مُذلٌ أن تموتَ في فراشكَ عجوزاً، مرميًا في زاوية غرفةٍ كل أثاثها يسخرُ من خرفِك، تلكَ الخزانة تضحكُ عليك لأنّ مثانتك ستنفجر و لستَ قادراً على القيام بنفسك إلى الحمّام، ذلك الكرسي يسخرُ منك و أنتَ تبللُ سروالك، و الأفرشة تتقززُ من رائحتك، حتى صديقتك الوسادة التي آمنتَ بإخلاصها هاهي تتمزقُ و تتلاشى تحتَ رأسك كأنّها تقولُ (ماعدتُ أتحمل !) أحفادك لا يحبون رفقتك، أحاديثك مملة، أحفادنا لا يشبهوننا نحنُ كنّا نلازمُ أجدادنا ليحدثونا عن حكاياتهم الأولى قبل الرحيل، اليوم يتلقون كل شيء من الفيسبوك و التويتر .. من قال أنّي تمنيتُ أن أكبر؟ تمنيتُ أن أغادرَ الأرض و أنا بعمرِ الستين، و الآن أصبحتُ شيخًا و زاد عمري عشر سنواتٍ أخرى، لا أزالُ بخير، أمشي و أطعمُ نفسي، و أنظفني دون أن يتقزز مني أحد، لكني خائفٌ أن أكبر أكثر، و أصل إلى أرذل العمر، لتسخر مني الخزانة و الكرسي و الأفرشة!! أنتظرُ ملَك الموت كل ليلة لكنّه لا يأتي أعلمُ أنّه لن يأتي حتى أكّف عن انتظاره..
زوجتي ماتت منذُ سنتين، سعيدٌ من أجلها، رحلت جميلة كما ولدت، ماتت بسكتة قلبية، رويتُ لها نكتة ضحكت كثيراً ثمّ وضعت يدها على صدرها، و قالت أنّها تشعر بالألم، قلتُ لها كثرة الضحكِ تؤلم! قالت كلاّ إنّه ليس الضحك، أعتقد أنني أهمّ بالرحيل، رافقتها إلى السرير، و عانقتها إلى أن نامت و عندما أشرق اليوم التالي رفعتُ صوتَ القرآن أعلنُ للناس عن حالةِ وفاة، طلبتُ منهم ألاّ ينتحبوا لأنّ الفقيدة أصلاً ماتت تضحك! و نامت و على وجهها ابتسامة.
هذا الصباح خرجتُ إلى حديقة الأمير في يدي الجريدة و علبة التبغ، هناكَ رأيتُ سيدة تتصفحُ كتاباً، خفقَ قلبي فور رؤيتها، قلبي الذي ظننتُ أنّه توقف عن الخفقان بهذه الطريقة منذُ خمسين سنة، كلّ شعرِ هذه المرأة أبيض ليس فيه شعرة سوداء، قسَمته إلى قسمين و ربطته إلى الخلف، ترتدي كنزة صوفية خضراء اللون، و تنورة طويلة لونها أسود، حول معصمها سوارٌ فضيّ أعرفه، تتدلى منه أعين زرقاء كثيرة، عدتُ لأتصفح وجهها، يا إلهي إنّها هيَ!! تضعُ ساقاً فوق ساق و تمدّ يدها إلى كيس اللوز، كي تبتسم تميل بشفتيها إلى اليمين، هاهي الغمازة تغوص في خدّها، و الشامة تتربع تحتَ عينها اليسرى، بعد خمسين من الفراق هاهي تجلسُ أمامي، هاهيَ تطلقُ الضحكات نفسها، اقتربتُ منها و طلبت منها أن تخبرني عن الذي يضحكها، لم تتعرف عليّ، قالت لي هؤلاء الكتّاب الجدد يدهشونني بجرأتهم، يكتبون كل شيء كما هو ! مسكتُ يدها، نظرت إلى عينيّ مباشرة قالت:
يا إلهي إنّه أنتَ ! قشّرت وجهي من تجاعيده كمن يجرد هدية من غلافها ليعرف ماهي، بكينا كثيراً و تحسرنا على أيامنا،
أخبرتني أنّها ما ندمت على شيء في حياتها كما ندمت على الفراق، قلتُ لها: بعدكِ عرفتُ كل شيء إلاّ الحب.