أستاذ محمد سلمان البلوي ، أهلًا بك
محمد سلمان البلوي : بسم اللهِ، والحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَنْ لا نبيَّ بعده، ربِّ اشرحْ لي صدري، ويسِّرْ لي أمري، واحلُلْ عقدةً من لساني. في البدايةِ؛ أشكركم جميعًا، وأشكرُ الأستاذةَ شمَّاء، وأشكرُ إدارةَ منتدى (أبعاد أدبيَّة) وأعضاءَه الكرام وزوَّاره، راجيًا أنْ أكونَ ضيفًا خفيفَ الظلِّ عليكم، وأنْ تكونَ هذه الاستضافةُ الكريمةُ ماتعةً ونافعةً، وما دمتُ في دائرةِ الضُّوءِ، حيث لا أُحِبُّ أنْ أكونَ، وما دام يتعيَّنُ عليَّ الإجابةَ عن أسئلتكم القيِّمة؛ فإنَّه حديثي عن نفسي وعن تجربتي الإبداعيَّة الشَّخصيَّة سيفرضُ عليَّ حضورُ الـ (أنا) في لغتي؛ فسامحوني، وتحمَّلوني، وتقبَّلوها منِّي هذه المرَّة، ثمَّ اعذروني إنْ أخطأتُ، وأحسنوا الظَّنَّ بي، واللهُ يحفظكم.
شمّاء : أستاذ محمد ؛ قلتَ في نصِّكَ (نائلُ (لونٌ خديجٌ ورائحة نيِّئةٌ)): "أَنَا الْأَعْمَى، وَذَاكِرَتِي مُكَعَّبَةٌ". فكيفَ تكونُ الذَّاكرةُ مُكعَّبةً؟!
محمد سلمان البلوي : لا علاقةَ للذَّاكرةِ الْمُكَعَّبَةِ بالتَّكْعِيْبِ الهندسي أو الحسابي؛ وإلَّا فإنَّ أكثر الأشكالِ الهَندسيَّةِ انطباقًا علينا وقربًا منَّا –مِنْ وجهةِ نظري- هي الدَّائرةُ (نحنُ شكلٌ هندسيٌّ مُغلقٌ تملؤُهُ الدَّوائرُ وتُحاصرُهُ)، وإنَّما جاءَ التَّكْعِيْبُ -في التَّسْمِيَةِ- مِنَ (الْخَيْمَةِ) في الْمُخَيَّمِ، ثمَّ مِنَ الْحُجْرَةِ الضَّئِيْلَةِ التي حَلَّتْ مَحَلَّهَا، وأمَّا الذَّاكرةُ فإنَّها جاءتْ مِنَ النِّسيانِ ذاتهِ؛ لترتدَّ عليهِ؛ فتدمغهُ؛ ناقضةً –بذلكَ- الضِّدَّ بالضِّدِّ، ومُدَاوِيَةً بالتي كانتْ هي الدَّاءُ. إنَّها الذَّاكرةُ الجماعيَّةُ الجماليَّةُ الحيَّةُ للأحياءِ الأحياءِ وللأمواتِ الأحياءِ وللأشياءِ والزَّمانِ والمكانِ... وحتَّى للفراغِ. تُحَاوِلُ أنْ تَطَالَ الْاحْتِمَالَ والْمُحَالَ والحقيقةَ والْمَجَازَ، وأنْ تَلْتَقِطَ ما كانَ وما يكونُ وما سيكونُ وما قد يكونُ وما لَمْ يَكُنْ وما لا يكونُ وما لَنْ يكونَ؛ بالْإدْرَاكِ –مثلًا- أو بالِاسْتِشْعَارِ أو بِالْإِيْهَامِ أو بالْإِلْهَامِ أو بالْحِسِّ أو بالْحَدْسِ أو بالْجِدِّ أو بالرَّجْمِ أو بالْبَذْلِ أو بالْحَظِّ أو بالْجُنُوْنِ أو بالْعَقْلِ...، إِنَّها تُحَاوِلُ –على كلِّ حَالٍ- أنْ تُسَجِّلَ المُمكنَ وغَيْرَ المُمكنِ، وأَنْ تُحْدِثَ فَارِقًا ذا قيمةٍ؛ ولعلَّها تفعلُ.
شمّاء :إلى أيِّ مَدْرَسَةٍ في النَّثرِ تَنْتَمِي؟
محمد سلمان البلوي :
لا أظنُّهُ الإبداعُ –عمومًا- ينتمي لغَيْرِ نَفْسِهِ، ولا المُبدع يُحاولُ -مُتعمِّدًا- استنساخَ تجربة غَيْرهِ. ونعم، قَد يقعُ حافرٌ على حافرٍ، وقد تبدُو احتمالاتُ حدوثِ ذلكَ كبيرةً؛ ولكنَّها الْجَادَّاتُ عديدةٌ ومُتنوِّعةٌ، والسُّبُلُ البديلةُ كثيرةٌ، وليسَ مِنَ الضَّرُوري أنْ نَسْلُكَ الْمَطْرُوْقَةَ منها؛ بل إنَّنا في عُرُوْجِنَا إلى القمَّةِ المأمُولةِ وسَعْيِنَا إلى الغايةِ المنشُودةِ؛ قد نشقُّ طُرُقًا جديدةً بطَرائِقَ حديثةٍ؛ لَمْ تكنْ –مِنْ قبلُ- مُمَهَّدَةً ولا مَعْرُوْفَةً. وكلُّنا نَعْلَمُ أنْ ثمَّةَ مَنْ يُبْدِعُ، وثمَّةَ مِنْ يَتَّبِعُ، وثمَّةَ مَنْ يُقَلِّدُ، وثمَّةَ مِنْ يَبْتَكِرُ ويُجَدِّدُ، وأنْ ثمَّةَ سماتٍ مُشتركة تجمعُ إبداعًا إلى إبداعٍ، وفوارقَ تُميِّزُ بين مُبْدِعٍ ومُبْدِعٍ؛ وكذلكَ بين مُبْدِعٍ وَمُدَّعٍ. والمُبدِعُ المُنصِفُ يتفهَّمُ حاجةَ الْمَعْنِيِّينَ بالإبداعِ والْمُهْتَمِّيْنَ بهِ لِتَجْنِيْسِهِ ولِفَرْزِ المُبدِعِينَ؛ بُغْيَةَ البحثِ والدَّرسِ والْفَهْرَسَةِ والتَّحليلِ والتَّبيينِ والتَّفسيرِ والتَّأويلِ والتَّعمُّقِ في الفهمِ والتَّذوُّقِ...