\
هكذا قرأت الزمن/ الوقت.. حين يتماهى في قصيدة البدر.. كقصيدة!
استهلال:
(إن أحداً لا يستطيع أن يقول رأيه في زوجته إلا إذا أحكموا إغلاق باب قبره!.. )
تولستوي
:
وما الزوجة إلا أكثر آيات الخصوصية حين نستدعي رمزيتها في مجال الفكر أو الأدب الكتابيّ، وهي الجزء الأكثر تقديساً من حياة آدم وأبناءه في المساحة الطبيعية الشاسعة، شريطة أن يكون الرابط بين القطبين إنساني لأبعد الحدود.
إنني كلما استذكرت بداياتي مع قراءة الشعر فإني عادةً ما أقف على نصوص البدر، وربما يكون ذلك بمحض صدفةٍ جمعتني به دون أن يرشدني إليه أحد، أو قد تكون ذائقتي الصعبة التي فُطرت عليها ـ دون نرجسية مني ـ هي التي قادتني إلى قراءة الأرقام الصعبة في مسيرة الشعر الشعبي المعاصر، تلك التي يجوز لي أن أطلق عليهم مسمى (القلّة الهائلة)على حد قول الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، ولأنني قرأت الزمن في قصائد البدر قبل قراءتي للآخرين، فأنا اليوم أخشى أن أُلام على عدم طرح رؤيتي الذاتية حول الزمن داخل نص (لا تقول) للبدر بين أسطرٍ انطباعية، لا أن أفنّد أبيات هذه القصيدة برؤية أكاديمية بحتة، ففي مقابل جمالية الزمن التي تشدني قبل سائر التكوينات في أي قصيدة أقرأها؛ فهناك من الأزمان ما تربكني وتنفرّني، وبالذات حين أسنِد القراءة إلى مزاجيتي، هذه المزاجية التي هي جزء لا يتجزأ من حريتي، أو حرية أي فردٍ يصبو إلى تطوير ذائقته لتصل به إلى مراتب الأرقام الصعبة، فهنا يقول المفكر العظيم سقراط (لا تركن إلى الزمن فإنه سريع الخيانة).
:
انثيال:
أنا لا أقرأ البدر، لأن مجرد محاولة سبر أغوار هذا الشاعر.. هي خطوة أولى وأكيدة نحو الغرق، ولكنها قراءة قديمة ارتسخت كل ملامحها منذ أول استماع لهذا النص عبر حنجرة الرائع عبادي الجوهر، وفي نفس العام الذي سُوّق فيه الكاسيت الغنائي وهو يضم قصيدة (لا تقول) للأمير.. البدر.
الليل.. الزمن الأول للعشاق:
[POEM="font="Simplified Arabic,4,darkblue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=1 align=center use=ex num="0,black""]لا تقول ودعتني داري=بالحيل ما لي عليك عتاب
مريت في موعدك ساري=وقفت لين النجم ما غاب[/POEM]
دعوني أؤجل البيت الأول، أو أرحّله إلى منطقة أخرى من مناطق هذا الفضاء المعشب لدى البدر، لننطلق من مفردة (ساري) عند مطلع البيت الثاني، لنستدل إلى المسرى، ومن منا لا يعرف بأن المسرى هو طريق الليل، فالبدر بدأ رحلة البحث عن موعده في هذا الزمن من اليوم، ولم يتوقف إلا (لين النجم ما غاب).. وموعد غياب النجم يبدأ حين يتكشف لنا الخيط الأبيض من الأسوط عند نهاية الليل/ بداية الفجر. فهنا فقط استراح البدر، وبدأ يأخذ أنفاسه من رحلة (المسرى) التي رحلت به أول الليل.
