رؤية نقدية ... ما هو المؤلف؟! *
يبدو عنوان مقالنا هذا مستثقلا أو خاطئا من حيث صيغة الاستفهام، إذ من الأليق استعمال صيغة استفهام العاقل، فنقول : “من هو المؤلف؟”. لكن استبعاد تلك الصيغة وطرح السؤال على هذا النحو مقصود، إذ به نستهدف استحضار عنوان محاضرة ألقاها ميشيل فوكو سنة 1969 Qu~ est ce qu un auteur? حرص فيها صاحب “الكلمات والأشياء” على أن يطرح السؤال بصيغة “ما هو المؤلف؟”، لا “من هو المؤلف؟”.
وتندرج هذه المحاضرة في سياق مناخ فكري شغل فرنسا في تلك اللحظة تمحور حول استبعاد ذاتية المؤلف نقديا. إذ قبله بحوالي سنة نشر رولان بارت مقالته الشهيرة “موت المؤلف”، التي تشترك معها مقالة فوكو في التوجه نفسه، فالصيغة الاستفهامية التي طُرح بها السؤال عند فوكو كافية بحد ذاتها للدلالة على تمويت الماهية الإنسانية للمؤلف واستبعاده.
ومما يجدر استحضاره هنا أن هذه المحاضرة كانت استجابة لدعوة قدمتها له الجمعية الفرنسية للفلسفة، وقد نظر إلى الدعوة وقتها بوصفها اعترافا بفيلسوف مابعد حداثي من قبل مؤسسة فكرية تعد معقل التوجه الفلسفي الكلاسيكي الفرنسي، فيلسوف أثار الكثير من الصخب بسبب مخالفته للنزعة التاريخانية والنظرة الكلاسيكية التي هيمنت على الدرس والتاريخ الفلسفي في فرنسا.
لكن المفارقة أن عنوان ومحتوى محاضرته كان نقدا لاذعا لهذه المؤسسة وللنموذج المنهجي الذي تمثله،فإن كانت هي قد اعترفت به، فقد جاءها فوكو غير معترف بنهجها في النظر إلى التاريخ الثقافي. حيث جاءها ليؤكد أن المؤلف مجرد اختراع ابتدعته ثقافة القرن السابع عشر، أي أن ميلاده وابتداء كينونته يرجعان إلى هذه اللحظة التاريخية لحظة التأسيس للحداثة - ففيها سيتجه الفكر الغربي إلى نمذجة الخطابات وضبطها بإرجاعها إلى ذوات ألفتها.
لكن قبل إلقاء هذه المحاضرة، كان فوكو قد اشتهر بكتابه “الكلمات والأشياء”1969 الذي كان مقاربة “لا تاريخية” لتاريخ الفكر والفلسفة والآداب الأوروبية.
حيث انتهج فيه أسلوبا منهجيا يخالف المعهود في قراءة تاريخ الأدب والفكر عامة. فبدل استحضار الشخصيات وتفسير الأعمال/ المؤلفات بإرجاعها إلى حيواتهم، كان فوكو يبحث عن بنيات ونظم معرفية هي المتحكمة في إنتاج الخطاب؛ بنيات تزيح المؤلف من موقعه وتحيله مجرد أداة يستعملها “الإبستمي” أو النظام المعرفي والثقافي السائد. إنه تحليل لتاريخ الأدب والفلسفة بوصفها تاريخ خطابات إنتاجات لغوية فكرية بدون مؤلفيها ومبدعيها. وفي كتابه “أركيولوجية المعرفة” حرص فوكو على تقديم رؤيته المنهجية إلى تاريخ الفكر. فكان عمله من حيث منهاجه الإجرائي كعمل رجل الحفريات، يحفر في طبقات الأرض مع الوعي بأن لكل طبقة خصائصها وبنيتها. وكذلك الشأن بالنسبة لحقب التاريخ الثقافي، حيث يراه مجزأ إلى طبقات كل واحدة منها تخضع لنظام معرفي يتحكم في آليات إنتاج المعنى داخلها.
ومن ثم يغدو الاهتمام بدراسة المؤلفين وحيواتهم وربط نتاجهم الفكري/ الأدبي بهم عملا لا قيمة له برسم منهجية فوكو؛ لأن النتاج الفكري/ الأدبي ينضبط في كل لحظة بنظام/ ابستمي سائد، و لا ينضبط بإرادة “مؤلفه”.