، ولكنَّهُ لا يتفهَّمُ حاجةَ الْمُدَّعِيْنَ وَالْمُتَطَفِّلِيْنَ لِتَنْجِيْسِ الإبداعِ واستغلالِ المُبدِعِينَ؛ فإنَّهُ الإبداعُ حُرٌّ ومُتَمَرِّدٌ وَمُتَفَلِّتٌ ولا يكادُ أنْ يخضعَ –في تَوَهُّجِهِ وتَأَجُّجِهِ وتَفَجُّرِهِ- لغَيْرِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ السَّوِيَّةِ والذَّائِقَةِ الْجَمَالِيَّةِ الْغَنِيَّةِ وقِيَمِ الْحَقِّ والْعَدْلِ وإِمْكَانَاتِهِ وأَدَوَاتِهِ. يُنَقِّي الإبداعُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، َيُقَوِّمُ مَسَارَهُ بقلبِهِ؛ فيطردُ خَبِيْثَهُ وَغَثِيْثَهُ، ويُحَيِّدُ ما يضرُّهُ، ويَحِيْدُ عمَّا لا يدفعهُ ولا يرفعهُ؛ فكيفَ لنا أنْ نُحاصرَهُ بالقواعدِ والقوالِبِ وأنْ نُقيِّدَهُ بالشُّروطِ والصُّكُوْكِ وأنْ نحبسَهُ في قُمْقُمِ التَّوصيفاتِ والتَّصنيفاتِ! إلَّا أنْ يكونَ القصدُ منها؛ الرِّعايةَ لا الوصايةَ، والاحتضانَ لا الْحَجْرَ، والتَّنظيمَ لا التَّضييقَ، والضَّبطَ لا الرَّبطَ، والتَّهذيبَ لا التَّهييضَ، والتَّرغيبَ لا التَّرهيبَ، والتَّمْكِيْنَ لا الْتَّقويضَ، والنَّقدَ لا النَّقضَ.
شمّاء : لَمْ تعطني ردًا مُحدَّدًا؛ قفوتَ أثرًا؛ مَنْ دون أن تَشعرَ؛ ومن دون أن تدلَّني على مطلعهِ ومغربه، لا بدَّ لكَ من حروفٍ ساعدتكَ على قولبةِ حروفكَ أو ساهمتْ في رسمِ معالمها، فكما تعلم؛ الموهبةُ وحدها لا تكفي! فمن كان المُؤثِّرُ الأوَّلُ في تكوينكَ الإبداعي صغيرًا؟
محمد سلمان البلوي : الأصلُ هو الموهبةُ، نعم، ثمَّ يتبعها الصَّقلُ. الموهبةُ من اللهِ، والصَّقلُ من اجتهادِ المُبدعِ؛ بعد توفيقِ اللهِ له. وما حزتُهُ –حتى الآن- كانَ خُلاصةَ جدٍّ واجتهادٍ وتعبٍ وعناءٍ ومشقَّةٍ وتجربةِ حياةٍ؛ تدرَّجتُ فيها وارتقيتُ؛ حتَّى توَّجتُهَا بأنْ دمغتها ببصمتي الخَّاصةِ؛ فكانَ لي أُسلوبي في الكتابةِ، وما زلتُ أغذِّي تجربتي، وسأظلُّ، إلى أنْ يختمها الأجلُ بـ "يا أيَّتها النَّفسُ...". وللمُتلقِّي الكريمِ أنْ يحكمَ، ثمَّ له أنْ ينسبَ كتاباتي لما يراهُ الأقربَ منها والأنسبَ لها. هذه مُهمَّتهم؛ لا مُهمَّتي. فأنا -حين أكتبُ- لا أختارُ -مُسبقًا- طريقًا، ولا أحدِّدُ وِجْهَةً، ولا أتعمَّدُ شيئًا، بل إِنَّني لا أدري -أصلًا- ماذا سأكتبُ، إنَّما تتداعي عليَّ الكتابةُ، إنْ لَمْ تستدعني هي إليها، وبعفويَّة تامَّةٍ أكتبُ؛ من الأبيض أبدأُ؛ وإليه أنتهي، وبه أختمُ كتابتي.
شمّاء : في لحظةٍ ما صرّختَ بــ: (لا أُحِبُّهُ)؛ للبابِ الذي يتنكَّرُ لصديقٍ، وللنَّافذةِ، والسَّقفِ، والجدرانِ، وفنجانِ القهوةِ، وقطَّتكَ التي تلتهمُ عصافيرَ الجيرانِ، وختمتَ بـ: "والرَّصاصةُ التي تنفذُ من صدري إلى صدرِ أخي؛ لا أُحِبُّهَا". فهل تملكُ القدرةَ على أنْ تصرخَ في وجهِ كلِّ هؤلاءِ: "لا أُحِبُّكُمْ"؟! وهل كنتَ تتمنَّى لو أنَّها الرَّصاصةُ استقرَّتْ في صدركَ ولم تنفذ منه إلى صدرِ أخيكَ؟
محمد سلمان البلوي : إنَّما بِـ (لا أُحِبُّكُمْ) أقولُ -لكلِّ هؤلاءِ- : أُحِبُّكُمْ حَدَّ الكراهيَّةِ! أُحُبُّكُمْ! وأكرهُ ما أنتم فيه وما أنتم عليه! أمَّا الرَّصاصةُ؛ فإنَّها لا تنفذُ مِنْ صدري إلى صدرِ أخي؛ إلَّا إذا أُطْلِقَتْ منه صَوْبِي، أو كان أخي هو الرَّصاصة المُتربِّصة بي؛ أصُدُّ عنه الموتَ بيقيني؛ وبِشَكِّهِ وظنِّهِ الآثِمِ يقتلني.
