لقيت قصائد فهد عافت العاطفية رواجًا كبيرًا لدى القراء , لا بسبب جودتها الواضحة التي لا مرية فيها , بل بسبب قدرة هذا الشاعر على مد قصائده العاطفية بحيوية جنسية مفعمة بالحيوية والروح والحركة .
يقول في قصيدة " فتنة الحفل "
ارقصي بين حد الذنـب والمغفـرة !
ارحلي في سكونك واسكني في الرحيل
ارجفي ... كنك الـ" ما " فززته حجره
وانثني ... كنك الفضة بعيـن البخيـل
وانحني ... مثل غصنٍ في طرفه ثمره
واوقفي ... مثل فزعات بدويٍّ أصيـل
في هذه الأبيات المقتطعة من تلك القصيدة , وصف دقيق وفاتن لحركات جسد المرأة , ملفوف بإحساس جنسي تعدى مرحلة الحب بمفهومه المعروف والواضح , ثم ينصهر الشاعر في جسد الأنثى انصهارًا مضى به إلى أبعد من مجرد الوصف المدعوم بكلمات تغلب عليها نزوة العاشق المتيم .
آه ... واليـا لمحتـك مقبلـة مدبـره
شفت مثلي , نحيـلٍ زم حمـلٍ ثقيـل
دام ذا " عجز " وش للناس بالمقـدره
دام ذا " خصر " وش لي بالخواتم بديل
هذه القدرة اللغوية الفذة والشاعرية الصارخة التي جعلت القارئ يتواصل مع قائل هذا النص , رغم كل تلك المفردات الجنسية الواضحة كــ " عجز " و " خصر " أو عن طريق حركة الجسم في الإقبال والإدبار , وهو ما يذكرنا ببيت كعب بن زهير بن أبي سُلمى
في قصيدته المشهورة :
هبفاءُ مقبلةٌ , عجزاءُ مدبرةٌ
لا يُشتكى قِصَرٌ منه ولا طولُ
أقول , رغم كل ذلك الوضوح لم يكن الشاعر مبتذلاً فيما يقول , وإنما عرض كل تلك المشاهد بطريقة فذة لم تجعل نصه الشعري يصل درجة الإسفاف . وهذا يدل على قدرة هذا الشاعر , وتمكنه لا من أدواته الشعرية فحسب , بل من قدرته على السيطرة على قرائه قبل هذا وذاك .
وقال في قصيدة " الكرز " :
ضامرٍ مثل رجل براس قبة
ينفح بركعتين الصدر طيبة
أعتقد أن الشاعر قد اختصر كل ما أراد قوله في قصيدة " فتنة الحفل " بهذا البيت . أو بالأحرى . أن هذا البيت محصلة نهائية لما قاله ورآه قبل وأثناء كتابة تلك القصيدة . غير أن فهد عافت قد وقع بما وقع به مساعد الرشيدي , عندما غيّر كلمة " الخطية " واستعاض عنها بعبارة " بردية " إذ قال في أول مرة
أقبلت مثل البياض وروحت مثل الخطية
ثم جاء بعده فهد عافت ليقع بنفس الخطأ , غيّر ذات مرة كلمة " ركعتين " واستعاض عنها بعبارة " غيمتين " فيما بعد . وهذا سببه ان الشاعر وخاصة المبدع يكتب قصيدته انطلاقًا من إبداعه وموهبته ووعيه الشعري , لكنه يصطدم بغباء بعض الجمهور , وأمثال هذه المزالق لا نحبذ أن تتكرر مع فهد عافت أو مساعد الرشيدي أو أي شاعر نحترم تجربته ونقدر موهبته ونتحمس لقراءة الجديد من كتاباته .
إن قدرة فهد عافت على اقتناص أمثال هذه المشاهد وبثها بين ثنايا قصائده , هي ما جلبت له الاهتمام وجعلته محط أنظار الجميع .
ففي قصيدة " معجبة " كان الشاعر تواقًا إلى الأنثى بشكل أكسبه القدرة على هذا النوع وهو ( جَنْسنة العاطفة " في العمل الشعري ــ وأتمنى أن أكون موفقًا بهذا المصطلح ـــ ومن ثمّ التلاعب الذكي بمشاعر المتلقين والسيطرة عليهم , وقودهم إلى مضماره الخاص به .
يقول في قصيدة " معجبة "
يا آدمي حـس ! مـا جيتـك تسمعنـي
الليـل بـرد وقصيـدك مـا يدفيـنـي
تراجف عضاي ... صوت الريح يوجعني
وأحـس شـي ٍّ تغلغـل فـي شرايينـي
أحـس فـي خطوتـي يمـك تنازعنـي
كيف اختصـار المسافـة بينـك وبينـي
هذه القصيدة ككل عويل جنسي حاد وصارخ . انطلق من البيت الأول وبعده انساب بين ثنايا القصيدة , ثم أخذ عدة أشكال فيما بعد .
لقد كانت الأبيات الأولى متشحة بحوار عاطفي محموم , أقرب إلى الصهيل المتصاعد , مع تدفق الكلمات الموحية بغليان الرغبة في الذوبان بالآخر ... إنه يتحدث عن نفسه من خلال جر المعشوقة للحديث إليه بالطريق التي يريد .
