..
..
كنت في ربيع العمر ؛
بل لم أتجاوز عامي السابع عشر.
وقد كان طيش المراهقة يملأ سلة أحاسيسي
بل تطوّق أغلاله جوارحي . ارغب في كل شيء أو فعل أي شيء.
لا تعني لي تبعات ما قد أفعل أو قد أرتكب : ذات أهمية إن صح التعبير؛
صارت لي العديد من الهوايات.
أفلام اكشن ؛ مصارعة حرة.
سباق سيارات ؛ دوري كرة القدم
إثارة الشغب في المدرسة.
كتابة الحبر على سيارات المدرسين و تنسيم عجلاتها. بمعنى أن أعدائي ثلثين أصدقائي .
حقيقة لم أكُ مراهقا بمعنى المراهقة المتعارف عليه
بقدر ما كنت مشاغبا . أعيت والدي الحيلة . رسبت ثلاث سنين متتالية .
ومجتني المدارس . لم يعد والدي يهتم لشكايات الأخرين .
قال والدي يوما في مسجد حينا :
من كان له مظلمة عند " محمد " فعليه أن يتوجه إلى مركز الشرطة.
ولن تطاله لائمة . ترك هذا الموقف في النفس شيئا .
ألا أنه مع الأيام بدأ يخفت شيئا فشيئا وأعود لمشاغباتي ولكن بمستوى أقل من سوابقه .
في إحدى الليالي خلا ليّ الجو مع الهاتف.
أخذت أتنقل بين الأرقام العشوائية.
أفزع هذا من منامه؛ وأهدّ جدار السكينة
في نفس تلك. قد اعتذر وقد لا اعتذر.
فنهاية المكالمة هي من يحدد الفعل القادم
مع هذا المفزوع أو تلك. و هكذا.
قبل أن أقوم بهذا الطيش وضعت خطة محكمة المعالم .
حيث تناولت دفترا وفتحت به ورقة وأمسكت بالقلم.
وبدأت أكتب : سبعة ؛ أربعة ؛ ثلاثة ؛ وهكذا.
وبذلك حددت أرقام فتح خطوط الأحياء
التي ستطولها مغامرتي الليلية.
فكل حي له فتح خط يختلف عن الآخر.
لا أريد أن أجرب هذه اللعبة مع أكثر من خمسة خطوط للحي الواحد
وفي نهاية كل عملية.أضع نقطة عند نهاية الرقم الذي قد أجريت معه اتصال.
لم تكً بي خشية أن يكشفني أحد لأن الاتصالات في تلك الأيام
لم تصل إلى ما قد وصلت إليه اليوم من تكنولوجيا يمكن لها
معرفة خط المتصل.
فكنت أتلذذ بمشاغبة من أتصل بهم. أرمي بقول لا معنى له
أو أصيح في المجني عليه بما يفزعه. أو اقرأ عليه شيئا
من جريدة في يدي. بمعنى؛ أفعل أي شيء قد يخطر على بالي. مع المفزوع.
وبعد أن تخلّص الليل من عباءأته الثلاث ولم يتبقى له إلا واحدة.
أحسست بالملل. من لعبتي المضنية للآخرين.
وما قد زاد من مللي أن اغلب اتصالاتي لا يجاوب عليها أحد
إلا أنه قد خطر في بالي أن هناك حي لم تطله لعبتي.
كدت أن أتجاهله. إلا أني قلت سيكون الشوط الأخير وكفى.
الرقم الأول؛ فالثاني والثالث وقبل الأخير لا أعلم لماذا توقفت
وخرجت من الغرفة وما كدت أتقدم خارج الغرفة بخطوات؛
حتى تلقفتني نسائم ليل آذار القادمة من قبل البحر.
ولأنه لا يوجد في البيت تلك الليلة غيري؛ أشعلت " زجارة "
لا أجرؤ على إشعالها في البيت إلا في مثل هذه الليلة
حيث إلاّ أنا فحسب.
لم أفكّر بشيء محددا إلا أن النعاس بدأ يتسلق أوصالي.
فلم أجد ما يمكنني أن أجابهه به إلا أن أكمل ما تبقى من اللعبة.
تركت الباب مواربا. وتناولت الهاتف بيد والدفتر باليد الأخرى
وغيرت المكان الذي كنت أجلس فيه.
نظرت في الدفتر ووجدت أنه لم يتبقى من الأرقام المحددة إلا رقمين.
رفعت سماعة الهاتف وأنا أغالب التثاؤب. وبدأت أكبس على فصوصه .
ربما أن والدي بذلك الموقف أراد أن أتبين أن الأخرين بأمكانهم أن يعاملونني بما أعاملهم به.
ولكن كانوا يتجاوزون عني احترام لوالدي . وحفاظا على حق الجيرة .
أو أنه أراد أن ينتقم من طيشي وعبثي. وما أحرجه به؛ بين معارفه ؛ وجيرانه .
لم ينس والدي ما كمدت به نفسه مع ابن صاحبه ورفيق دربه ذلك الرجل الشبه عاجز
الذي ليس له من الأوالد إلا واحد وخمس بنات.
