ركوة حرف (5)
ديوان ( ثلاثي الفراق) للشاعر / قاسم البربار
(يقع الديوان في 123 صفحة ، دار فضاءات للنشر والتوزيع 2014 ـ تصميم الغلاف نضال جمهور)
ثلاثي الفراق ديوانٌ يجمع بين طياته الكثير من الملامح الشعرية الحديثة ، المُطعمة بالأحداث ،
ففيها يتحدث الشاعر عنه وعن وطنه وعن محبوبته ،
والذكريات التي ما زالت تؤرقه ، تتزاحم الأشواق في قصائد الديوان بمختلف أنواعها ، ويكون للفرح فسحة فيه ، ذاك الفرح الذي يشتاق إليه الشاعر .
ثلاثي الفراق
عندما تسكب الماء على قبري
لترتوي شمس الظهيرة
تستيقظ أكثر الأحلام كآبةً
صمتٌ تحدث
عند بحرٍ بلا موج
حيث
لا واقع إلا الضباب
أغلقت الباب القديم الملعون
وشربت نخبًا أخيرًا
لذكرى عشناها ثلاثتنا
أنا .. أنتِ .. وطفلٌ سراب
فربما نخرج من هنا
تاركين الماضي مكومًا خلفنا
مثل قصائد قديمة ..
لن يقرأها أحد .
* *انغماسٌ ثلاثي الأبعاد
يبتدىء الشاعر قصيدته بمقطع انتهاء الحياة ، ودخوله القبر بحالته المادية ، من خلال أول قصيده ( عندما تسكب الماء على قبري ) ،
لكننا لا نعرف هل الفعل ( تسكب ) للفعل المستمر (تَسكب) ، أم للمجهول ( تُسكب) ،
أينًا كان المقصود فالمصدر هنا ( السكب ) ، ويبرز هنا في هذا المقطع استحضار التراث الإسلامي ،
حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء ،
وقد أجازه الكثير من العلماء لتثبيت التربة خوفًا من اندثارها من الرياح ،
وهي أيضًا عادة تعارف عليها الناس بعد دفن الميت .
لكننا هنا نستوضح في المعنى ، لِم لم يستخدم الشاعر مفردة ( تراق ) بدلاً من ( تسكب ) ،
هل هو دليلٌ على كثرة الكمية من الماء ، ولم كان ذلك ! .
ويستمر الشاعر فيما هو عازمٌ عليه من تبيان المقال ،
فلا يذهب بعيدًا عن بدايته ، ليوضح لنا لِم السكب ، قائلاً ( لترتوي شمس الظهيرة ) ،
وهنا توضيحٌ للسكب الغير المرئي ، ونلحظ هنا التسلسل في المفردات ، بين السكب والارتواء ،
فالنتيجة الطبيعية لحالة السكب هي حالة الارتواء ، مبينًا في نفس الوقت أن توقيت الارتواء هو توقيتٌ مناسبٌ لحالة الارتواء (شمس الظهيرة) ،
وقد وُفق الشاعر في هذا التسلسل الذي يخدم هندسة النص .
هل استخدم الشاعر هنا وصف ( شمس الظهيرة ) كميقات ساعة الارتواء ،
أم هو وصف استعاري لشيء يدور في خلده !
* * أمنية لتململ دون هواء
وفي المقطع الآتي يتكشف بعض ما يجول في عمق الشاعر من حالةٍ داخلية ،
فهو حين يصرح بــ ( تستيقظ اكثر الأحلام كآبةً ) ، فهو يضعنا أمام حقيقة دامغة ،
فهو لا يتحدث عن حالة الموت بماديتها المعهودة من موت ومراسيم جنازة ودفن وما يرافقها من حزن وأسى ،
لكنه هنا يكَون حوارًا داخليًا مع النفس ، حوارٌ شجيٌ خلف الستار .
هنا نرى التسلسل المدروس ( تسكب ـ ترتوي ـ تستيقظ) ،
ونرى الحرفية في قوله (أكثر الأحلام كآبة ) ،
حيث أنه لم يكتب بالتمييز الاعتيادي بقوله مثلاً ( تستيقظ أحلام الكآبة) ،
وكان يمكن أن يكون موضع لــ ( أل التعريف) ،
لكنه عمل على إظهار الكثرة العددية بصيغته التي تميز بها !