شمّاء : أستاذ محمد: أجبني -فقط- بنعم أو لا، ثم هل استفزَّ سؤالي الغضبَ المكبوتِ داخلكَ؟!
محمد سلمان البلوي : الإجابة هي: نعم. ولَمْ يستفزَّ سؤالُكِ فيَّ غيرَ الألمِ.
شمّاء : تلعبُ الشَّبكةُ العنكبوتيَّةُ الدَّورَ الأكبرَ في التَّأثيرِ؛ ومُؤخَّرًا في التَّغيير، سواء سلبًا أو إيجابًا، وما حصلَ من ثوراتِ الرَّبيعِ العربي لهو خيرُ دليلٍ على ذلك، فهل تراها تُسْتَغَلُّ –حقًّا– بموضوعيَّةٍ؟ أم تدخلُ فيها بعضُ الأمورِ التي تُشَوِّهُهَا وتحرِفُ مسيرةَ التَّغييرِ المرجوَّةِ عن وجهتها؟
محمد سلمان البلوي : تقنياتُ الاتصالِ الحديثةِ كلُّها أدواتُ تأثيرٍ وتوجيهٍ ومُتاجرةٍ وترويجٍ؛ تستغلُّها أطرافٌ كثيرةٌ لصالحها ولخدمةِ مُخطَّطاتها ومصالحها، ولَمْ يُنْتِجِ العالمُ الافْتراضيُّ لنا مِنْ فُصُوْلٍ غَيْرَ ربيعٍ افتراضيٍّ مُخادِعٍ ومُخاتِلٍ؛ كنَّا فيه الْمُتَأَثِّرَ لا الْمُؤَثِّرَ والْمُوَجَّهَ لا الْمُوَجِّهَ والْمُسْتَغَلَّ لا الْمُسْتَغِلَّ وأحيانًا الْقَاتِلَ وَالْمَقْتُوْلَ، وما دمنا قد رضينا بدورِ الْمُسْتَهْلِكِ والْمُسْتَهْلَكِ؛ فإنَّنا سنظلُّ في هلاكٍ ومُسْتَغَلِّيْنَ وَمُخْتَرَقِيْنَ في حياتنا وموتنا؛ إلى أنْ يُقَدِّرَ اللهُ لنا أنْ نكونَ الْمُنْتِجَ، وأنْ يكونَ الْمُنْتَجُ الْغَالِبُ مِنْ صُنْعِنَا، أمَّا المسيرةُ فإنَّها ماضيةٌ بنا إلى حَتْفِهَا وحَتْفِنَا، وأسأَلُ اللهَ أنْ يلطفَ بها وبنا.
شمّاء : ما رأيكَ بالأقلامِ الموجودةِ –الآنَ- في السَّاحةِ ممَّن عاصرتَهم وقرأتَ لهم؟
محمد سلمان البلوي : إنْ كانَ القصدُ مِنَ السُّؤالِ الاقتصارَ -في إبداءِ الرَّأي- على الأقلامِ التي عَرَفْتُهَا عن قربٍ وزَامَلْتُهَا في الواقعِ والافتراضي؛ فإنَّ منها ما أعجبني جلُّ إبداعِهِ وأقنعني ونفعني وأمتعني، ومنها ما أثَّرَ فيَّ بعضُ نتاجِهِ وأدهشني، ومنها ما أذهلني بتجلِّياتِهِ واجتاحَ ذائقتي واستوطنَ ذاكرتي. ومع أنَّني لستُ مُؤهَّلًا للحكمِ على أحدٍ؛ إلَّا أنَّني لا أملكُ إلَّا أنْ أُصَفِّقَ لتلكَ الأقلام؛ إعجابًا بها، وثناءً عليها. وبعيدًا عن النَّاعِقَةِ منها والنَّاعِيَةِ والْمُدَّعِيَةِ؛ فإنَّها الْوَاعِدَةُ والْمُبْدِعَةُ كثيرةٌ وجديرةٌ بالاهتمامِ والمُتابعةِ والعنايةِ والرِّعايةِ. بعضُها نَالَ حظًّا مِنَ المجدِ والانتشارِ والشُّهرة، وبعضُها ما زالَ مغمورًا ينتظرُ الإنصافَ والفرصةَ، وبعضُها جادٌّ ومُخلصٌ لرسالتهِ وتجربتهِ ولكنَّهُ لا يحفلُ بالشُّهرةِ ولا ينتظرُ الفرصةَ ولا الإنصافَ مِنْ أحدٍ، وبعضُها ما زالَ غافلًا أو غائبًا أو مُغيَّبًا وغَيْرَ مُدْرِكٍ لعظمةِ نعمةِ الإبداعِ والموهبةِ ولا لسموِّ الرِّسالةِ وأهميَّةِ الكلمةِ ولا لجسامةِ الأمانةِ والمسؤوليةِ، وإنْ كانَ مُدْرِكًا؛ فإنَّهُ –غالبًا- ما يكونُ مُهْمِلُا في حقِّ نفسِهِ ومُتهاوِنًا في حمايةِ نتاجِهِ، وبعضُها لا يسعى –مِنْ خلالِ الإبداعِ- لغَيْرِ التَّنفيسِ والتفريغِ والفضفضةِ؛ مِنْ دون تعقيدٍ أو تهويلٍ للمسألةِ، وبعضُها لا يطمحُ إلِّا لتحقيقِ مآربَ آنيَّةٍ مُعيَّنةٍ ضمنَ حدود ضيِّقة ودائرة مُغلقة، وبعضُها عابثٌ، لَا همَّ له ولا غايَةَ ولا هدفَ غَيْرَ الاستعراضِ والتَّسلِّي ومُمارسةِ العبثِ. والنَّاسُ أحرارٌ فيما يختارونَ لأنفسهم وفيما يصنعونَ بملكاتهم ومواهبهم؛ ولكنَّها الحياةُ جادَّةٌ، والقلمُ علينا جَارٍ ومُسلَّطٌ، ونحن -لا بُدَّ- مُحَاسَبُوْنَ.
