الراسية زعيمة الشعر النسائي في الخليج
وتثبت بأن آل مرة أبناء (جنيّة)
الراسية من الشاعرات التي ظهرن على الساحة الشعرية، وحققت حضوراً وجماهيرية على مستوى الخليج، فهي لا زالت مذ بدايتها في التواصل الإعلامي محافظة على حضورها ووهجها الشعري، فهي لا تحضر لمجرد الحضور.
الراسية لها من اسمها نصيب، ففي زمن تساقط الشاعرات واحدة تلو الأخرى، مؤكدات أن بعض الأسماء الشعرية النسائية يقف خلفها شعراء، تقف راسية بقوتها الشعرية ونارية الحضور.
وقد كانت هناك عدة مقارنات بين الشاعرة الراسية وهيفاء خالد الكرز قبل سنوات لعدد من الشعراء وقد كانت كفة الشاعرية تميل تجاه الكرز، ومتحاملون على الراسية، إلا أن الأيام كانت كفيلة بأن تكون شاهداً على الشاعرية الحقيقية.
تقول في قصيدة لها عن بيت الشعر:
بيت الشعر عنك ما نويت بالتوبة .. ولا نويت أبتعد عن حمر الأطعاسي
أستهوي النار فوجه البيت مشبوبة .. واستهوي البن يحمس فوق محماسي
في وقت بدأ الشعراء أكثر تسلخاً من البنية الشعرية التي سبقت هذا الجيل، والبعد عن كل رموز الأصالة والتراث العريق، تأتي الراسية لتحني حرفها تحت (قطب) بيت الشعر الذي ارتبط بالأصالة والكرم، واصفة تلك الأجواء التي يعيشها البادية بجميل الكلام، تاركة ضوضاء المدينة وعمرانها، وهي ناتج حياة الشاعرة البدوية وبقاء تأثيرها رغم معاصرتها للمدينة بكامل تفاصيلها.
وامتداداً لما جاء في بداية القصيدة، تثبت ما ذكر أعلاه بقولها:
وأفرح بقرمٍ يكر النار في ثوبه .. وريحة غضاها يرد الروح لأنفاسي
وأسعد بشوف الحلال بحزّة غروبة .. ليا ضوت للعشا تقرع بالأجراسي
وهي تصف صورة أخرى من أجمل الصور اليومية التي يعيشها البادية بدءاً من شبة النار ورائحة الغضا ووصولاً إلى عودة (الحلال) مع وقت الغروب، واصفة صوت (الجرس) وهو ما يعلقه البادية في رقاب بعض المواشي.
وهذه الصور أصبحت نادرة ويتيمة جداً في الشعر الحالي الذي لم يتجاوز هلوسات الغرام والعشق الفضائي الذي لا يستند على روح ولا حقيقة يجعله قريباً من الروح.
والشاعرة لا تكاد تخلوا قصائدها من الصور الشعرية الأصيلة، ومقاربتها بين المفردات لتمسك الحبل من المنتصف مرضية كلا الجيلين.
وهي من النادرات اللواتي يعيش الشعر في أرواحهن، ولا يصطنعنه، وهو ما تثبته في قصيدة طويلة، توحي بحيثيات لا مجال لسبر أغوارها، ففي قصيدة بعنوان (رياح جنك) تقول:
قل ما بدالك ترى ما ني بمهتمّة .. ولا هزّت رياح جنّك شعرت أحساسي
الشعر طفلٍ لفاني كيف ما أضمه .. لين اتخالف ضلوعي وأطلق أنفاسي
أبدفنه في حنايا الروح وألمه .. وابى أغمره في حنانٍ ماله قياسي
وأبى ألثمه لو سمح لي بس من فمّه .. واغمّض العين وارفع للسما راسي
فاستدلالها بهذا الوصف الأنثوي، العاطفي يزيل كل الشكوك التي تطال الشاعرة حول شاعريتها، وهنا تبرز عاطفة المرأة وأعني الأمومة لوصفها أماً للطفل/الشعر، متمادية في هذا العرض إلى قولها:
أن غرت منّه تراني يمّه ويمّه .. وبأظل يمّه ولو طوّلت بعماسي
الشعر طفلٍ خلق منّي وأنا أمه .. يا ما اخبلك كيف تفصلني عن إحساسي.
وهو ما يثبت أن للقصيدة مؤثرات وأسباب لا نرغب الولوج إليها، إلا إثباتاً لأن الشعر جزء من روح الشاعرة ومن الصعب الفصل بينه وبينها، ونادراً أن تجد هذه الغيرة/المحبة لهذا الطفل الروحي الذي تعرض للانحطاط في عصر كم الشعراء/الشاعرات، وغياب الكيف.
