يا لتلك الوساوس الراقدة برأسي تلك التي أقسمتْ ألا تبرح قبل أَن تُتِّم أباطيلها،
آثامها والمكائـد
مَنْ يُقنعها أنْ تمضي فقد فرَّ الفجر مُشيّعاً صلاتي والخشوع.
ليلتكِ هانئة يا هند ,
قليلكِ الذي تدسينه بصدري - يا سخية - ساعة لقاء كثير جداً , أوسع من حيز قلبي والفرح
وكلّ كثيري المتصحر - يا واسعة الخضرة - أقل من بعض بعض بعض ما تستحقين .
آهـ يا هند لو تعلمين كم أشتاق إليكِ , إلى صباحات وجهك وقلبك و إليّ ساعة كنتُ أُشبهك.
هند،
تشغلُ رأسي الآن نرجسة شمالية تذوي أمامي شيئاً فشيئاً منذ اقتلعها عاشق جسور من فوق قمة جبل أشم وغرسها
على ضفاف دجلة فأنبتَ روضها ست سنابل وجبلين , قطف الأغراب سنابلها وسُيَّر الجبلان , تلك النّرجسة
التي تُعيذني كلّ ليلة من الشّياطين وتنسى أنْ تُعيذني مني ,تلك البهية التي وسع غفرانها كلّ طيشي ,وتمردي
ولعنة الغليان في دمي بصبر جميل , تلك التي أورثتني عشق النايات حين تغازل قلبي والمروج بنغم تركي يدنو
من الرّوح ولا يبرح , تلك التي تدّعي أني أجمل أقدارها وأُصدّق كذبتها بقلبٍ سعيد , تلك التي تُزهر وجنتيها كلّما
لاحتْ رؤوس الجبال في مداها , تلك التي يلتهم المرض عافيتها ببطء ويفترس صبري ويتركني وإياها شاحبتين كـكبشين
ينتظران دورهما في النحر , تلك النّرجسة سبيلي إليكِ ,إلى الحياة , إلى الألوان وإلى العطر والجنّان
ما حيلتي - يا هند - لو قطعتْ الأقدار ذاك السّبيل ؟!!
يااااه يا صديقتي ,
كم أتشهى عودةَ لحظة منفية , لحظة لا تسألني _ عند مرورها _ عن هويتي وماذا أُريد ,
لحظة تتسرب من خلف أقفاص العمر بخفية , لحظة تفقد _ بحلولها _ الأشياءُ كلُّ الأشياء صوتها وذاكرتها
لحظة تُنسيني أَنَّ كلَّ الأُمنيات قضتْ في حادث قدري مروع وأنَّ قلبي لم يحتمل تلك الصّدمة فمات هو الآخر
لحظة لا تعنى بالمبادئ المتعفنة في رأسي جراء عوز المواجهة ونقص الاستخدام
لحظة تُخليني مني فاستريح .
أبوسع المنفى يا هند أنْ يُعيد تلك الأعمار التي ابتلعها ؟!
وبعد ,
طويلاً تمنيت ألا أعيش خاوية ,غير ممتلئة بقضية ,تمنيت أنْ أعيش بمعنى كبير وأموت لمعنى أكبر حلمتُ أَن يقرأ
أحفادي اسمي في كُتب التأريخ ,ويخبّروا أصحابهم أنَّي جدّتهم ليشعروا وأشعرُ بالفخر ولكن , يا للخسارة !
كنتُ وما زلتُ مغمورة جداً وما كنتُ أملك شيئاً يحرّضني على الشُّعور بالفخر تخيّلي حتّى أني لم أجد اسمي مدوناً
في دليل هاتف المدينة ,ولكنّ حين عرفتكِ تراءى لي اسمي مكتوباً بالذّهب على أطهر الكتب / القلوب البشرية التي
عرفتها فـشعرتُ بالفخر , ذلك الشّيء الذي لم أتذوقه منذ ولدت حتّى ألفيتُكِ ترتلين بصدري آية البهاء .
ايه يا صديقة البيادر ,
لمْ أعدْ أُحسنُ الكتابة كما يجب ولا الصّمت في حضرة بياضك كما ينبغي ولا قطف الكلام حين ينضج
في صدري ويتوق قلبكِ لتذوقه كما تشتهين !