شمّاء : لأيِّ قلمٍ تقفُ احترامًا؟ ولأيِّها تصرخُ في وجههِ مُعاتبًا أو مُوجِّها؟ ولأيِّها تقولُ: أنا أتعلَّمُ منكَ؟
محمد سلمان البلوي : أمَّا التَّعلُّمُ؛ فإنَّني أتعلَّمُ –ضمن استطاعتي- كلَّ ما هو مُمكنٌ وقابلٌ للتَّعَلُّمِ؛ مِنْ كلِّ ما فيه عِلْمٌ وكلِّ مَنْ هو قادرٌ على تعليمي، وأشكرُ كلَّ مَنْ عَلَّمَنِي، وأعذرُ مَنْ لَمْ يُعَلِّمْنِي. وأمَّا الأقلامُ؛ فإنَّني أحترمُ منها الْمُجْتَهِدَ، بغضِّ النَّظرِ عَنْ إجادته ومستوى إبداعه، وأُعاتبُ الظَّالمَ لنَفْسِهِ ولِغَيْرِهِ، ولا أُوَجِّهُ إلَّا مَنْ يسألني النُّصحَ والتَّوجيهَ؛ إنْ كانَ عندي ما أنصحه به وأُوجِّهه إليه. وأُضيفُ لما تقدَّمَ؛ أنَّني أنفرُ مِنَ الفجِّ المُتبجِّحِ، وإنْ كان مُتمكِّنًا ومُتفوِّقًا، ومِنَ الفاحشِ البذيءِ والسَّخيفِ السَّفيهِ، ويجذبني الْمُلْهَمَ الْمُلْهِمَ؛ الذي يُحرضُ على الإبداعِ، وعلى المُجاراةِ والمُحاكاةِ يُحفِّزُ، ويمنحُ أفكارًا جليلةً جذَّابةً، ويفتحُ آفاقًا رحبةً وجديدةً.
شمّاء : لِمَنْ تَقْرَأ؟
محمد سلمان البلوي : إنْ كانَ المقصودُ القراءةَ التَّقليديَّةَ؛ فإنَّني قارئٌ مُقِلٌّ وكسولٌ، سريعُ الْمَلَلِ والْعَطَبِ، كثيرُ التَّعَبِ، أمَّا إنْ كانَ المقصودُ القراءةَ بمفهومها المُنفتِحِ الرِّحْبِ؛ فإنَّني بالتَّأمُّلِ والملاحظةِ والتَّفَكُّرِ قارئٌ جيِّدٌ للحياةِ والأحياءِ والأشياءِ... وحتَّى للسُّكُوْنِ والفراغِ. وفي قراءتِي للكتبِ؛ فإنَّني –عادةً- أتصفَّحُ الْكِتَابَ تصفُّحًا سريعًا، ولا أقرؤُهُ كاملًا؛ إلَّا ما ندرَ. ورغم قراءاتي المُتواضعة من حيث الْكَمِّ؛ إِلَّا أنَّني أشعرُ أنِّي قد قرأتُ كثيرًا، وانتظرتُ طويلًا، وآنَ الأوانُ لأَنْ أكْتُبَ، ولأَنْ أكونَ كاتبًا أكثر منِّي قارئًا، ومُبلِّغًا أكثر منِّي مُتلقِّيًا، فإنَّه المُتبقي من عُمْرِي بالكادِ أنْ يكفي لأقولَ ما عندي. ولكي لا أكون قارئًا حتَّى في كتابتي، ولكي لا يتسرَّب إليها شيءٌ مِنْ كتاباتِ غَيْرِي؛ فإنَّ عليَّ أنْ أطردَ –قبل الكتابةِ أو حينها- من رأسي كلَّ ما قرأتُ؛ فإنَّهَا القراءاتُ العائمةُ في الرأسِ خطيرةٌ، وعلينا أنْ نحذرَ منها؛ ما لم تتحدْ فينا وتتأصَّلْ وتمتصها أرواحنا حتَّى القطرةِ الأخيرةِ. أمَّا لِمَنْ قرأتُ أو لِمَنْ أقراُ؟ فإنَّني قرأتُ لأقلام كثيرةٍ، وما زلتُ أقرأُ، منها -على سبيلِ الذِّكرِ لا الحصرِ- الرَّافعي، والمنفلوطي، والعقَّاد، وجبران، والماغوط، وكنفاني، والسَّياب، والشَّابي، ونزار، ودرويش، ومستغانمي...، وأدمنتُ القراءةَ للشَّاعرِ جمال خيري، وللأديب إبراهيم جابر إبراهيم.
شمّاء : كسولًا! إذًا مِنْ أين أتى هذا كلَّه؟! أو دعني أقولُ: أنَّى لكَ هذا؟ وهل قراءةُ الحياة تهبكَ ثروةً لغويةً كالتي تملك؟!
