نبذة عن المذهـب الرمـزي :
يقول جورج صيدح : "إن الرمز هو غير اللغز فاللغز لا يفهم ولا يوحي ، أما الرمز فأنتتفهم إيماءته أضعاف ما تفهم من كلمته ... والإغراق في الإيهام يسد منافذ الجو ، ويخلقأمام القارئ فراغا لا يستحث الفكر ولا يوقظ الشعور"
ويقولالدكتور حامد حقي داود : " ... هذا الرمز والغموض هو ما أشار إليه النقاد العربالقدامى كقول بن سنان الخفّاش : أفخر الشعر ما غمض عنك فلم يعطك إلا بعض ما طلب منه"
1- تعريفالرمزية
أ- لغـة: يعود أصل الكلمة إلى عصور قديمة لا يعرف مداها التاريخي ولكنها موحدة المعنى لدىالشعوب القديمة فهي عند اليونانيين تدل على قطعة الفخار أو الخزف تقدم إلى الزائر الغريبعلامة على حسن الضيافة .
وعندالعرب شرح المعجم اللغوي لسان العرب لابن منظور الرمز بحركات تقوم بها العينان والشفتانلتؤدي معنى خفيا لا يؤدى تأديته باللفظ الصريح .
ب- اصطلاحا: المدرسة الرمزية حركة أدبية ظهرت في النصف الأخير من القرن 19م اعتمدت الرمز لغةوالموسيقى إيقاعا والجمال غاية ومحورا .
والرمزهنا معناه الإيحاء أي التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة التي لا تقوىاللغة على أدائها في دلالتها الوضعية ، بحيث تتولد المشاعر عن طريق الآثار النفسيةلا عن طريق التسمية والتصريح .
2- نشأتها
ظهرتالرمزية في النصف الثاني من القرن 19م وقد اعتمدت في أصولها الفلسفية على "مثاليةأفلاطون" ومنظّرو الرمزية يشيرون إلى أن هذه الحركة تأثرت في نشأتها بالحركة الدينيةوالأسطورية التي قامت في تلك الحقبة ، كما لا يخلو الأدب الرمزي من تأثيرات ومقدماتفلسفية رصدت دوافعه ومن الفلاسفة الذين كتبوا ومهدوا للرمزية كانط المؤثر المباشر،وهربرت سبنسر الإنجليزي مؤسس الفلسفة التطورية .
وإذاما استندنا إلى مثالية أفلاطون فإن الرمزية تنكر الأشياء الخارجية المحسوسة ، ونراهافي الحقيقة رمزا للحقائق المثالية البعيدة عن عالمنا المحسوس .
3- تطورالرمزية وأشهر أعلامها
من حيثالإطار الإعلامي الفعلي فإن نشأة الرمزية في الأدب الغربي الحديث يعود إلى سنة1886م عندما أصدر "مورياس" رسالة أدبية تتضمن تعريفا مفصلا بهذه المدرسةواعتبرت هذه الرسالة بمثابة أول منشور للرمزية وقد صدر هذا البيان في الملحق الإداريلجريدة "الفيغارو" الفرنسية حيث قدم تعريفا بالمذهب الجديد وحدد ممثليه وروادهوهم شارل بودلار "1821-1867" وهو شاعر وكاتب فرنسي ولد عاش بباريس من مؤلفاته"زهور الشرlesfleurs du mal /" وله مجموعة شعريةتعبيرية وترجم قصص لـ"ادغار آلامبو" ، ويعد بودلار الرائد الأول للرمزيةفي فرنسا و "ملارميه" المنظر الحقيقي الذي وهب الشعر معنى الغموض والأسرارالخارقة التي لا توصف أما الثالث فهو "فرلين" لأنه كسر قواعد الشعر المألوفةإلى نوع جديد هو الشعر الحر .
بعدذلك بأسابيع ظهرت مجلة الرمزي lesymboliste في أربع أعداد وقد أوضحت كثيرا من قواعد الرمزية ورسخت اتجاهاتها . ومنأبرز رواد الرمزية خارج فرنسا ويليام بلاك ، ويليام بيتلرياتس من ايرلندا وريزمارياريلكه وإلكسندر بلوك من روسيا أيضا وتوماس ستريس إليوت من أمريكا إلا أنه يحمل الجنسيةالإنجليزية خاصة في مجموعته الشعرية المسماة "الأرض الخراب the wasteland " .
يرىالرمزيون أن اللغة لا قيمة لها في ألفاظها إلا ما تثيره هذه الألفاظ من الصور الذهنيةالتي تلقيناها من الخارج وعلى هذا الأساس تصبح اللغة وسيلة للإيحاء ، كما يرى الرمزيونأن الأدب يسعى إلى نشر الصورة الفنية ونقل خيال الكاتب إلى القارئ كما اهتم أصحاب المذهبالرمزي بالإيقاع الموسيقي في شعرهم ويرون أن الموسيقى وحدها هي التي توقظ في السامعأو القارئ مشاعره العاطفية التي تهز نفسه .