وحينما رأيت في الشاب عزة وأنفة وحرص على شرفه .
قمت بأستدراجه في الحديث حتى استفزيته ؛ وبعدها دخلت معه في عراك معتمدا على بنية جسدي القوية .
ضربته حتى خارت قواه . جرجرته إلى مدخل الحي كي يتفرج عليه أبناء الحي وهو على تلك الحال.
وبعد أن أودعت السجن .
أجبره والده حرصا منه على خيط الصحبة والجيرة الذي يربطه بوالدي أن يتنازل عن حقه .
مع أن والدي كان رافضا لذلك التنازل ألا أن صديق عمره أصر وتنازل عن حق أبنه .
فترك ذلك الموقف في نفس والدي كدمة ظلّت ملأتها بائنة على ملامح وجهه كل ما رآني .
وبالرغم من الحب العميق الذي يكنه " راشد " لي . بصفتي شقيقة الوحيد .
الأنه كان متأثرا لضيق والدي بمشاغباتي وطيشي .
لم يلق والدي من مراهقة راشد ما لاقاه مني . فقد كان راشد ؛ راشدا منذ صغره
محب لوالده مطيعا لا يقوم بشيء الا بعد أن يستاذنه ويطلعه في كل أمر ويستأنس برأيه وتوجيهه.
فلذلك كان البون شاسعا بين صفاتنا حتى لو كانت العلاقة بيننا مبنية على الأخوّة والمحبة .
إلا أني كنت صدمة لوالدي ووالدتي وأخواتي ..
- حينما يختار الإنسان الطيش فأن الأيام به كفيلة .
ظلت إشارة الاتصال تزن في أذني؛ وأنا أضع النقطة عند نهاية الرقم.
كي أنتقل للرقم الأخير. ربما قد أبحث عن شيء آخر أنفض به عباءة ليلي المتبقية.
التقط السماعة على الطرف الأخر رجل ربما أنه كان في حالة انفعالية قبل أتصالي .
وعند سماعي لصوته الجهوري الغضب وأنفاسه العالية . صرخت به على نحو مما كان عليه.
ألا أن الرجل لم يمهلني فقد ثارت ثائرته وكان يصدر لي الأوامر كي أخبره من أنا أو ماذا أريد منه.
وكيف عرفت رقم هاتفه ولِمَ الأتصال به في مثل هذا الوقت ؟.
ما من قول ساقط الا ودار بيننا توعدني الرجل وهددني . إنتابني شعور أن الرجل مجنون .
ألا أنه لم يك مجنونا بل كان حانقا . تحداني أن أقابله في أي مكان أختاره .
سايرته في تحديه . وحقيقة أخافني فالرجل قد كان جادا .
حتى أنه قدم لي العديد من الخيارات كي نلتقي . الا أن الفضول قد قادني لملاطفته .
كي أعرف لماذا هو حانقا . لشدة الرجل لم أهتدي منه على معرفة السبب.
فقد كان يشتمني بأقبح الألفاظ ويتوعدني.
ارجعت سماعة الهاتف إلى مكانها بعد أن أحسست أن الرجل استفزني بالفعل.
نهضت وتوجهت إلى الثلاجة أخذت لي كأس من الماء البارد .
تجاوزت باب البيت الداخلي فإذا الزمن لم يبق منه إلا صبابة من ليل.
تصالحت نفسي مع نسائم آذار اللطيفة التي تلقفتني على صدرها بكل حنان.
لم أعد أبحث عن شيء ألا أن تهدأ نفسي مما سكب بها هذا الآدمي .
حاولت أن أشعل زجارة الا أن العلبة قد أصبحت فارغة. وجهت لها بعض من شتائم الرجل .
- بعض المواقف قد تعيدنا لرشدنا .
رن جرس الهاتف . فشق ستار السكون ! .
بل استفز نفسيتي المتصالحة معي بالكاد .
من يكون هذا المتصل في هذه الساعة المبكرة ؟
هل هو ذلك المجنون ؟ . وكيف له أن عرف رقم هاتفي !.
قد لا يكون ذلك بعيدا فهذا الرجل خلفه سر .
أو ربما أن يكون راشد يريد أن يطمئن أني في المنزل ولست في خفارة مصيبة من مصائبي .
توالا الرنين وأصبحت تتناوبه الجدر يمنة ويسرة . قد يسمعوه الجيران أو أي عابر .
بالتأكيد أن العم " فرحان " سمعه فهو في مثل هذه الساعة يمر بجوار منزلنا في طريقة إلى المسجد .
اقتربت من الهاتف . انتابني خياران هل أفصل السلك أم أرفع السماعة ؟ . ألا أنه سكت فجأة .
لم أتمالك نفسي إلا وأنا أعبّ من نسائم الأسحار بعد أن هدأ الضجيج . الذي كاد أن يفلق رأسي.
ماهي الا دقائق فيعود رنين الهاتف بضجيجه .
لم أمنحه هذه المرة فرصة كي تتغنا به الجدر ثانية .
رفعت السماعة .
يتبع