محمد سلمان البلوي : هذا من فضلِ اللهِ عليَّ؛ فالحمدُ لله والشُّكرُ. ثمَّ لِمَ التَّعجُّبُ؟ وعدا عن أنَّه اللهُ -سبحانه وتعالى- هو المُعلِّم الأوَّلُ والآخرُ، يعلِّمُ من يشاءُ، ويفتحُ على مَنْ يشاءُ، وأنَّه العلمُ القليلُ، الذي آتانا إيَّاهُ العلَّامُ العالمُ العليمُ، موجودٌ في جيناتنا؛ مُذْ علَّم اللهُ آدمَ الأسماءَ كلَّها؛ فإنَّني لَمْ أقلْ إنَّني لَمْ أقرأْ ولَمْ أتعلَّمْ؛ وإنَّما قلتُ: "إنَّني قارئٌ مُقِلٌّ وكسولٌ..."، أمضيتُ عمري الفائتِ أقرأُ وأتعلَّمُ؛ ولكنَّني تعلمتُ من الحياةِ أكثر ممَّا تعلَّمتُ من الكتبُ. وأتذكَّرُ أنُّه قد قالَ لي مُعلِّمٌ من مُعلِّميَّ -وأنا في المرحلةِ الدِّراسيَّةِ المُتوسِّطةِ-: "أنتَ مُعْجَمٌ!"، كما أنَّني أنهيتُ مراحلَ تعليمي -كلَّها- حتَّى التَّخرُّجَ، ولا أتذكَّرُ أنَّني أنهيتُ قراءةَ كتابٍ واحدٍ -من كتبِ المناهجِ المُقرَّرةِ عليَّ- قراءةً كاملةً. هذا أنا، وهذه حقيقةُ ما أنا فيه وعليه؛ أتعلَّمُ بالتَّأمُّلِ أكثر مِنْ تعلُّمي بالقلمِ، وأنهلُ مِنَ الحياةِ أكثر من نهلي من القراطيسِ والكتبِ. أفتِّشُ في السُّؤالِ عن إجابةٍ، وفي الإجابةِ عن سؤالٍ؛ حتَّى أجدَ في السُّؤالِ إِجابةً، وفي الإجابةِ سؤالًا. قرأتُ -في صغري- للمُتنبِّي، وأحمد رامي، وأحمد شوقي، والسيَّاب، ونازك الملائكة، وفدوى طوقان، ونزار قباني...، ثم تتابعتِ القراءاتُ حتَّى اللحظة، ولا أدري ما يكونُ من أمري خلالَ اللحظةِ، ولا بعدَ مرورِ اللحظةِ.
شمّاء : قالَ الأستاذ (محمود شاكر) في كتابهِ (رسالةٌ في الطَّريقِ إلى ثقافتنا): "الثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش, ولكن لا تتداخل تداخلاً يُفضي إلى الامتزاج البتّة". في ضوءِ هذا، وفي ضوءِ معرفتكَ بواقعِ الثَّقافةِ العربيَّةِ السَّائدةِ الآنَ؛ ما هو تعليقكَ؟
محمد سلمان البلوي : ما دامُ الأستاذُ (محمود شاكر) قد وصفها بالمُتباينة؛ فإنَّها قد تتقاربُ؛ ولكنَّها لا تمتزجُ، وقد تتداخلُ؛ ولكنَّها لا تتحدُ. ثم إنَّ التعدُّدَ والتَّنوعَ مفيدٌ ونافعٌ، ولو شاءَ اللهُ لجعلَ الناسَ أُمَّةً واحدةً، ولجعلَ الحضاراتِ والثقافاتِ حضارةً واحدةً وثقافةً واحدةً، وليس من الطبيعي ولا المفترضِ أنْ نكونَ نسخةً طبق الأصل عن غَيْرِنَا، ولا أنْ يكونَ غَيْرُنَا نسخةً عنَّا أو منَّا. على الثقافاتِ أنْ تتقاربَ لا أنْ تتطابقَ، وعليها أنْ تتكاملَ لا أنْ تتفاضلَ، وأنْ تتعاونَ لا أنْ تتصارعَ. أمَّا ثقافتنا العربيةُ المعاصرةُ فإنَّها مُخْتَطَفَةٌ ومقلوبةٌ رأسًا على عقبِ، والمُثقَّفُ الحقيقي مُهَمَّشٌ فيها ومُغَيَّبٌ ومُضْطَهَدٌ، ومَنْ ينظرُ لحالها ويُدقِّقُ في تفاصيلِ المشهدِ؛ سيكتشفُ –لا مَحَالَةَ- أسبابَ العلَّةِ ومكمنَ الدَّاءِ العُضالِ، والتَّشخيصُ لا يحتاجُ إلى عبقريَّةٍ وذكاءٍ خارقٍ، وليس الحلُّ مُستحيلًا ولا العلاجُ النَّاجعُ مُتَعَذِّرًا إلى حدِّ القنوطِ واليأسِ.
شمّاء :
كانَ (فلوبير) صاحبُ روايةِ (مدام بوفاري)، وهو مستغرقٌ في الكتابةِ، يُحِبُّ أنْ يروحَ ويجيءَ في الغرفةِ المُغلقةِ، ضاربًا الأرضَ بقدميه، ومُتفوِّهًا بكلماتٍ يرغبُ في التعرُّفِ على إيقاعها وتناغمها المُوسيقي، وصداها لدى القرَّاءِ، لاعنًا، باكيًا، مُطلقًا الأنينَ والصُّراخَ، مُردِّدًا أبياتًا من الشِّعرِ القديمِ؛ تُعينه على نحتِ جملةٍ ما. وعندما سألَ الخدمُ زوجتَهُ عمَّا يحدثُ في غرفةِ السَّيِّدِ (فلوبير)؛ أجابتْ: “السَّيِّدُ بصددِ تهذيبِ أُسلوبِهِ". ترى: كَيفَ هَذّبَ الأستاذُ "محمد" أُسلوبَهُ وَجعلَهُ بهذا الرُّقي؟ وَهلْ له مِن طقوسٍ خاصَّةٍ في الكِتابةِ؟