خذنـي لصـرك ... وشتتـنـي وجمعـنـي
ادخـل متاهـات صـدري واحتـرق فينـي
ضيـع أنـت فينـي وأبـي منّّـك تضيعنـي
فـي غابـةٍ تحتـرق فيـهـا عناويـنـي !
خذ ما بدا لك ... حلالك ! ... لا تراجعنـي
بعـض الطلـب ينهـي اللـذة وينهيـنـي !
هات ... انفجر شوق , إزعل وارجع اصفعني
سو شي ... أي شـي ... إلا إنـك تخلينـي
في هذه الأبيات تتزاحم أفعال الأمر بشكل ملفت للنظر , وجدير بالتوقف ( خذني ــ شتتني ــ جمعني ــ ادخل ــ احترق ) , وفي البيت التالي يأتي الفعل الأمر ( ضيع ) , وفي البيت الذي يليه ( خذ ) , وفي البيت الرابع من هذه الأبيات ( هات ) مع احترامي لعلماء اللغة العربية حول إشكالية ( هات ) وكذلك أفعال ( انفجر ــ ازعل ــ ارجع ــ اصفعني ــ سو ) هذه الأفعال الدالة على التوسل والتذلل جعلت الموقف يصل إلى درجة الرخص الآدمي القريب من التهافت , وأن حرارة الجسد أوصلت أحد الطرفين إلى الحضيض العاطفي الذي لا فرار من إشباع نزواته للتخلص من هذه الحالة
أنت الوحيـد الـذي بالحيـل جوعنـي
بالحيل ... بالحيل ... ليت ارتجت سنيني
في زحمة هذا الغليان العاطفي / الجنسي المحموم , يتذكر الشاعر على لسان المعشوقة صفة المعشوق الوحيدة ., علمًا بأن أمام هذا التيار العاطفي الجنسي المتصاعد , والقريب من لحظة الانفلات ــ كما سيبدو لنا ــ لا يهم إعطاء المبررات أو إيضاح المزايا او تفسير الأسباب , ما دام أن الرغبة هي المسيطرة على الجو العام للموقف والقصيدة ككل . وكأن هذا البيت جاء كاستراحة نفسية للتخفيف من ذلك العويل الجسدي الحاد والصارخ .
وش يمنعك دام ما كـو ... شـي يمنعنـي
ينده لك ... الجمر ... والنفنوف ... وايديني
أرجـوك فـي طبـع غيـري لا تطبعنـي
مانـي مـلاك الطهـارة ... لا تبرينـي !
غلطـان كانـك عـن الـزلـة مرفعـنـي
النار في داخلي ... من بعـض تكوينـي !
إيـه اشتهيتـك ! وصمتـي مـو بنافعنـي
لو ألزم الصمت ... تفضح حاجتي , عيني !
للريـح قـط الـورق , للنـار واتبعـنـي
أمّا أنت ميّت معـي , وإلا أنـت محيينـي
عاد الشاعر إلى الجو العام للنص , والانسياق وراء تداعيات التيار السابق , بعد أن انصرف عنه إلى نقطة المزايا او الميزة الوحيدة , والتي لم يجد أي شيئ يقوله فيها إلا اللجوء لتكرار كلمة ( حيل ) أكثر من مرة , إما هربًا من هذا ( المطب الصناعي ) الذي عرض للشاعر فجأة , أو أن تداعيات المشهد وتأزم الموقف معه , واشتعال تيار الرغبة الجسدية في داخله لم تمنحه فرصة الحديث عن أي أمور أخرى قد تخمد أو تساعد على إخماد تلك النيران المشتعلة .
عاد الشاعر إلى الموقف العام للقصيدة في شخص المعشوقة بشكل أكثر وضوحًا مما دفعها إلى التعري أمامه , وهي تقدم كل ما يمكن أن تقدمه من تنازلات في سبيل الوصول إلى ما تريد , وإطفاء هذه الحمم العاطفية البركانية , التي جعلت الإنسان يخرج عن إنسانيته , ويتجرد من أخلاقيات المحبين وأعراف العاشقين .
بعد هذه العجالة .... نستطيع القول بأن هذه القصيدة مفعمة بالحرارة العاطفية الجياشة الفاتنة سواء على مستوى انسجام ألفاظ القصيدة وتناغمها مع الجو النفسي العام للنص , أو في قدرة هذا الشاعر على سكب هذه الروح المتفجرة " عاطفةً وجنسًا " في كل منحنيات العمل الفني الذي كنا في صدد الحديث عنه , وهو قصيدة " معجبة " أو النصوص الأخرى التي تطرقنا إليها .
وهنا قد يقول قائل : ما فرق فهد عافت عمن غيره من الشعراء الآخرين , ولا سيما الذين كتبوا لعيسى الأحسائي أو غيره من المطربين الشعبيين ؟؟؟
والجواب بسيط وواضح ...
هناك فرق كبير بين " الحذاقة الجنسية " و " التهافت الجنسي " . وما قام به فهد عافت يختلف كل الاختلاف عما يقوم به غيره ممن ألمحنا لهم . فهو ــ أي فهد عافت ــ يتعامل مع نصوصه الشعرية العاطفية بحذاقة جنسية تصيب القارئ والمتلقي بالصدمة الشعورية الممتدة , والتي تأخذ المتلقي إلى أبعد مدى ممكن , حتى بعد الانصراف عن قراءة هذا النص أو الانتهاء من سماع تلك القصيدة