الراحل.. يصف مشاهد المسرى:
يبدو أن البدر لم يتوقف ليأخذ أنفاسه كما اعتقدت، بل أجده يمسح ببصره هذا الفضاء / الفراغ من حوله.. دعوني أتخيل معكم مشهداً عادياً من مشاهد الطبيعة، ماذا لو كنتَ جالساً تحت أي شجرة متشعبة الأغصان، أو تخيل أنك تدخل أدغال أفريقيا أو غابات المسسيبي متشابكة الأشجار في وقت الليل، فهل ستشعر بأن كل هذا الغطاء الذي كونته الأشجار أعلاك ومن حولك كافٍ لمواراة الليل؟ لماذا لم يختفِ الليل رغم الطبيعة الجبارة التي استطاعت أن تخفيك أنت عن بعض أطراف جسدك؟ ولذا كان على الابدر أن يقول:
(الليل تحت الشجر عاري).. فلم يجدِ كل هذا النسيج من حياكة ثوبٍ يستر الليل، أو لنقل أن البدر تمنى لو أن الطبيعة تساعده في قتل شيءٍ من وحشة الليل أثناء مسراه، وما استجاب للحظة التمني هذه سوى الانتظار.. انتظار البدر لما بعد الليل، فحدث ما يلي:
(والفجر غطي السما بثياب).. إذن.. فالليل كان جالساً على وجه السماء، أوليست السماء هي هذه الزرقاء الفاتنة التي تسربل أنظارنا نهاراً؟ لماذا أصبحت تسمى الليل إذن بمجرد زوال الشمس؟ فالبدر هنا لا يفرق بين الليل والسماء، لأن رمزين كلاهما هي (الفراغ/ الفضاء) من أعلانا، ومن حولنا. وحده الفجر من أراد اختصار عناء الأشجار؛ ليجلي وحشة المسرى عن طريق البدر، وليس المقصود بالوحشة هنا الرهبة، بقدر ما هي إشارة إلى الوحدة، فالوحدة أشد ضرراً على العاشق من وحشة الظلام!
الوقت يشير إلى وصول الظهيرة:
نحن القرويون نعرف جيداً مكان النسائم في عز القيض، ولذا.. نجدنا عادةً ما نجتمع لنشعل مواقد (الشاي) وسط أقرب غابة لشجر (الغاف) على مشارف الأودية في وقت الظهيرة، أو أننا نلجأ إلى أطراف النخيل، فهناك لا متسع للرطوبة الخانقة، رغم أنها تحكم قبضتها بامتياز على سائر أنحاء القرية، وتقفل الهبوب والنسيم العليل في وجه البيوت والأزقة.
ها هو البدر على نفس الطريق، ولكن الزمن من تبدل هنا، أو الوقت، لنجده قد سار دون توقفٍ منذ بدء الفجر وحتى اللحظة التي بدأت الريح تذري الرمال فيها.. هو لم يذكر لنا النسيم، ولم يصف شبراً معشباً طاف به خلال الرحلة، معنى ذلك أن وقت البدر هو الصيف، أو موسم الجفاف، واللحظة الفعلية التي هو عليها الآن هي فترة الظهيرة، ففي هذه اللحظة دون سواها، نعرف أن الرياح/ أو الهواء يبدأ بمداعبة الرمل أو الأوراق المتساقطة عن بعض الأشجار والنباتات (والريح في كفوفها الذاري)..
وهو ما يسمى بالذرى، والذاري هو الهواء الذي يحرك ما يصدفه في طريقه من بقايا الطبيعة كالرمل أو الأوراق، وما شابه.. حسب تعريفه الخاص في المكان الذي نشأت عليه.