محمد سلمان البلوي :أشكركِ لثنائكِ الطَّيِّبِ على أُسلوبي المُتواضعِ، وأرجو أنْ أكونَ أهلًا له. لَمْ أتعجَّبْ من فعلِ السَّيِّدِ (فلوبير)؛ فالمُبدعُ غالبًا ما يكونُ -في لحظاتِ الْمَخَاضِ الإبداعي- مُنفصلًا عمَّا يُحيطُ به وعمَّن يُحيطونَ به ومُتَّصِلًا بهم في آن، انفصالَ الغريبِ واتصالَ الحبيبِ، ويكادُ الإبداعُ ذاته أنْ يُلامسَ سقفَ الجنونِ أو قاعَهُ، بل وأنْ يكونَ -في بعضِ الأحيانِ والأحوالِ- هو الجنونُ بعينه، إلَّا أنَّه جنونُ الإبداعِ مِنَ النَّوعِ الخلَّاقِ والمُؤقَّتِ، ومجنونُ الإبداعِ أشبهُ ما يكونُ بالفدائيِّ الذي يقتحمُ –مُتعمِّدًا- المخاطرَ والأهوالَ من أجلِ أنْ يظفرَ بالجمالِ ويقتربَ مِنْ حدودِ الكمالِ، ومع كلِّ نزالِ يخوضُهُ المُبدعُ؛ فإنَّه يغنمُ ويغرمُ في آن، وبإنجازاته يُخلِّدُ روحَهُ ويُفني بَدَنَهُ؛ حتَّى يستنفذَ قِوَاهُ –تمامًا- ويستهلكَ ذاتَهَ؛ فيرحلُ، وتبقى أعمالُهُ. أمَّا أنا؛ فلا طقوسَ لي -في الكتابة- ولا شعائرَ، وإنَّما أعتمدُ الأناةَ والصَّبرَ ثمَّ الصَّبر، وبسوطي أُهذِّبُ –إنْ لزمَ الأمرُ- أُسلوبي وأُشذِّبُ لُغتي؛ فبعضُ الكتاباتِ شرسةٌ وجامحةٌ، وتحتاجُ –في البدءِ- إلى التَّرويضِ؛ لترقَّ وتلين. كلُّ الكتاباتِ خطيرةٌ مهما بدتْ وادعةً ومُسالمةً؛ وأخطرها –على الإطلاقِ- هي الكتاباتُ التي تستدعيكَ إليها، ولا تأتيكَ مُنقادةً طائعةً مِنْ تلقاءِ نفسِهَا، الكتاباتُ التي تصرُّ على أنْ تكتبكَ؛ دون أنْ تعطيكَ الفرصةَ لكتابتِهَا، التي تُحرِّكُكَ وتتحكَّمُ بكَ وعليكَ تُهيمنُ وتُملي شروطَهَا وتفرضُ سطوتَهَا وسلطتَهَا. أمَّا أنا؛ فإنَّني -حين أكتبُ- أعجنُ الأفكارَ والمشاعرَ بماءِ الصَّبرِ، ثمَّ أُمهِلُ العجينةَ حتَّى تتخمَّر، ثمَّ أخبزها على نارٍ هادئةٍ حتَّى تنضج، ثم أهجرها وقتًا، قد يطولُ وقد يقصرُ، ثمَّ أعودُ لها مُعالجًا لا مُتوجِّعًا وناقدًا لا مُعجبًا، ثمَّ لا أدفعُ بالنَّصِّ إلى النَّشرِ حتَّى أحفظه كلّه عن ظهرِ قلبٍ، وقد ألجأُ للتَّعديلِ أثناءَ النَّشرِ، ولا أعتبرُ النَّصَّ قد خرجَ مِنْ يدي ليدِ المُتلقِّي ومِنْ ذمَّتي لذمَّةِ غَيْرِي؛ ما لَمْ أنشرْهُ ورقيًّا، ولذا فإنَّها جميعُ كتاباتي المنشورة إلكترونيًّا؛ ما زالتْ في عُهدتي وقابلةً للتعدِّيلِ مِنْ قِبَلِي؛ في أيِّ وقتٍ، ودونَ إنذارٍ مُسبَقٍ.
شمّاء : قلتَ: "دَعوها صَرخاتي تضيعُ في المدى، إنْ تلقفتها آذانكم تموت". هل تُفضِّلُ الصُّراخَ في مدى مفتوح على أن يرتدَ إليكَ صَوتكَ؟
محمد سلمان البلوي : أُفضِّلُ أنْ يبقى صوتي حُرًّا وبالحقِّ صادحًا، وإنْ ابتلَعَهُ المدى وضيَّعَهُ، على أنْ تستوعِبَهُ الصُّدورُ المُتعنِّتةُ والعقولُ المُتعفِّنةُ؛ فالمدى أكرمُ مَنَ القبورِ الفكريَّةِ وأطهرُ.
شمّاء : في كُلِّ ما كَتَبتَ؛ أجدُ المرأةَ حاضِرةً بقوَّةٍ، لكنِّي لا أشعرُ بها المرأةَ "الحبيبةَ" مُجرَّدة بذاتها! وأراكَ وظَّفتَ المرأةَ في كِتاباتكَ توظيفًا يُتيحُ لكَ أنْ: تصرخَ، وتنتفضَ، وتثورَ، وتغضبَ؛ كما تَشاءُ. فمرَّة هي الوطنُ، ومرَّة هي الأمنيةُ، ومرَّة هي الحلمُ الضَّائعُ، ومرَّة هي وطنُكَ العربي الكبير... . أجبني أستاذ مُحمد: لِمَ المرأةُ تَحديدًا؟
محمد سلمان البلوي : - لأنَّها مِنِّي؛ ثمَّ أنا منها، منحتُهَا ضلعي؛ ثمَّ استعدتُهُ من عظامِهَا كلِّها، أهديتها الاعوجاجَ؛ وأهدتني الاستقامةَ؛ جنينًا وطفلًا وشابًّا وشيخًا. لو أنصفتُهَا؛ لقلتُ: إنَّها الحياةُ في الحياةِ، والحياةُ للحياةِ، وإنَّها الجَّنَّةُ قبل المَمَاتِ. أموتُ في كلِّ يومٍ؛ ومنها أُبْعَثُ، وفي جنَّتها أَحْيَا وأَتَقَلَّبُ وأَتَنَعَّمُ، هي الرَّفيقةُ في الفانيةِ، والرَّفيقةُ في الآبدةِ، وفي محيايَ ومماتي لا غنى لي عنها؛ فالحمدُ للهِ؛ أنْ وهبَنِي إيَّاها أُمًّا وأُختًا وبنتًا وقريبةً وصديقةً وحبيبةً، والحمدُ للهِ؛ أنْ جعلَهَا لي سكنًا وجعلَ بيننا مودَّةً ورحمةً.
