لعل من حسنات أغنية " الأماكن " للفنان محمد عبده , أن جعل الأمر يخرج من السيطرة , ويصبح موضوع الشعر المُباع مادة للتناول الفني عبر محطات تلفازية حكومية , تابعة لوزارة الإعلام بشكل مباشر , حتى أن ناصر القصبي أشار في بعض اللقطات إلى مدى تفاقد هذه الإشكالية , عندما ادعى على طريقة " إياك أعني واسمعي يا جارة " بأنه كاتب أغنية الأماكن .
وفي لقاء متلفز للأمير عبد الله الفيصل ــ رحمه الله ــ أشار لهذه الإشكالية الخطيرة وهي ظاهرة الإستكتاب , وقال بأن والده الملك فيصل ــ رحمه الله ــ كان يظن به هذا الظن , وقد اختبره كما يقول , ومن المعروف أن الملك الشهيد كان شاعرًا , حيث أعطاه بيتًا وطالبه في الإتيان على نفس ذلك السياق . ولِمَا لهذا الأمر من حساسية بالنسبة لكل المهتمين بهذا المجال , والجميع يكتب ويقول دون محاولة تلمس رضا ( سين أو صاد ) من الأمراء , لأن الأمر خرج عن السيطرة وصار حديث المجالس العامة والخاصة , وسمعت ــ والعهدة على الراوي ــ أن أحد الأمراء صافح شاعرًا وقال له أن قصيدتك الأخيرة التي غناها المطرب الفلاني كانت رائعة , مع العلم أن تلك الأغنية كانت مسجلة ومدونة باسم أحد الأمراء الشباب . إن المعضلة الكبرى التي نعيشها نحن كعرب أننا " كاثوليكيون أكثر من البابا , أو ملكيون أكثر من الملك " وهناك إشكالية قد أقع بها أوقد وقع بها غيري , وهو الشك بنتاج كل شاعر أمير , وفي المقابل يوجد العكس المغاير لهذا التوجه .
عنصر الشك موجود , وهو مبدأ استنه ديكارت في الفلسفة للوصول للحقيقة , ومن هذا المنطلق يجدر الإشارة لشعر امرئ القيس ( الملك الضليل ) المرتبط بحياة الصعاليك , الأقل منه مكانة إجتماعية واقتصادية , وهذه سنة من سنن الله في خلقه , ما بالنا بإناس يجدون لذتهم في الحياة لا تكتمل إلا حينما يكونون
بساطًا يُداس أو حذاءً ينتعل ( أعزكم الله جميعًا ) . وبصرف النظر من كون الشعر حلمًا من الأحلام يسعى الكثير من المهتمين في هذا المجال تحقيق أفضلية السبق فيه , وهذا الأمر من الممكن تعميمه على جميع البشر , الأمير والغفير , فكلهم يشتركون في هذه الخاصية عندما يكونون شعراء .
وعلى سبيل المثال الدولة العباسية التي امتدت من عام ( 132 هـ ــ 656 هـ ) أي أكثر من خمسمائة سنة ويزيد , لم نسمع شاعرًا ملأ الدنيا وشغل الناس كما قيل عن المتنبي , غير ابن المعتز صاحب كتاب البديع . من حق الجميع أن يشك بشعر الأمراء , فماداموا عرضوا نتاجهم لنا فمن حقنا أن نقول رأينا فيه , ولا يكن شعارنا شعارًا كنائسيًّا بابويًّا " فكّر كثيرًا , وقل قليلا , ولا تكتب شيئًا " .
حقيقة لست ضد هذه البهرجة المثارة لصالح السادة وعلية القوم من كل المسميات , رغم أن هذه الرائحة أزكمت الأنوف وأصابت الرؤوس بالصداع , وجعلت الكثير من المتابعين يشككون بشعر علية القوم من كل الطبقات , رغم ما نكنّ لهم من احترام صادق لشخوصهم الكريمة , لكن لا بد من التسليم , ولو جدلا بهذه الحقيقة العلمية الإجتماعية , فمن يملك الجاه والسلطان والمال قادر على ابتزاز الضمائر والتلاعب بقناعات شعوب بأسرها عن طريق ضخ المال للإعلام .