لقد كان المؤلف في النظريات النقدية الكلاسيكية والحداثية منتج المعنى ومبدع الخطاب، ولذا فقد تمحور النقد الفني حول شخصيته وحام حولها، واتخذ النفاذ إليها مسلكا للنفاذ إلى النص وفهم دلالته. وفي تحليلهم لنظريات موت المؤلف التي التمعت في السبعينات في فرنسا ينبه النقاد والمؤرخون إلى أن هذه النظرية جاءت نقدا حادا وثائرا على الدرس النقدي الجامعي من قبل الفلاسفة الجدد (بارت، فوكو..) حيث كان هذا الدرس خاضعا لتقليد موروث يتأسس على منهج نقدي مستمد من جوستاف لانصون الذي كان يعالج تاريخ الأدب عبر تحليل شخصية المؤلف، وربط فهم دلالة النص/ النتاج بفهم شخصية مبدعه. ولذا يرى المؤرخون أنه ضد هذه المركزية التي كان المؤلف يتمتع بها في النقد والدرس الأدبيين، وضدا على النموذج اللانصوني تحديدا جاءت أفكار بارت وفوكو.
بيد أن هذا التحليل في تقديري يغفل عن دلالة أعمق فلم تكن نظرية فوكو وبارت مجرد رد فعل ضد منهج نقدي يتم به تناول تاريخ الأدب في مدرج الجامعات الفرنسية، إنما تمويت المؤلف نظرية أوسع وأعمق من أن تختزل في حدود حقل النقد الأدبي والفني. كما أن الثورة على مركزية المؤلف لا ترجع إلى فوكو وبارت،بل هي فكرة أخذت في الالتماع منذ بداية القرن العشرين ضمن تيارات ومقاربات عديدة من أهمها التيار الشكلاني الروسي. كما أنه من بين الرموز التي تستحق أن تستحضر هنا، ذلك النقد الحاد الذي قدمه بروست ضد سانت بوف. لكن هذا كله يتأطر ضمن مناخ من التحولات الفلسفية التي طرأت على الثقافة الأوروبية، والتي خلخلت مركزية الذات/ العقل، وخاصة نظرية التحليل النفسي الفرويدي التي همشت العقل كليا وأبرزت الأبعاد اللاعقلية في كينونة الإنسان، وأرجعت إليها أسباب الفعل والإبداع. إذ بفعل هذا التفكيك الفلسفي والسيكولوجي أصبحت قصدية المؤلف وذاتيته كينونة لا قيمة لها و لا إرادة و لا تأثير، ومن ثم تهيأ للنقد الفني المسوغات النظرية والفلسفية لإزاحة المؤلف عن عرشه وزحزحة مركزيته التي شغلها في النظريات النقدية الكلاسيكية على اختلافها وتباين توجهاتها. بيد أنها لم تكن زحزحة عادية،بل تطورت إلى حد تمويت المؤلف،واستثنائه من فضاء النقد الأدبي/ الفني.
ومن بين المرتكزات النظرية التي ساعدت النقد الأدبي/الفني على التأسيس لموقفه الجذري من المؤلف حتى بلغ إلى درجة النفي والاستبعاد والتمويت، ثمة مرتكز نظري هام تبلور في نظرية اللغة. فقد ارتسم في الفكر الفلسفي واللساني الغربي تحول هام أحدث نقلة في النظر إلى اللغة، فتحول عن اعتبارها مجرد وسيلة إلى اعتبارها نظاما ونسقا يتحكم في الذات. ومن ثم فالمؤلف/ الكاتب في إنجازه لنصه الأدبي ليس حرا و لا مريدا و لا مختارا، إنما هو أداة تستعملها مؤسسة اللغة. ومن هنا يصبح إنتاج الدلالة خاضعا لآليات وأعراف وقوانين خارج إرادة المؤلف، بل متحكمة فيه. ومن ثم فالمسلك إلى دلالة النص لا يمر عبر إرادة المؤلف وشخصيته بل من عوامل خارجة عن إرادته ووعيه القصدي، فالنتاج الفني هو نسق مستقل عن مبدعه.
وحتى مفهوم التناص هو في عمقه الفلسفي تأسيس لنفي المؤلف واستبعاد ذاته، فالتناص يحيل النص خطاباً متعدد الأصوات، ومن ثم لا يعود المؤلف هو الصوت الواحد المتداول، بل ثمة مؤلفون متعددون ينطقون داخل نص المؤلف سواء بإرادته أو بضدها. لأن النص مؤسس على نصوص عدة، ويستثمر مخزونا ثقافيا متعددا.
من هنا نفهم لماذا ركز بارت في مقالته “موت المؤلف” على استحضار البعد الوظيفي المهيمن للغة، حتى انتهى إلى إرجاع النص الأدبي إلى اللغة لا إلى المؤلف. فلم يعد النص عنده نتاج إبداع لذاتية مؤلفه، بل أصبح نتاج نظام ونسق لغوي. كما أن النص لم يعد نتاجا مقفلا،بل منتجا للدلالات.
إن استبعاد المؤلف انتهى إلى توثين اللغة والرفع من شأن النص وفعل القراءة.
كتب / د.الطيب بوعزة