وفي وسط هذا الجو الكئيب ، يمكن لكل كاتب أو شاعر أن تكون للأحداث والذكريات مكان ظاهر ،
لكن الشاعر أنبت من الصمت حكاية تشي بما يختلجه في النفس ،
وهذا ما تميز فيه قوله ( صمتٌ تحدث عند بحر بلا موج) ،
فحديث الصمت أبلغ وأعمق في التركيبة الجمالية للتصوير الفني في النص ، متماهيًا بتعبيرات متناسقة في المعنى والمضمون ،
حيث يختار الشاعر لحظة السكون في بحر بلا موج وكآبة الأحلام !
في صورة يقر فيها الشاعر بحقيقةٍ يشعر بها في داخله ،
لكننا نحسب أنه متأثر بالجو العام حيث يقول ( حيث لا واقع إلا الضباب) ، وهل ينجب الضباب إلا واقعًا مغبشًا أو سرابًا يحسبه الظمآن ماء !
وأعتقد أن الشاعر هنا قد وُفق في هذا المقطع بشكل كبير باستخدام تقنية (flash back) ، ، والتي تستخدم عادة في مجال كتابة الرواية .
* * ارتقاء النخب للحياة
يبدأ شاعرنا في ارتقاء آخر بالنص يجاوز فيه الحالة النفسية في المقطع الأول ،
حيث يتجلى ذلك في بداية المقطع الآخر ( أغلقت الباب القديم الملعون ) ،
فاللعنة هنا للباب القديم ، تدل على انتفاء الأمل ، فالجو المسيطر هو ما زرع من المقطع السابق ،
من كآبة وحالة موتٍ معنوي ،
فلا بد أن تُقلب الصفحة الداكنة ،
فكان أن شرع الشاعر في استحضار الانتصار المعنوي ولو لحظيًا بقوله ( وشربنا نخبًا أخيرًا لذكرى عشناها ثلاثتنا أنا ...أنت .. وطفل سراب) !
لكننا هنا نلحظ مفردة( نخبًا أخيراً ) ! ، فهل كانت هناك نخب أخرى في وسط الحالة المعنوية السيئة !
هل يرتوي الحزين من حزنه المغموس فيه ! لِم لم يكن هذا النخب هو النخب الأول بعد إغلاق المقطع السابق ؟
في هذا المقطع يبدأ الشاعر في إزاحة المستور شيئًا فشيئا ،
عن ماهية الحدث ، يبدو أن شاعرنا قصد بحالته هنا حالة الفراق بينه وبين محبوبته ،
والتي كان نتاجها المرتقب (طفل سراب) ،
لكن ذلك يرجعنا إلى أن العلاقة هي علاقة مكتملة ، وإلا لما كان هناك وصف لــ ( طفل سراب) ،
صحيحٌ أن النتيجة خائبة لكن العلاقة مكتملة .
يستذكر شاعرنا الصراع القائم في الحالة الشعورية له ، بقوله (فربما نخرج من هنا ) ،
يبدو جليًا ذلك الإرث القاسي الذي أدماه كآبةً ، جعله يتقهقر في انتقاء مفرداته ،
فيستخدم هنا ( فربما ) ، وكأن العقل لم يستوعب بعد قول مفردة لها واقع التحرر من الجو العام له ، ومن حياته .
لكن الخروج من مكان الذكرى لا بد أن يكون تركًا للذكرى بحالتها التكاملية ،
دون ترك أثر ينزوي في ركنٍ قد يتململ يومًا ما ، لكن الشاعر هنا يريد الانعتاق من هذا الهم الذي يقيده قائلاً ( تاركين الماضي مكومًا خلفنا ) ، يريد الشاعر أن يلصق تلك الذكريات بالماضي ،
بل ويصفها بشيء يجب حصره ( مكومًا) ، ويمكن السيطرة عليه .
يريدها ( مثل قصائد قديمة .. لم يقرأها أحد .. )
لكننا هنا نستذكر أن القصائد القديمة لها عبقٌ خاص ، وإن أتى عليها الزمن ،
فهي قصائد لا تنتمي للأشكال الجديدة ، لكن الشاعر هنا يعلمنا بأنها قصائد لا معنى لها في الميزان الجمالي ،
فلا قابلية لها للحياة فلا روح ولا جمال،
بل نظمٌ عقيم كتلك القصائد التي تشنقها القافية ويزهقها الوزن ، دون الوجدان ،
وتكون النتيجة التي أقرها الشاعر في آخر قصيدته ( لن يقرأها أحد) ، موت سريري لا يقبل الحياة . . .
تح يتي
القيصــــــــــــر