الزمن.. إيحاءٌ صادق للألم:
ماذا بعد أن وصل البدر إلى وقت الظهيرة؟ من كان بانتظاره؟ وكيف نعرف من خلال حركة الزمن النتائج الحتمية لهذه الرحلة الطويلة؟.. لاحظوا جملة (
تدفن رسوم الوعد بتراب)، فالريح هي الفاعل، هي من ارتكب الدفن هنا، ومن الضحية تحت كل هذه المدافن يا ترى؟.. إنها (رسوم الوعد)، أماني البدر، تفاصيل العلاقات الحميمة، الحب الذي طال في ذات البدر وقتاً، ولم يظهر أمامه. أتخيل لو أن البدر كان قد وصل إلى هذه اللحظة/ المحطة؛ ووجد بانتظاره الطرف الآخر الذي تكبد عناء الارتحال لأجله، أتخيل أنه لن يكتب المفردة الأكثر إيلاماً على الإطلاق في هذا النص، وهي مفردة (
تدفن).. فالمدافن رمز النهايات، والنهايات الفانية المؤلمة على وجه التحديد. فماذا لو كان الطرف الآخر بانتظاره، وتقابلا وجهاً لوجه في الوقت نفسه الذي كانت (
الريح بكفوفها الذاري) فيه الريح/ الهواء تمارس طبيعتها مع الطبيعة، ألن يكون الطرف الآخر بمثابة المصد لكل هذه الظواهر الطبيعية؟!.. إذن.. فالمكان بعد كل هذه الرحلة، كان فارغاً، وما من أحدٍ يربت على كتف المسافر ويواسيه أو يشكره على ما تكبده من عناء السفر الشاق:
[POEM="font="Simplified Arabic,4,darkblue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=1 align=center use=ex num="0,black""]والريح في كفوفها الذاري=تدفن رسوم الوعد بتراب[/POEM]
هل يعقل أن يواجه العاشق كل هذه الفراغات القاتلة.. وهو من جاء طائراً بجناحيّ نبضه إلى أجمل بقاع الحب على وجه الطبيعة؟!
استفاقة البدر في الوقت المناسب:
ليس البدر من يسوم قلبه للنكسات الختامية، لأنه بدأ هذا النص بالبيت الذي نطلق عليه (بيت القصيد) أو قلب المعنى، حين قال في المطلع:
[POEM="font="Simplified Arabic,4,darkblue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=1 align=center use=ex num="0,black""]لا تقول ودعتني داري=بالحيل ما لي عليك عْتاب[/POEM]
فالبدر يستشعر اللحظات كلها، ويستقرئ جيداً ذلك المجهول القادم، أو ليس هو الذي قال يوماً:
(
ألا يا الله كان اللي مضى لي يشبه المجهول).. ونحن ندرك أن المجهول صفة تقترن دائماً باللقادم/بالمستقبل.. فكيف أصبح المجهول لدى البدر هو رمز الماضي (
مضى لي) ؟!.. ولو كان هذا الشاعر كاتباً عادياً لقال دون أن يتعثر به الوزن (بقى لي يشبه المجهول).. ولكنه لو فعل ذلك لتعثر به الإبتكار، وسقط في هاوية التقرير والإخبار والتبسيط لا محالة!
أعود لأقول بأن البدر مسامِحٌ طالما نية المغامرة والاكتشاف هي محمل الإبحار، أو أنها طريق المسرى. فمنذ البداية والبدر على علمٍ تامٍ بما قد لا يُحمد عقباه، فطالما الماضي لديه لم يمكنه من تأريخ أو إنشاء مدينته الفاضلة، فكيف له أن يضمن ذلك مع المستقبل، وهو الرجل الذي يبلغ اليوم ما يقارب ستون الوجع؟! لذلك كان عليه أن يُطمئِن المكان ومن فيه بأنه ذاهب ليعود، ويعود للرحيل مجدداً دون أن يأبه بألم الخواتيم، لذلك جاء نداءه هنا محدداً، موجَّهاً لشخصٍ بعينه دون أحدٍ سواه حين قال منذ البدء:
(
لا تقول/ودعتني/ما لي عليك عتاب).. فهو من تهيأ مسبقاً لمدافن الحب، إلا أنه ـ في قرارة نفسه ـ كان يريد لها خاتمةً أخرى، وتمنى أن لا تذري الرياح ما ذرته هناك!
خلاصة شافية. لكل الأزمان!:
يقول ميخائيل نعيمة (
متى أصبح صديقك مثلك، بمنـزلة نفسك، فقل عرفت الصداقة).. فإن كان كل هذا السبر الداخلي للذات الإنسانية قد يؤدي بك إلى الصداقة، أو يمنعك منها؛ فما الذي نتخيل ارتكابه من عملٍ جادٍ كي نكسب الحب كعلاقة بيننا وبين العالم، وبيننا وبين أيٍ من الأطراف، وهو الأعلى مرتبة من الصداقة؟!.. لن أطيل في هذا الجانب كي لا أخرج بعيداً عن محور انطباعيتي هنا، وهو محور الزمن/ الوقت.