وكذا فلم تخلوا قصائد الشاعرة من النصح والحكمة، وذلك في أكثر من قصيدة، منها ما تخاطب به بنات جنسها، وهي تعرض وضعاً أصبح ظاهرة، في قولها/
لا ترخصين النفس يا بنت تكفين .. بعض البشر ما يستحق المودّه
يلعب على كل العذارى بحبلين .. وللدرك الأسفل يالعزيزة مردّه
ورغم أن الشاعرة من خلال قصائدها تمتلك مخزوناً تراثياً بارزاً فيما قرأته إلا أن هناك اخفاقات في بعض الوصف، وهو ما ورد في قصيدة مدح موجهة للأشقاء في قطر، حيث تقول في مقطع منها:
سقت الولا سوق الركاب (المغاتير) ..وسقت الغلا سوق السفن للمواني
ومن المعروف بأن وصف الركاب يختلف كلياً عن وصف المغاتير، وهذا يحتاج إلى تفصيل وشرح مستقل، إلا أني سأعرض إيضاحاً بسيطاً يوضح وجهة النظر، وهو أن (المغاتير) نوع آخر من الإبل، يختلف كلياً عن وصف الركاب والتي تعني إبل السباق والتحمل وشتان بين وصف المغاتير والركاب.
والشاعرة كثيراً ما تعتز بشاعريتها وقصائدها، ويحق لها بما أنها الراسية، ففي قصيدة أخرى تقول:
يبتل ريق الضما ليا سمع هرجي .. وشلون عاد ليا شافني قباله
يا شاري الموت شفني مرتكز عجي .. ولا جيت عم السكون وسادت الحالة
وهذا التحدي، والامتداد في الفخر لدى الشاعرة لم يحميها من الوقوع في فخ المفردة التي أجبرتها عليها القافية، إلا أنها لم تكن مناسبة لإيرادها في القصيدة، لما عليها من تحفظات، وذلك في قولها:
تعال أشرب قصيدي فيك (وأمجي) .. تعال وأسقيك صافي الشعر وحثاله
فالبيت كاملاً لم يكن على تركيبة القصيدة/القصائد للشاعرة، وربما يعبر عن حالة الإنكسار أو الضعف لدى قصائد المرأة والذي يظهر في بعض قصائدهن، والذي يكون ناتج عن اندفاع عاطفي وهو ما أثبتته في الأبيات التالية:
يا سيد القلب فيك أهيم وأسجي .. همال قلبك سقاني طيب هماله
لو هو لفاني كبير القوم مترجي .. ما اصخ له لو ذبح لي أصغر عياله
وقصائد الشاعرة العاطفية تعبر عن عاطفة صادقة واضحة في الكثير من قصائدها، فمن قولها:
كلٍ عرقٍ في سديم القلب دلّك .. وانت سهمٍ لا لفى قلبي تريّا
كيف ألمّك في معاليقي وأفلّك .. وأنت ليل وشمس ونجومٍ وظيّا
ورغم هذه العاطفة والتي توحي بقربها من روح الشاعرة، إلا أنها لا تكاد تخلوا من تنهدات ألم فراق خفي وشبه ظاهر في بعض قصائدها، وذلك في قولها:
من ورى عوج الحنايا على قلبي تويق .. كنك اللي يفرج الضيق يوم الكون ظاق
التويت بجمرة العشق واشتب الحريق .. لين ذاب الثلج الأبيض وراق الموت راق
حالي اللي من عنى الحب ما سرْ الصديق .. شاربه كاس التلاقي وأفكّر بالفراق.
والشاعرة لم تكن قصائدها فقد بين روحها وحياتها، فهي جزء من جسد الأمة، ولم تكن القدس إلا واحدة من الجروح التي تسكن روح الشاعر، ومن القصائد المؤثرة والتي تختزل الكثير من الكلام ما جاء في قصيدتها للأقصى:
آه من ظلمٍ على الأقصى تشوفه ألف أمّه .. وآه من عار المذلّه والمهونة والرزايا
طال صمت الأرض والطفل المكبّل من يزمّه .. والشرف إن ما ارتوى من دمّنا متنا ظمايا.
ولكن ما كان في محل الوقوف والتأمل، هو ما ذكرته الشاعرة مثبتة ما يشاع عن أبناء مرة بأنهم (أبناء جنية)، وإن كان هذا الكلام من وحي الخيال، أو الأساطير التي أصبحت متوارثة إلا أن الشاعرة شاركت الشك بقصيدة عنونتها بـ/ ساس جنيّة:
يمين الله يمين الله لأعلمك التحدي كيف .. وأعلمك القصيد شلون يخضع لي وأنا بنيه
واعلمك السماء وشلون تمطر والليالي صيف .. وأعلمك المذاهب لأربعة وتبيّت النيّة
أنا بأقولها لك جد ترى ما ينفعك يا حيف .. وإذا أنك انس يا عمي تراني ساس جنيّه
هذه قراءة لبعض قصائد الشاعرة الراسية، والتي أراها من أهم الشاعرات على مستوى الخليج، والتي لن تمر قصائدها مروراً عادياً عبر تمرحل الأجيال، فهي تمثل تجربة وسيطة بين جيلين.
وتمثل هذه القراءة الانطباعية وجهة نظر قارئ مر على قصائد الشاعرة.
تحياتي وتقديري