دِرَاسَةٌ في دِيْوَانِ سَادَةِ اللَّحَظَاتِ
للشّاعر السّعوديّ عبدالإله المالك
بقلم د. محمد الحسن ولد محمد المصطفى
أستاذ نقد الشعر والمناهج بقسم اللغة العربية وآدابها
كلية الآداب جامعة نواكشوط ــ موريتانيا
ينتمي الشاعرُ العربيُّ المُتميزُ عبدالإله المالك إلى واحدٍ من أهمِّ أجيالِ الشّعرِ العربيّ الحديثِ في المملكة العربيّة السعوديّة الشقيقة، وهو جيلٌ يمكنُ أن نطلقَ عليه جيلُ التسعيناتِ والألفيَّة.
وإذا كانت اللحظة الشعريّة العربيّة الموازية أو المزامنة للشَّاعر وجيله في سياقات مكانية أخرى تتسمُ غالبًا بالإيغالِ في الحداثة، والتجريب، فإنَّ جيلَ الشّاعرـ وهو ما يعكسهُ شعر الشّاعر بلاشك ـ قد عاد إلى الحصيلةِ الشعريّة الكلاسيكيّة والرومانسيّة كمَرجعٍ، وكمُلْهِمٍ مع ملاحظة خصوصيّة للزمان والمكان، مع توجّهٍ واضحٍ إلى كتابةِ القصيدةِ الحُرَّة على نمطِ السيّاب، ونازك، ودرويش وغيرهم.
لقد كانت منطلقات أجيال الستينات والسبعينات والثمانيات إحيائيّة، لكنها اتسمت إجمالاً بسعي واضحٍ نحوَ الكتابة الشعريّة الجديدة حتى وإنْ ظلت دائمًا تنطبع بخصوصيّة محليّة في حدود التجربة وآفاقها ومرجعيّاتها في التُّراثِ العربيّ الإسلاميّ من خليجه إلى محيطه، وحتى في انتكاساتِها أحيانًا وإخفاقِها في الإستمراريّة والتواصل، أحيانًا أخرى، بخاصةٍ في منطقة الخليج والجزيرة العربيّة وليبيا وموريتانيا، أما بلاد الشام ومصر والعراق وبعض بلدان المغرب العربيّ فقد استقرت قصيدة النّثر على أُسسٍ ركينةٍ كادت تفقد الشعرَ ألقهُ وجمهوره.
ويمثل ديوان (سَادَةِ اللَّحَظَاتِ) للشّاعر عبدالإله المالك، حسب تصورنا ومضات نافذة من رؤية الشاعر وتجاربه الإنسانيّة، وقصة تطور الوعيّ الجمعيّ للمجتمع العربيّ السعوديّ العريق، والتحولات بل الطفرات الإجتماعيّة والإقتصاديّة والثقافيّة التي لم يكن بعضها إيجابيًّا، حيث هزت الإنسان السعوديّ والعربيّ عمومًا وكادت تربك قناعته وكادت تتناقض برغم فائده جوانب منها على نحوٍ لا يخفى على أحدٍ ـ مع تراث هذا الإنسان وتاريخه وحضارته.
حيث ارتبطت كثيرًا بظاهرةِ العولمة، وما سبقها من مطباتِ التحولِ الفجائيّ من البادية إلى المدينة (بسبب الثروة النفطيّة والتطور الإقتصاديّ) وإنعكاس ذلك كلّه في شكل تقلبات اجتماعيّة وثقافيّة طرحت أزمة الهويّة العربيّة الإسلاميّة، والعلاقة بالآخر المغتصب لفلسطين وغيرها من البلاد الإسلاميّة هذا الآخر الذي يهيمن اقتصاديًّا ويتطلع إلى استنبات نموذجه الثقافيّ والاجتماعيّ و الحضاريّ، وقد جسد الديوان مجمل هذه المعضلاتِ و الإشكاليّاتِ كما صور الجوانب الإيجابيّة الناصعة في وطنه من تنمية وتقدم اجتماعيّ واقتصاديّ وثقافيّ وعلميّ..إلخ.
ونجد ذلك على نحو مباشر في قصيدته (تَرْنِيْمَةُ وَطَن)
يقول:
لِمَنْ قبَّلُوْا أَرْضَهَا وَانْتَشَوا
تُطِلُّ عَلى مَهْبِطِ النُّوْرِ شِعْرًا وَنَثْرًا ..