4- خصائصالرمزية
من أهمخصائص المذهب الرمزي::
* انتفاءالواقع والتحري عن الروح في قلبه : فالرمزية اعتبرت الواقع الهادي زائفا في الدلالةعلى الحقيقة وإنه قناع يسترها، ذلك أن الشاعر إذا ما رنا إلى البحر فإنه لا يذكر زرقتهوموجه الهادر وإنما يتخذ البحر مادة للتأمل ، إنه يرنو إلى ميتافيزيقية البحر من حيثغاياته وغاية الإنسان والوجود فيتحول الإنسان البحر والبحر الإنسان كما يقول بودلار:
أيهاالإنسان الحرّ
ستحبّالبحر
البحرمرآة
* الغموض: يشكل الغموض العمود الفقري للأدب الرمزي والمقصود بالغموض ما يخيّم على القطعة الأدبيةفتصبح مقتصرة على ذوي الاحساسات الفنية المرهفة ، فالرمزيون يكتفون بالإشارة إلى الحالةالنفسية الغامضة بوسائل رمزية .
* الإيحاء: إذا كانت الكلاسيكية تنقل المعاني عن طريق العقل والرومانسية عن طريق الانفعال"العاطفة" فإن الرمزيين قد اهتموا بنوع آخر من هذه المشاركة الوجدانية مابين الكاتب والقارئ تقوم على نقل حالات نفسية من الكاتب إلى القارئ وهو الإيحاء ومنهذه الكلمات الموحية : "الضوء الخافت- التموج- الألوان الهاربة-الأنغام- الغروب-الرحيل... " كما أنهم يقربون بين الصفات المتباعدة (السكون المقمر-الضوء الباكي-الشمسالمرة المذاق-القمر الشرس) . كما اهتموا بالألوان من ذلك أن "رامبو" قد جعللكل لون معنى :
اللونالأحمر يرمز إلى الحركة والحياة الصاخبة والقتال والثورة والغضب والأعاصير .
اللونالأخضر يرمز إلى السكون والطبيعة والانطلاق وفكرة المستحيل والخلاص من عالم المادة.
اللونالأزرق يرمز إلى العالم الذي لا يعرف الحدود وفيه انطلاق إلى ما وراء المادة الكونية.
اللونالأصفر لون المرض والشعور بالحزن والضيق والتبرم بالحياة .
اللونالأبيض يمثل الطهر المثالي وهدوء السكينة ويرمز إلى الفراغ والجمود .
اللونالبنفسجي لون الرؤى الصوفية .
* النغمةالموسيقية : الرمزية في نظر "فاليري" هي :" نية عدد من عائلات الشعراءفي أن ينهلوا من الموسيقى" فالموسيقى لا تقرر أفكارا بل تعبر تعبيرا نغميا عمايشعر به الفرد ، وتنتقل هذه المشاعر من المؤلف والعازف إلى المستمع وهذا "بودلار"في ديوانه (أزهار الشر) يكتب مقطوعة صغيرة عنوانها الموسيقى صور فيها الأثر العميقالذي تحدثه الموسيقى :
تأخذنيالموسيقى غالبا مثل بحر
نحونجمتي الشاحبة
تحتسقف ضبابي أو أثير واسع
أرفعالشراع
صدريإلى الأمام ورئتاي منفوختان
كالشراع
ويقول"فرلين " في الموسيقى في قصيدته الفن الشعري : عليك بالموسيقى قبل كل شيءقم بالموسيقى أولا وأخيرا
وليكنشعرك مجنحا
حتىلا يحسّ أنه منطلق من الروح عابرا نحو سماوات أخرى
* تراسلالحواس : فاللمس والشم والسمع والبصر وسائل تعبير متداخلة ومتبادلة فبعضها ينوب عنبعضها الآخر في التأثير النفسي كوصف أحد الرمزيين للون السماء بقوله : "وكأن لونالسماء في نعومة اللؤلؤ" وكقصيدة بودلار الشهيرة مراسلات التي يقول فيها :
ثمةعطور ندية كجسد الأطفال
عذبةكآلة موسيقية
خضراءكالمروج
وهكذاشاهد الشاعر لون الاخضرار في العطر وسمع نغم المزمار ولامسه في جسد الأطفال .
* الرمزيةأدب الصفوة : فهم لا يحفلون بسواد الشعب ويتوجهون إلى الصفوة بحيث يغدو فهم الأدب الرمزيمقصورا على الذين تمكنوا من بعض العلوم الإنسانية كعلم النفس الجماعي الذي شرحه كلمن "يونغ" و"أدلر" وعلم التحليل النفسي الذي اكتشفه وعرفه العالمالنمساوي "فرويد" .
* الإيمانبالصنعة دون الإلهام : وفي ذلك يقول فاليري : "إذا آمن الشاعر بالوحي قتل الإبداع" .