ولكن آمل أن يخجل البعض منهم , وأن يقدموا لنا نتاجهم الخاص بهم , البعيد عن ظلامية الكواليس , والضحك على الذقون .
لقد تداخلت الأمور واختلط الحابل بالنابل , وطغى الغث على السمين , وصار العديد من المتابعين والمهتمين يشكون بكل قادم جديد من هؤلاء القوم , رغم احترامنا لهم وتقديرنا لِما يكتبون
الحمد لله أن كرة القدم لم نشاهد أحدًا منهم يمارس هذه الرياضة , ليس تعففًا ولا يحزنون , بل لأن هذه اللعبة بحاجة لمهارة وقدرة على التلاعب بالكرة , وهذه اللعبة الجماهيرية لا يمكن تسويقها , لأنها ذات صفة عربية وعالمية ويوجد لها متابعون دوليون قد يقلبون الطاولة على رؤوس المتلاعبين بها , كما أن لهذه اللعبة الجماهيرية العالمية اتحاد دولي قائم ومستقل يحرص على الرقيّ بها ونشرها وتطويرها , فلا ألف " مختلف " ولا ألفين " فواصل " قادرة على إقناع بيليه أو بلاتيني او باكنباور بأن زيد أو عبيد هو لاعب الموسم .
وهناك نقطة هامة , وهي دور المحرر الصحفي المتسلق , الذي يهشّ ويبشّ ــ كما يقولون ــ لرؤية صاحب النفوذ والجاه , ناهيكم عن التعديل والمساعدات الكواليسية ــ وأنا لا أتهم أشخاصًا بعينهم , معاذ الله من هذه التهمة الجائرة دون أدلة دامغة ــ , فالسيد المبجل المحترم لا يهتم إلا لقراءة اسمه مذيّلا بعد الإنتهاء من تلاوة هذه القصيدة أو تلك , مرصعة بصورة شخصية له , ليصبح بين ليلة وضحاها , الشاعر الذي لا يشق له غبار .
لو فتشنا بين صفحات التاريخ العربي الممتد أكثر من ألف سنة لَمَا رأينا شعراء أمراء بهذا الحجم , فالذاكرة العربية لا تحتفظ إلا بثلاثة أمراء أو أربعة باستثناء امرئ القيس لأنه أمير صعلوك وملك ضاع منه عرش , وركزنا على الحقبة العربية الإسبلامية , لرأينا أن العدد قليل أو أقلّ من القليل , وهم الخليفة الأموي يزيد بن معاوية والخليفة العباسي ابن المعتز الذي لم يحكم إلا يوم وليلة ثم قُتل , والأمير أبو فراس الحمداني والأمير أسامة بن منقذ , فهذا التاريخ الممتد عبر كل هذه السنين الطوال لم ينجب لنا إلا هؤلاء , رغم أن حوافز الكتابة الشعرية متوفرة آنذاك كالمكانة العالمية للعرب والمسلمين والقصور الممتلئة بالجواري من كل أصقاع الدنيا , القادمات بالمجال , دون تأشير سياحية أو وجواز سفر أو حفلات مالية وحمراوية باذخة مدفوعة التكاليف .
وعود على بدء , وفي محاولة لفهم ما يجري على الساحة , ولكي لا يساء فهمي بأني مع او ضد شعر الأمراء أو " أمْرنة الشعر |" . أعتقد جازمًا بأن الأمراء الذين يستحقون المتابعة مني على وجه التحديد ــ ويمكن تعميم هذه الظاهرة أو تحييدها ــ هم ثلاثة : خالد الفيصل وبدر بن عبد المحسن وعبد الرحمن بن مساعد , لأن كل واحد من هؤلاء الثلاثة له خطه البياني المختلف . رغم أن هناك العديد من الأمراء الآخرين , لهم نتاجهم المعروف ودورهم البارز , وكلٌّ له جمهوره الذي يدافع عنه , ولكن المسألة مسألة أذواق وآراء وقناعات وميول .
