لَمْ يبقَ في حجرة الانتظار سوى فتاة آسيويّة تجلس في زاوية الحجرة بجوار كرسي متحرك، تشاهد التلفاز، وامرأتين تجلسان متقابلتين؛ إحداهما استقرت بهدوءٍ في مقعدها تغالبُ النوم، والأخرى تتصفحُ المجلات المكدسة على الطاولة تارة، وتارة أخرى تنهض بخفةٍ وتعبث بمفاتيح جهاز التكييف محاولة تشغيله، ثم تعود إلى مقعدها، بينما تراقب المرأة الأخرى خطاها الرشيقة من خلف جفنيها اللذين أثقلهما النعاس. ارتمت المرأة على مقعدها وصرخت متذمّرة:
الجو حار، والمكيف معطّل.. أُف ! أكادُ أختنق.
أزاحتِ الخمارَ عن رأسها وحلّت الأزرارَ السفليّة لعباءتِها ثم وضعت ساقًا على ساق، وشرعت تهزّ ساقها بسرعة وانفعال.
بدأت المرأة الأخرى تتحسّس بنظراتها السّاق البضّة البادية من وراء زجاج الطاولة التي تتوسطهما، وعندما لاحظت المرأة تلك النظرات الغريبة، أغلقت أزرار عباءتها بانفعال وأشاحت بوجهها عنها؛ فارتبكت الأخرى وابتسمت ابتسامة تجلّي اعتذارها عن تلك النظرات، ثم تظاهرت بمشاهدة التلفاز.
كانت المرأتان تتبادلان بأعينهما سؤالاً مُلحًّا، وبغتةً تساءلتا في ذات اللحظة:
إلى أيّ عيادة ستذهبين؟.
فوجئتا بالمفارقة فضحكتا، وخالجهما إحساس بالألفة.
سألت إحداهما الأخرى:
ما اسمك ؟.
ـ خلود ، وأنت؟.
ـ هيفاء.
قالت هيفاء وهي تمسح العرق المنساب من جبينها:
كنت في السابق أزور العيادة الباطنية؛ لأنني أعاني من القولون العصبي، ولكن عندما افتتحت عيادة نفسيّة في المستشفى أصبحتُ أتردد عليها.
رفعت خلود حاجبيها باستغراب معلّقة:
عيادة نفسيّة هنا!.
التفتت هيفاء صوب التلفاز محاولة إخفاء وجهها الذي بدأ يحتقن لونه. طفرت من عينيها دمعة كبيرة سالت بسرعة على خدها وسقطت في حجرها، عندئذ غطت وجهها بمجلة وانخرطت في البكاء.
ساد الوجوم الحجرة، و تبادلت خلود مع الفتاة الآسيوية نظرات قلقة.
شردت هيفاء هنيهة ثم تحدثت بصوت متهدّج:
لا أدري ماذا سيحل بي إن انتهى الوقت دون أن أقابل الطبيب!. اليوم أكاد أنفجر!.
ـ مابك يا هيفاء؟.
اتكأت هيفاء برأسها على ظهر المقعد برهة، ثم قالت وهي تقضم أظافرها:
أنا الابنة الوحيدة لوالديّ اللذين أنجباني بعد عشرين عامًا من الانتظار.
بدت عينا هيفاء كجمرتين متقدتين حين صوّبتهما إلى خلود، وتساءلت بنبرة مشبعة بالمرارة :
أتدركين قصدي ؟.
ـ ............
: ـ يعيش والداي هاجس فقدي. يخافان عليّ من كل شيء : من المرض، والبرد، والحرّ، والنّاس. في بعض الليالي يستيقظ أحدهما فزعًا ويضع يده على صدري ليتأكد أنني مازلت على قيد الحياة!. إن بقائي في البيت تحت أنظارهما هو طريقتهما الوحيدة للتخلص من مخاوفهما.
: ـ هوّني عليك يا هيفاء، فالشدّة لا تدوم. أسأل الله أن يفرج همي وهمك !.
: ـ أنا الآن في الخامسة والثلاثين من عمري؛ ولم أكمل دراستي، ولا أزاول مهنة، بل ولمّا أتزوج!.
نهضت هيفاء ومضت صوب جهاز التكييف، بينما تراقب خلود خُطاها بشغف.
عادت هيفاء إلى مقعدها بهدوء قائلة :
أنا لا أملك أن أخطو خطوة واحدة خارج المسار الذي يرسمانه لي.
بدأت تنفرج أساريرها فابتسمت لخلود، وقالت بود:
أتعلمين؟، لا داعي لأن انتظر الطبيب، لقد أحسستُ بالراحة عندما تحدثت إليك،
وأنت يا خلود إلى أيّ عيادة ستذهبين؟.
اضطربت خلود وتظاهرت بالبحث عن شيء ما في حقيبتها، عندئذ دخلت الممرضة إلى الحجرة ونادت بصوت مرتفع:
خلود، هيّا أسرعي!. الطبيب ينتظرك ... سينصرف بعد دقائق.
نهضت الفتاة الآسيويّة من مقعدها، ودفعت الكرسي المتحرك باتجاه خلود، ثم رفعت خلود من المقعد بمشقة ووضعتها في الكرسي، في تلك الأثناء انحسرت عباءة خلود عن ساقين ساكنتين شديدتي النحول، وقدمين ضامرتين، مثنيتين إلى الخلف، تهتزان تبعًا لحركة الكرسي، وهي تغادر الحجرة. التفتت صوب هيفاء وابتسمت قائلة:
أرجوك، لا تنصرفي قبل خروجي من العيادة. أود أن تعطيني رقم هاتفك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
من قصص مجموعتي " سرداب التاجوري"