لِمَنْ صَبَنُوا الكَأْسَ حَدَّ الثُّمَالَةْ
يَمَامَةُ تَفْتَحُ أَسْرَارَهَا ثَمَّ لِلْمُدْلِجِيْنَ ..
وَتَنْسِجُ لِلسَّيْفِ لَوْنَ الحَمَالَةْ
وَهَذِيْ عُذُوْقُ النَّخِيْلِ ..
لَهَا فِيْ مَضَاربِ نجْدٍ مَرَايَا ..
تُسَائِلُ مُسْرَجَةَ الْخَيْلِ مِنْ أَيِّ دَارٍ وَأَيِّ سُلالَةْ!
وفي قصيدته (السِّفْرُ الْمُخَبَّأُ)
غَنَّيْتُ بِالسِّفْرِ المُخَبَّأِ مَرَّةً
فكَأنَّني تَحْتَ القرَارِ مَحَارَةٌ..
وَأَنَا الْمُضَمَّخُ بِالوُعُوْدِ وَعِطْرِهَا ..
مُتَنَاثِرٌ مِثْلَ الْحُطَامِ بِبَحْرِهَا..
وَمُسَافِرٌ فِيْ فُلْكِهَا المَشْحُوْنِ
آمَنْتُ بِالأَشْوَاقِ فِي عَيْنَيْكِ حَتَّى أَزْهَرَتْ
وَنَثَرْتُ فِي أَجْوَائِهَا مَا فِي يَدِيْ
مِنْ تَمْرِهَا مِنْ قَمْحِهَا وَالتِّيْنِ
وَوَقَفْتُ فِي أَرْجَائِهَا مُتَوَشِّحًا ..
بِالطَّلحِ وَالصَّفْصَافِ وَالزَّيْتُوْنِ
وَشدَوْتُ فِيْ أَجْوَائِهَا مُتَرَنِّمًا ..
بِالشِّعْرِ وَالأَنْغَامِ وَالتَّلْحِيْنِ
وأحيانا تشف بها نصوصه خلف تجاربَ ذاتيّةٍ أو قصائدَ وطنيّةٍ مثل (لأهلي بعرعر، وجه السماء، سَادَةُ اللَّحَظَاتِ)، يقول في الأخيرة وهي التي يحمل الديوان اسمها:
يَا حَبِيْبِيْ قَدْ ضَاعَ مِنِّيْ سُبَاتِي
فَتَدَارَكْنِيْ آسِرِيْ وَنَجَاتِي
ضَاعَتِ الرُّوْحُ وَالْبُعَادُ قَتَوْلٌ
وَجَنَى الْوَصْلِ غَايَةُ الأُمْنِيَاتِ
كُلُّ مَا فِيَّ بَاتَ يَرنُوْ إِلَيْهَا
خُطْوَتِيْ تَاهَتْ فِي عُيُوْنِ المَهَاةِ
جَسَدَانَا لَحْنَانِ وَالْقَلْبُ طَيْرٌ
إِنَّمَا أَبْعَدَتْ صُرُوْفُ الحَيَاةِ
لا هَوَى الْيَوْمَ بَعْدَ عِشْقِي وَشَوْقِيْ
لا حَبِيْبٌ سِوَاكِ فِي ذِكْرَيَاتِي
الهَوَى لَوْلا وَجْهُكِ الطِّفْلُ ضَاعَتْ
قَسَمَاتُ الْغَرَامِ فِي قَسَمَاتي
يَا حَبِيْبِي هَذا الْهَوى فِي يَديْنَا
وبِهِ نَحْنُ سَادَةُ اللَّحَظَاتِ
وفي قصيدته (الْمُهَلْهِـل)
وَفِيْ مَحْفَلِ الأَقْوَامِ سِرْنَا إِلى الْوَرَا
وَلاهِمَّةٌإِلاَّتَبَدَّىفُتُوْرُهَا
فَسِيْرُواإِلىفَجْرٍتَجَدَّدَعَهْدُهُ
وَمَنْ رَكِبَ الجَوْزَاءَ عَسْفًا جَدِيْرُهَا
وَهَذِيْ تَرَانِيْمِي تَزُفُّ مَلاحِمًا
وَتِلْكَ العَذارَى إِذْ تَزِيْدُ مُهُوْرُهَا