يظل خالد الفيصل أقوى الثلاثة حضورًا جماهيريًّا وأفضلهم في التعاطي مع الجمهور , لاعتبارات خاصة بشعره كالمباشرية في الطرح والوصول لِما يريد بأيسر الطرق , ولا يعني التفوق الفني الشعري على صاحبيه أو عدمه , فهذه مسألة ليس هذا مجال الحديث عنها , كما أن الرجل له حظه من القبول الشعبي إضافة لكونه صاحب سمو ملكي , فهو أمير منطقة عسير سابقًا والآن يتقلد إمارة مكة المكرمة , وهذه حقيقة عوامل جذب لدى المتلقي تزيد من أسهم الشاعر الأمير خالد الفيصل , وتقوّي من حضوره جماهيريًّا .
أما بدر بن عبد المحسن , في اعتقادي الشخصي أنه أفضل أمير شاعر أو شاعر أمير , لِما يمتاز من شاعرية فريدة وقدرة على الحضور الفني الفاتن شعريًّا , القادرة على السموّ بذائقة المتلقي والصعود به إلى أعلى , فبدر ساهم في تطوير الحركة التجديدية في الشعر الشعبي وكان من الرواد في الثمانينات حاله كحال فهد عافت ومسفر الدوسري وعواض العصيمي والعديد من شباب ذلك الجيل الثمانيني الزاهر . وعلى هذا المبدأ , فمن الخطأ القاتل تعميم ظاهرة " الأمْرنة " على الشعر واعتبارها كلها سيئة ولا تأتي إلا بسيئ , غير أن فوَحان رائحة الشراء والبيع وسياسة " على عينك يا تاجر " هي ما دفعتني للكلام السابق والذي أومن به تمام الإيمان , ولا بد من الوقوف أمام هذه الهستريا الشعرية التي سحقت الشعر وتاجرت بالذائقة وتلاعبت بالضمير , وهي مسؤولية العقلاء من أبناء الساحة ورجالها المخلصين , وذوي الضمائر الحية منهم على وجه الخصوص .
عبد الرحمن بن مساعد , أظن أنه أذكى أمير شاعر أو شاعر وأمير عربي على الإطلاق . قد يبدو في هذا الكلام شيء من المجازفة أو يعتقد البعض أنه فيه شيء من اللا مسؤولية في الطرح وتبني الأفكار والآراء , فعبد الرحمن بن مساعد لم يكن له الحضور الزاخر الذي تمتع به خالد الفيصل , ولا يملك المجال الشعري الذي وهبه الله الخالق لبدر بن عبد المحسن , وكأنه أدرك هذا المأزق أو أن وعيه الباطني هداه إلى هذه الإشكالية , فسار على الخنجر وتجاوز الصراط , ووصل منطقة أحجم عنها أقرانه الأمراء أو لم تكن لديهم الشجاعة الأدبية على خوض هذا المعترك الحساس ولا أقول الخطير , فقد سبق الجميع حمود البغيلي خوض هذا الغمار منذ أوائل الثمانينات وهو مواطن خليجي بسيط , لذا كان عبد الرحمن بن مساعد سبّاقًا في هذا المعترك الشعري الجديد بالنسبة لطبقته الإجتماعية , ولم يكن مثل خالد الفيصل الذي جلس في شرفة ملكية عالية ينشد الشعر على طريقة أسلافه الأمراء , ولم يكن كذلك مثل بدر عبد المحسن الذي دخل المعترك اللغوي وفجّر القصيدة الشعبية من الداخل . وهو يعدّ في رأيي أفضل الشعراء الأمراء في هذا المجال , لأنه لا يوجد أحد ينافسه هذا النوع من الشعر , ولأن كل من سيطرق هذا المجال من الأمراء من بعده سيكون أستاذّا لهم في هذا الفن لأسبقيته ولجرأته في تناول مواضيعه , ودائمًا أصحاب الأسبقيات متقدمون على من سيأتون بعدهم , إما لجمال ما يطرحون , أو لتميزهم بابتكار ما يقدمون .
لقد دخل هذا الرجل معترك الحياة العامة وانصهر بصخب الجماهير وترك الشرفات الملكية والمقاعد الوثيرة , وابتعد عن الغوص وراء المعاني للوصول إلى الصورة الشعرية الفاتنة , واهتم باقتناص الفكرة والتعامل معها بشكل عفوي ومباشر , حيث تجوّل بين الشوارع والأرصفة ليحقق لنفسه مكسبًا شعريًّا ومكانة إجتماعية شعبية , غابت عن أقرانه وأترابه من الشعراء الأمراء .