بسم الله الرحمن الرحيم
كان والدي رحمه الله رجلاً لاينافق ( والله لا أقولها لأنه والدي ) بل كان يذكر في سيرة من عايشهم من المسؤولين أو الحكام ، أو الوزراء الإيجابيات والسلبيات ، دون غمط للحق ، أو نفاق خوف واجتلاب سلامة ، وكان يعلمنا أن نكون حذرين عندما نتكلم فرب كلمة تهوي بصاحبها سبعين خريفا ، وكان دائم التأكيد من مغبة فلتات اللسان وانطلاقه دون انتباه ، مؤكدا ذلك من القرآن الكريم الذي حفظه غيبا منذ سن مبكرة ، وكذلك الحديث الشريف ، وأبيات من الشعر العربي .
كان يقف شامخا رحمه الله وغفر له كالجبل الأشم أمام أي مسؤول مهما علا شأنه رغم وظيفته البسيطة ، وكانوا يهابون حضوره .
أتذكر أحد الأصدقاء الذي أصبح بعد ذلك مقربا مني ، في أول لقاء صادفه بوالدي عندما كان والدي في السبعين من عمره ، تحدث معه ، واليوم التالي أخبرني بذلك وقال ، والله يا أبا فيصل وجدت في والدك سعة اطلاع عجيبة ، ووجدت فيه هيبة غريبة ، فكنت أستمع له وأنا أعرف أن ذلك لم يكن شيئا مفاجئا .
كان رحمه الله يمزح معنا ويضحك ، وعندما كنا أطفال كان يعمل من المنشفة الصغير أرنبا بطريقة مدهشة ، وعندما كبرنا إلا عليه كان دائما يحدثنا عن قضايا عقيدية في الدين ، والوجود ، والخلق بشكل مبهر وملفت ، ويسمح لنا بنقاشه دون حدود في الأسئلة ، وكان يرد بإقناع مدعما ردوده بأدلة دامغة ، رحمه الله وغفر له .
أتذكره رحمه الله وغفر له عندما كان يأتيه ضيف أو أذهب معه عند أحد فيسود المكان هيبته ووقاره .
تعلمت منه حب القراءة والاطلاع والتفكير المحاكمي ، تعلمت منه أن لا أبتلع ما يقال لي ، أو أراه أمامي ، أو أقرأه أو أسمعه ، بل أمحص وأفكر وانتقد بداخلي ، وأقلب الأمر على وجوهه ، وإن كنت مازلت رغم ماعلمني إياه لم أصل وأتمكن من كل شيء علمنيه .
أنشدت يوما فيه قائلا : ( أبتاه مازلت الملك ) . هكذا كنت أراه وزيادة دون مبالغة ابن لأبيه .
وعندما تقدم في العمر وقارب التسعين وازداد تعبه ومرضه رحمه الله كنت أبكيه في داخلي عندما اشتد عليه مرض القلب قائلا : ( قلبي يتألم من اقصاه إلى أقصاه) ، ثم بكيته بأخرى وقلت : ( أبت من لي سواك بعد الله في شِددي ) كان رحمه الله وغفر له مختلفا في كل شيء ، الحارة التي كنا فيها كانوا يعتبرونه من كبارها وله كلمته ومكانته ويحبه الصغير والكبير ، وعندما نقلنا لحي آخر قبل 27 عاما أيضا كانت له مكانة فيمن حصلت بينه وبينهم معرفة ونفس التقدير والاحترام والهيبة .
حتى عند تشييع جنازته رأيت حشدا كبيرا من الناس وتسابق على مسك النعش ، وتدافع عند دفنه ، ودموع نزلت ، ونشيج عالٍ ، ودعاء بالرحمة ، أتذكر وأنا في المستشفى أفرغ الله علي صبرا لم يتوقعه أحد لمعرفتهم بمكانة والدي عندي رحمه الله ، ولكن عند الدفن أصبت بنوبة من الحزن الشديد دون وكدت لا أشعر بمن حولي حتى أمسكني أحد جيراننا القدامي ومشى بي بعد انصراف الناس من عند القبر .
رحمك الله يا أبت .
كتب خاطرة بسيطة بهد وفاته غفر الله له بعنوان :
(( أبي قد سرت لرحاب الله في مشهد جلل ))
قلت فيها :
أبتِ ماذا عساه أن يجود به قلمي
فقدك موجع بل بالغ الألمِ
أبتِ كم قلت : اصبر بني على النصبِ
أبتِ قد أنشدتُها قبلا :
من لي سواك بعد الله في شددي
مقيم صلاة صائم يخاف الله وحده وللقرآن شدّي
لله درك في أم أنجبتك أبي
كم أنت للبر عنوان كم كنت رضيّ
لم تفتأ ذكراها تغرق عينيك بدمع منهملِ
برٌ وصلةٌ ووفاءٌ بوالدك بهي
أبتِ لم يزل صوتك بالقرآن في أذني
أبتِ قد سرت لرحاب الله في مشهد جللِ
أبتِ غبت عن مجلسك وهانحن في تعبِ
أبتِ عزاؤنا أنك عند الرحمن الولي
أبتِ غفر الله لك برحمته وأسكنك فردوسه العالي
أبتِ سامح تقصيري معك أيا نفسي ويا سندي
وصل اللهم على محمد من ليس بعده نبي
----------
كانت وفاته مساء الاثنين 17 / 6/ 1436هـ ، بين صلاتي المغرب والعشاء .
رحمه الله وغفر له وأدخله فردوسه الأعلى بلا حساب ولا سابقة عذاب .