شمّاء : هل تَتَذكَّرُ أوَّلَ مَوضوعٍ كَتبته؟ ومتى بدأتَ الكتابةَ؟
محمد سلمان البلوي : لا أتذكَّرُ –تحديدًا- متى بدأتُ الكتابةَ، ولكنَّها في جيناتي كانتْ مُذ كنتُ جنينًا، وما زالتْ. ولا أتذكَّرُ عنوانَ الموضوعِ الأوَّلِ الذي كتبتُ؛ ولكنَّه كانَ نصًّا أدبيًّا في الأُقصُوصةِ، وكانَ في بدايةِ المرحلةِ الثَّانويةِ؛ حين كتبَ لنا –في ذلك الوقت- مُعلِّمُ اللُّغةِ العربيَّةِ على السَّبُّورَةِ: "زخَّاتُ رصاصٍ عنيفةٍ انهمرتْ صوبَ دَارِهِ، كانَ الوقتُ سَحَرًا، أفاقَ مِنْ إِغفاءَتِهِ..."، ثمَّ كلَّفنا بإكمالِ النَّصِّ بما نُريدُ وعلى النَّحو الذي نُريدُ؛ فأكملتُهُ، وأتذكَّرُ -جيِّدًا- أنَّه المُعلِّمُ لم يمنحني –بعد اطِّلاعه على النَّصِّ- درجةً مُحدَّدةً؛ كما فعلَ مع بقيَّةِ زُملائي؛ وإنَّما اكتفى بوضعِ مُلاحظةٍ تقولُ: "إنْ كانتْ هذه كتابَتُكَ؛ فإنِّني أُبشِّرُكَ بمُستقبلٍ زَاهِرٍ"، ثمَّ كلَّفني –حين راجعتُهُ مُستفسرًا عن المُلاحظةِ- بِكتابةِ موضوعٍ آخر؛ بعدَ أنْ اصطحبني معه إلى القاعةِ المُخصَّصةِ للمُعلِّمين، ثمَّ قارنَ بين الكتابتين... . ولقصَّتي مع ذلكَ المُعلِّمِ الفاضلِ بقيَّة، لا مجالَ لذكرها الآنَ، ولكنَّ اللَّافتَ فيها؛ أنَّه جاءَ المستقبلُ -وما زالَ يجيءُ- دونَ (زاهر)، والحمدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
شمّاء : أستاذ محمد: صِفْ لنا (زاهر) كيف تكون هيئته؟
محمد سلمان البلوي : إنَّه الحلمُ والأمنيةُ والأملُ؛ الذي يحتجبُ عنِّي بالمجهولِ، ويُماطلني في الوصولِ، ويُلوِّحُ لي بعلاماتِ التَّعجُّبِ والسُّؤالِ، ويحضّني -بالوعودِ والعهودِ- على الانتظارِ؛ وكلَّما حانَ الأجلُ؛ نكثَ وأخلفَ، ثمَّ اعتذرَ، ثمَّ عادَ؛ فوعدَ وتعهَّدَ. إنَّه يُشبهني في هَيْئَتِي وملامحي ولوني ورائحتي؛ إلَّا أنَّهُ يعرفني؛ ولا أعرفُهُ، ويراني؛ ولا أراهُ، ويسمعني؛ ولا أسمعه، ومع أنَّني أُحسُّ به -أحيانًا- وأشعرُ؛ إلَّا أنَّني عاجزٌ -حتَّى اللحظة- عن الإمساكِ به.
شمّاء : حدِّثنا عن رحلتكَ في فضاءِ العالمِ الافتراضي، متى بدأتْ وكيف هي؟
محمد سلمان البلوي : مُصادفةً بدأتْ، ومُصادفةً أظنُّهَا ستنتهي، كانتِ البدايةُ في العام (2006)؛ من خلالِ موقعٍ عربي عامٍّ، ثمُّ سريعًا تحوَّلتُ إلى المواقعِ الأدبيَّةِ والثَّقافيَّةِ، مُستطلِعًا ومُستكشفًا ومُراقِبًا ومُتابِعًا أكثر مِنِّي مُساهِمًا ومُتفاعِلًا، وكنتُ حذرًا جدًّا، وفي الوقتِ ذاته؛ لم أكنْ جادًّا، ولا أذكرُ أنَّني ألقيتُ –في ذلك الوقت- في جوفِ المُلتقياتِ إلَّا ما يُمكنُ التَّضحية به والاستغناء عنه، ولا أطعمتُ نيرانَهَا إلَّا الهزيلَ من كتاباتي والرَّكيكَ من مشاركاتي، ثمَّ تنقَّلتُ من موقعٍ إلى موقعٍ، ومع كلِّ انتقالٍ؛ كانتِ الرؤيةُ تتضحُ أكثر، والتَّجربةُ تنضجُ، وعُرَى التَّواصلِ مع الآخرينَ تتوثَّقُ وتتعمَّقُ، حتَّى حظيتُ بشبكةٍ من المعارفِ والصَّداقاتِ، أعتزُّ بهم كثيرًا، وفي هذهِ الأثناءِ؛ بدأتُ آخذُ النَّشرَ الإلكتروني على محملِ الجدِّ، ثمَّ ولجتُ في النَّفقِ الإداري لبعضِ المُلتقياتِ، ثمَّ هجرتها (عام 2010) مُتوجِّهًا إلى مواقعِ التَّواصلِ الاجتماعي، حيثُ استقرَّ بي المُقامُ، ولكنَّي أعودُ -من حينٍ لآخر- إلى المُلتقياتِ؛ بتواصلٍ مُتواضعٍ، وتفاعُلٍ مُتذبذبٍ ومُقصِّرٍ مع الزَّميلاتِ والزُّملاءِ، بل إنِّني أكادُ أنْ أكونَ –في بعضها- عضوًا خاملًا، وفي كثيرٍ منها غائبًا تمامًا ومُنقطعًا.
