبون كما في قوله :
يا منازل مي عن قبة حسن
من يسار وعن قبر طلحة يمين
في ربوع كل مافيها حسن
في ديار كل مافيها حسين
غربن شموسها واغلنطسن
موحشات ما يبات بها امين
انظر كيف تلاعب بالألفاظ والمفردات ما بين حسن وحَسِين وطلحة ويمين وأمين حتى كأنه يتكلم عن شي من السير والشخوص المقدسة وهو يريد منازل حبيبته التي تقع في تلك البقعة العادية من الأرض بل إنه استخدم المباغتة في فرض نفسيته على المستمع وهو يقول :
اطلقت يمناي ملوي الرسن
وبعدت بوصالنا غبر السنين
هبت رياح الحبايب نسنسن
في ربوع كان ماتذرى الطحين
3
قصيدة النثر تعتبر الإيقاع الشعري القديم محرك للجسد الآدمي فقط ولا علاقة له بالجمال الأسلوبي والتخّيلي لكن الشاعر ابن لعبون وفر للإيقاع الشعري الذي يحرك ويطرب وفرة ضخمة في القصيدة الشعبية من الجماليات والأخيلة والمساحة اللغوية قليلة المفردة كثيرة الابداع مثل قوله :
داعجات غانجات لـو تـروم
كنهن في كنهن بيـض النعـام
او قوله
ما عليك إن خلـت بـراق بـرق
من ثنايا دار أهـل وادي العقيـق
قانيـات العاسهـن مثـل الدنـق
زرقـة واجيـاد تلعـات عنـيـق
فإنه يستخدم متعرجات اللغة بدقة واتقان لا عن استعراض قوة أو ماشابه وهذا من عميق استخدامات قصيدة النثر وإسقاطاتها .
4
واعتبر بعض النقاد أن قصيدة النثر تؤمن بكل المستويات الشعرية عبر اللغة وليس عبر الشكل وحيث ان ابن لعبون لم يتعد محيطه العربي بسبب ظرف أو آخر لكن نجد أنه طبق ذلك المبدأ الإيماني من خلال تنقلاته عبر مسقط رأسه حرمة ثم الساحل من البحرين والكويت ثم استقراره فترة في العراق والزبير تحديدا فبدت قصائده مقبولة عند الجميع لما احتوت من مزيج جمل ومفردات شملت كافة أطياف اللون الخليجي .
عبدالناصر الاسلمي
نشر هذا المقال في جريدة الصباح الكويتية بتاريخ 6/1/2012
عبر هذا الرابط