وتبدو في معظم نصوص الديوان ثنائيّة الدهر الجميل الذاهب في مقابل اللحظة المفارقة ويتجلى ذلك في قصيدته (البَلَدُ القِفَارُ) يقول فيها:
أتَرْحَلُ أَمْ لَكَ البَلَدُ القِفَارُ
فَزِدْ وَصْلاً فَمَا فِي الْوَصْلِ عَارُ
أَنَا مَنْ يَرْتَجِيْ فِي كُلِّ حِيْنٍ
خَليْلاً حِيْنَمَا الخِلاَّنُ زَارُوا
سَأَلْتُ النَّاسَ عَنْ بَلَدٍ لِخِلِّي
أَجَابُوْنِي بِأَنَّ الْقَوْمَ غَاروا
أَلا يَا ظَاعِنِيْنَ وَهَلْ رَأَيْتُمْ
حَسِيْنَ الْوَصْفِ يَغْشَاهُ السِّتَارُ
لَهُ مِنْ رَوْعَةِ الْحَوْرَاءِ عَيْنٌ
وَطُوْلٌ لا يُخَالِطُهُ انْكِسَارُ
سَوَادُ الشَّعرِ فِيْ لَيْلٍ عَتِيْمٍ
على حُسْنٍ يُغلِّفُهُ الخِمَارُ
وَثَغْرٌ بَاسِمٌ فِيْ ذَاتِ بَرْدٍ
وَنَاصِيَةٌ تُجِيْرُ وَلا تُجَارُ
كَمَالُ الحُسْنِ مَجْمُوْعٌ إِلَيْهِ
كَمَا جُمِعَتْ بِأَنْجُمِهَا المَدَارُ
أَتَهْجُرَنِي وَقَدْ أَعْطَيْتُ عَهْدِي
إِليْكَ شَرِيْعَةُ النَّاسِ الخِيْارُ
هِيَ الأَيَّامُ حُبْلَى يَا خَلِيْلِي
عَجَائِبُهَا تُحِيرُ ولا تَـحَارُ
يَحَارُ الشَّيْخُ مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ
وَفِيْ أَيَّامِهَا عِبَرٌ تُدَارُ
ولكن اللحظة الذاهبة الدابرة لا تلبث أن تحضر مشتبكة مع اللحظة الرَّاهنة من خلال مستويات متعددة من الأمل تتفاوت النصوص في درجتها وفق خطٍ بيانيٍّ يمثل تصاعد وتنازل (الحلم) في أُمَّةٍ عربيّةٍ تتميز بالقوة والعزة والكرامة، يقول الشاعر عبد الاله المالك في قصيدته:
أَلا أَهْلاً بِمَنْ حَضَروا
لَهمْ فِي القَلْبِ مَا ادَّخَروا
بَدِيعُ الشِّعْرِ لَمْ يَفِهِمْ
مَقَادِيْرًا لَهَا قَدِروا
بَنُو عَمِّيْ هُمُ ذُخْرِيْ
هُمُ فَيْئِيْ هُمُ الْقَمَرُ
وَنَحنُ لَهُمْ عَلى زَمَنٍ
وِئَامٌ لَيْسَ يَنْحَسِرُ
صُدُوْرُ بَنِيْ رُسَيْسَ مَدًى
لَكُمْ وَالنَّفْسُ تعْتَذِرُ
إِذَا مَا الْعُرْبُ تَفْتَخَرُ
أَجَارُوا عَنْ حِمَى كِسْرَى
إِذَا مَا النَّاسُ تَنْكَسِرُ
حيث تتسع القبيلة والوطن نحو أُمّةٍ وتاريخ عظيم مجيد، وهي آمال متحققة بلاشك بفضل ما يوحدها من الدين واللغة والتاريخ يقول في قصيدته تَعَانَقَتِ النُّجُوْمُ:
فَيَا فَخْرَ العُرُوْبَةِ يَا سَنَاهَا
وَيَاسَيْفَ الحَقِيْقَةِ وَالنَّوَالِ
حَبَاكَ اللهُ طُوْلَ الْعُمْرِ حُكْمًا
نَتِيْهُ بِهِ عَلى دَرْبِ المَعَالِي