شمّاء : وسائلُ التَّواصلِ الاجتماعي كانتْ السببَ المُباشرَ لهَجرِ المنتدياتِ، ورغم ذلكَ فإنَّها (أبعاد) صامدةٌ! فما هي نصيحتكَ لأعضاءِ (أبعاد أدبيَّة)؟
محمد سلمان البلوي :
ليستْ (أبعادُ) صامدةً في وَجْهِ الزَّحفِ المهولِ والمُتسارعِ لمواقعِ التَّواصلِ الاجتماعيِّ فحسب؛ وإنَّما هي صامدةٌ –أيضًا- في وَجْهِ نرجسيةِ المُبدعينَ مِنَ الأعضاءِ وتقلُّباتِ أمزجتهم، وكذلكَ في وَجْهِ المُنافسةِ الشَّديدةِ مِنْ قِبَلِ المواقعِ الأُخرى، وفي وَجْهِ الفوضى التي تسودُ الفضاءَ الإلكتروني العربي، وفي وَجْهِ الانفلاتِ الأخلاقي والدِّيني والقانوني...، وفي وَجْهِ عقباتٍ ومعوقاتٍ وعراقيل أُخرى؛ يطولُ الحديثُ فيها وعنها ويتشعَّبُ. أمَّا النَّصيحةُ؛ فإنَّني لا أجدُ -لنفسي ولا لهم- أفضل مِنْ تقوى الله ثمَّ الاستقامة.
شمّاء : مَن يَقفُ وراءَ (مُحمد سلمان البلوي)؟
محمد سلمان البلوي : الفضلُ للهِ أوَّلًا وآخرًا، ثمَّ لأُولي الفضلِ مِنْ أهلِ الفضلِ، وأكثرُ النَّاسِ عليَّ فضلًا –بعد رسولِ اللهِ (عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ)- هُمْ: أُمِّي، وأبي (رحمهما اللهُ). ثمَّ كلُّ مَنْ علَّمني وأدَّبني وأعانني وساندني وأسعدني واستوعبني ومنحني مِنْ محبَّتِهِ ومِنْ وقتِهِ ومِنْ جُهدِهِ ومِنْ صبرِهِ وصفحِهِ وحُسِن ظنِّهِ وثقتِهِ.
شمّاء :لو منحتُكَ وَرَقةً بيضاء، وطلبتُ منكَ أنْ توضِّحَ لنا فيها؛ مَن يَكونُ (محمد سلمان البلوي) ؛ فماذا ستقولُ؟ أو كيفَ سَتفعلُ هذا؟
محمد سلمان البلوي : ثمَّة أسئلةٌ نعجزُ عَنِ الإجابةَ عنها، وقَدَرُهَا أنْ تظلَّ أسئلةً بلا أجوبةٍ -إلى ما شاءَ اللهُ- منها –مثلًا-: (مَنْ أنت؟ ، ماذا تريد؟)؛ إذْ لو عرفتُ مَنْ أنا؛ لعرفتُ ما أريدُ، ولو عرفتُ ما أريدُ؛ لعرفتُ مَنْ أنا. وهذا صعبٌ! لأنَّهُ الإنسانُ مُتحرِّكٌ، وفي نموٍّ دائمٍ وتحوُّلٍ وتغيُّرٍ، وعملياتُ البناءِ والهدمِ فيه لا تتوقَّفُ، وكذا عملياتُ الكسبِ والخسارةِ؛ ولذا فإنَّني سَأَعْتَمِدُ الْمُنَاوَرَةَ وأَتَعَمَّدُ الإجابةَ الْمُوَارِبَةَ؛ فأقولُ -والقولُ لي-: إِنَّهُ أَعْمَى، إِنَّنَا لَا نَرَاهُ. أَمَّا الورقةُ البيضاءُ/الفارغةُ؛ فإنَّ خيرَ ما أفعله بها ولها -على الإطلاقِ- هو أنْ أَتْرُكَهَا لِبَيَاضِهَا الْبَلِيْغ، أو أنْ أَتْرُكَ لها بَيَاضَهَا الْبَلِيْغ، أو أنْ أصنعَ منها نافذةً وَرَقِيَّةً، ثمَّ أُشيرُ إليها قائلًا: هذا أنا .. رُبَّمَا!.
شمّاء : توقَّعتُ أنْ تصنعَ منها نافذةً ورقيَّةً؛ ولكن لَمْ أتوقَّعْ أنْ تتركها لبياضها؛ فهل حروفكَ تُدنِّسها؟!
محمد سلمان البلوي : لا، ولكنَّه بياضُهَا أبلغُ وأطهرُ، وفراغُهَا أرحبُ وأعمقُ، وملامحُهَا - مِنْ دون تحبيرٍ- أبهى وأجملُ. وإنْ صنعتُ منها نافذةً ورقيَّةً مُشرعةً؛ مكَّنتُهَا مِنَ الانعتاقِ مِنْ ذاتِهَا، ومِنَ التَّحليقِ في فضاءِ الاحتمالاتِ كلِّها، ومع ذلكَ؛ فإنَّ إبقائي لها على حالِهَا؛ أفضلُ لي ولها؛ فلِمَ أُخْضِعُهَا بقلمي، وبكلماتي أسْتَعْبِدُهَا؛ وهي الْحرَّةُ ببياضِهَا وفراغِهَا، والمُسَالِمَةُ بصمتِهَا!.
شمّاء :
هُنا وَصيتك الغريبة:
"لَكُمُ الْبِلَادُ كُلُّهَا،
ولِي قَلْبِي الْعَلِيْل،
فَإِذَا مِتُّ؛
فَاجْعَلُوْهُ قَبْرِي،
ولَا تَنْثُرُوا الْحُزْنَ عَلَيْهِ،
ولَا تَحْمِلُوا الْوَرْدَ إِلَيَّ؛
فَتَقْتُلُوْنِي مَرَّتَيْنِ."
هل لَنا أن نَعرف مَنْ قَتَلَكَ أولًا؟
محمد سلمان البلوي : أنا أوَّلُ قَتَلَتِي وآخِرُهُمْ، بالكتابةِ أَغْتَالُنِي، وبِيَدِي لا بِيَدِ عَمْرُو سأموتُ، واللهُ أعلمُ.
شمّاء :
اخْتَرْتَ ميتَةَ الصَّقرِ؛ ولكن على الورق؟!
محمد سلمان البلوي : بل اخْتَرْتُ حياةَ العاشقِ في قلوبِ مَنْ أَحَبَّهُمْ وأًحَبُّوْهُ.
شمّاء
أستاذ محمد ، تعلّمنا منّكَ الكثير ، وأمتعتنا إجاباتك الثريّة !
شكرًا لك