تناسى البدر ساعته، وزمانه، وأتعاب اللحظة، ليرمي كل النقمات بعيداً عن ضميره الحيّ، وما كان منه إلا أن عاد بخطوة واحدة إلى أول الأزمان، ليجد نفسه وقد ارتكب كل هذا الألم عنوة، وربما أنه اقترفه ليذكرنا بقول شكسبير (
ساعاتنا في الحب لها أجنحة ولها في الفراق مخالب)!!.. ورمى بكل النكسات والخيبات على عاتق قلبه وقال:
[POEM="font="Simplified Arabic,4,darkblue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=1 align=center use=ex num="0,black""]مريت.. ما للوله طاري=وقفت ما للندم أسباب[/POEM]
لاحظوا قمة الإنسانية لدى البدر حين يختصرهنا المشوار المضني ليختزله إنسانياً ـ إن صح التعبير ـ في مفردة (مريت).. وكأنه لم يخسر شيئاً، أو لم يتكبد تلك القسوة والوحشة، بل لنقل أنه لم يكن الخاسر مؤكداً، أو المتألم، لأنه البدر.
باختصار.. هي رغبة التجريب رغم فوات الزمان!
دعونا نضع بيت القصيد في ترتيبٍ آخر يخص ذائقتنا الشخصية، فماذا لو جربنا أن نضع مطلع النص هنا قبل هذا البيت:
[POEM="font="Simplified Arabic,4,darkblue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=1 align=center use=ex num="0,black""]مدري تعودت مشواري=أو خان بي قلبي الكذاب[/POEM]
لتصبح خاتمة النص هكذا:
[POEM="font="Simplified Arabic,4,darkblue,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=1 align=center use=ex num="0,black""]لا تقول ودعتني داري=بالحيل ما لي عليك عتاب
مدري تعودت مشواري=أو خان بي قلبي الكذاب![/POEM]
ما الذي قد يحدث جراء هذا الترتيب الجديد؟ أجد على المستوى الشخصي أن الزمن السوداوي الذي كان خاتمةً لرحلة المسرى تلك؛ قد عاد طبيعياً، دون أن يركز رماح نكساته في ذات البدر، ومن يقرأ البيت الأخير الآن، مستحضراً في الوقت نفسه البيت الذي قبله بهذا الترتيب، سيعرف أن وقت البدر قد فات منذ البداية، واختار لنفسه التجريب والمغامرة، سعياً منه لخلق ساعة زمن جديدة في الشعر/ في العلاقات/ في العثور على المدن الفاضلة.. وفي كل الحالات تقع لائمة البدر دوماً على نفسه:
[POEM="font="Simplified Arabic,4,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=1 align=center use=ex num="0,black""]ما ادري تعودت مشواري=أو خان بي قلبي الكذاب![/POEM]
وآخر شطرٍ في هذا النص يوحي بشجاعة البدر وإن خُيّل لنا مدى انكساره أكثر الأحيان من الخواتيم، فأن يسوّر لك القلب وهم القادم هو خير لك من أن تدفع إلى هذه النهاية الخائبة بفعل الآخر.
خاتمة بلا زمن!
إن مجرد محاولة قراءة نصوص البدر هي مغامرة بحد ذاتها، فكيف لنا أن نحاول وصول قاعها العميق، وأنا بطبيعتي من ذوي النفَس المحدود كما ترون، ولكنني أعرف في المقابل أن المفكر والفيلسوف الفرنسي العظيم ألبير كامو كان قد أتيحت له عوامل هامة ليصبح مع الوقت صاحب التجربة الأمثل في العبث، واللا معقول، ولكنها التجربة التي تصنع المجد، وقد فعلت به ذلك اليوم.
مقابل كامو يوجد بيننا البدر، هذا الرجل الذي يعلمنا يوماً بعد يوم أن نتلمس أضلاعنا، ونشعر من خلالها بأن زمن الحب موجود، طالما وجِدت المغامرة، والمغامرة الإنسانية هي المقصودة ببقائنا على سطح الزمن هنا.