أوَتسألينني مُتعبة ؟!
بلى يا هند , متعبة كـوسادة مُنهكة رُفعتْ رُغماً عنها من فوق سرير يتوسط غرفة فندق لأنَّها فقدتْ طاقتها
على استيعاب وحمل ما جاء به رأس النّازل الجديد .
مرهقة كثيراً , بقدر الوحشة التي تحيط بي حين يغيب صوتك, بقدر الخيبة التي تتعاظم بصدري
كلّما باعدتْ يقظة جائرة بين كفيّنا , بطول السؤال الذي ينتصب أمامي كطود عظيم كلّما أخفيتُ لهفتي
عنكِ بقناع من فتور, بقدر عطشي إليكِ يا آخر الكؤوس الباردة والعابرة من أنهار الحياة العذبة , بقدر
ما يرتكب الطين من حماقات وحرائق هنا وهناك .
بلى يا هند , حتّى الطين يشتعل ويساعد على الاشتعال ,
أعلمُ أنَّها الخاصّية التي لا تقرُّها الكيمياء ولا تدركها أبصار المكبّلين بأصفاد القاعدة العلمية وشريعة
الجدول الدوري ودستور ابن حيّان , وحدهم النُّبلاء يدركون أنَّ التراب المبلل يحترق, تُضرم بوجدانه
النيران والوساوس ,يصطلي ,يتبخر ماؤه ويغدو هشيماً كما نفعل نحن سلالة الطين مع كلّ زلزلة
تفجّر في ذرآتنا المبللة ألف سعير وسعير .
غاضبةٌ _ يا هند _ حدّ الاشتعال كـأبريق تيّبس جوفه فوق نار طائشة بانتظار أن يستكين بعد أن تنهي
سيدته كلامها الفارغ والمعيق لسيل من الكلام الممتلئ الماكث فوق كلّ الشّفاه / القلوب القلقة على دروب الأثير
الظنّ يا رفيقتي مطر أسود يحرق سنابل القلب الآمنة حتّى تغدو
طمأنينتها رماداً , مطراً أحلك من قِطاف الحقيقة
حين تمتهن الأخيرة فلاحة السّراب بمعولٍ من دوائر عاجزة عن الوصول والإيمان .
خليلتي ,
أخبري اليقظة البائسة عني أني لَنْ أكفَّ عن التحليق بأحلامي
وإنْ ظلّتْ تصرخ بوجهي كما تفعل مركبتي حينما تُصاب بالهلع
كلّما اجتزتُ سرعتها الآمنة أو ما حسبتها آمنة
فأيُّ حمقٍ أنْ أُصدَّق أنَّ البطء صنعة العقلاء ومزية الآمنين
ودروب الأقدار لا تمنح تيجان الفوز إلا للواصلين أولاً .
هند,
يا آخر الأكتاف التي حملتْ رأس الفجيعة بكلّ نخوة
لابد هذه الليلة أن أُلقي نقطة الرَّحمة على ما تبقى لديّك من بياض لم تحله سطوري رماداً بعد
سأصمت لبعض الوقت سأنتهجه وسيلة أتجمّل بها خشية أنْ يدلّلكم صوتي _ بما يسوقه من كلام _ إلى كلّ تلك البقاع
الضّالّة والمجدبة بصدري فيُفزعكم ما تجدون من خواء فتفرون وأنتم تلعنون الأرض _ صدري _ التي انبتتْه .
لا شيء لديّ يا هند أهديكِ إياه , لاشيء بهذا الخافق المريض يليق بصخبكِ وبالحياة التي تُثيرينها بي رغماً
عن الموت الذي يسكن مدائني والأُمنيات , لا شيء على لساني يجلب الدّهشة فيحفزكِ لانتظار قادم أشهى وألذّ ,
كلّ كلامي يا صديقة القزح تراب ورماد وعلى سفوح قلبكِ تتراقص المروج بانتظار الضّياء والمطر.
رسائلي مدائن خاوية والقلب الذي مدّها بالحبر والحزن شبح عالق بين الرّحيل والإياب لا يستشعر قيده أحد ولا
طاقة له على إيقاظ حرف متعب من ألف عام و رحيل .
أريد أن أنام يا هند , أنام ولا أستفيق أبداً .
.
.