* اللجوءإلى الأساطير : وذلك عندما يصرفون موضوعات إنسانية لها علاقة مباشرة بالفلسفة أو الأخلاق.
وعليهانقسمت الرمزية إلى ثلاثة اتجاهات نجملها فيما يأتي :
- الرمزيةاللغوية : وعملها نقل الصورة اللغوية من نفس إلى أخرى ، ويرى أصحاب هذا الاتجاه وعلىرأسهم "شارل بودلار" أن معطيات الحواس متداخلة أي أن كافة الحواس تستطيعأن تولّد وقعا نفسيا واحدا ، وأن جزء منها ينوب عن الآخر في التأثير النفسي ، ويتضحهذا في وصف أحد الكتاب سماء مغطاة بالسحب البيضاء حيث يقول : "وكأن لون السماءفي نعومة اللؤلؤ" .
- الرمزيةالغيبية : وتهتم بطريقة إدراك العالم الخارجي وبالوجود الذهني الذي ينحصر فيه ويترأسهذا الاتجاه الفرنسي "ستيفان مالارميه " .
- الرمزيةالباطنية : وهي تسعى إلى اكتشاف العقل الباطن وعالم اللاوعي " اللاشعور"
كماذهب البعض إلى تقديم أقسام أخرى للرمزية مثل :
أ-الرمزية الشعرية : ويظهر هذا الاتجاه في الشعر الغنائي والشعر التمثيلي حيث تسعى إلىإحداث حالة نفسية خاصة، والأداة الأولى عنده للفعل الشعري هي "الكلمة" لتصبحواقعا ملموسا تلونها حروفها الصوتية وتصنع فيها الحياة حروفها الساكنة ، فالعمل الأولللشاعر عندهم هو إعطاء معنى أكثر صفاء للكلمات .
ب-الرمزية الموضوعية : حيث يلجأ الأدباء إلى معالجة المشاكل الإنسانية والأخلاقية بواسطةالخيال وبذلك تكون بعيدة عن مشاكل الواقع الحياتي ، فهي ترمي إلى تجسيد الأفكار لإيضاحالحقائق الفلسفية والأخلاقية .
5- أثرالمذهب الرمزي في الأدب العربي الحديث
كانللترجمة التي قام بها عدد من الأدباء ، ولا سيما تلك التي قامت بنشرها مجلات عربيةمشهورة مثل : المقتطف والمكشوف والرسالة والأديب ... أثر واضح في نقل الآداب الغربيةالتي أخذت بأساليب المدارس الأدبية .
وقدمهد لهذه الترجمات الإطلاع المباشر على اللغات الأوروبية والأمريكية إثر الهجرات التيقام بها عدد من اللبنانيين والسورية إلى بلاد الغرب ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
لقدلقيت الرمزية اهتماما من الشعراء العرب وانتشرت على أوسع نطاق . ولم يكن ظهور الرمزيةفي أدبنا خاضعا لنفس الظروف التي نشأت في كنفها الرمزية في الأدب الغربي .
ومنمظاهر ذلك الرمزية الجزئية لـ جبران خليل جبران خاصة في قصيدته "المواكب"التي اعتمدت في بعض صورها على تراسل الحواس كما في قوله :
هل تحممـتبعطـر وتنشـفـت بنـور
وشربتالفجر خمرا في كؤوس من أثير
وفيهانتقال الحس اللمسي "الاستحمام" مكان الحس الشمي "العطر" والحسالبصري "النور" مكان الحس اللمسي "التنشف" والحس الذوقي"الشرب" مكان الحس البصري . وهذا لا يحقق لجبران رمزية كلية .
لقدأجمع الدارسون لرمزية الأدب العربي أن "أديب مظهر" توفي 1928 أول شاعر فيالعربية أدخل شرارة الرمزية الحقيقية إلى اللغة العربية مع قصيدته المسماة (نشيد السكون)وكان يقدّر له أن يبرز إلا أن الموت عاجله وهو في السادسة والعشرين من عمره كما برزالشاعر اللبناني سعيد عقل "1818-1916" مؤسس صحيفة (البرق) وقد قتلته الأتراكنتيجة مواقفه السياسية المتشددة ، وهو من أوائل الأدباء العرب نقلا للرمزية الغربية. كما يرى أن الشعر يجب ألا يخبر بل يؤمن ويوحي ويلمّح وأصرّ على الإدراك اللامنطقيوالحدسي للعالم ، كما اعتبر أن الشعر موسيقى قبل أن يكون فنا فكريا . ومن الرمزيينأيضا: (يوسف غصّوب ، جورج صيدح ، إيليا أبو ماضي) . وبعد سنة 1950 شاعت في الشعر العربيحركة جديدة تنتمي إلى الرمزية من أبرز أعلامها : من العراق (بدر شاكر السيّاب ، عبدالوهاب البياتي ، سعدي يوسف ، نازك الملائكة ) ومن لبنان (خليل الحاوي ، يوسف الخال، أدونيس) ومن مصرأمل دنقل
آسف لبعض الأخطاء المطبعية