.
عن مثقف " ولكنْ " ..
يقول الكاتب الفلسطيني
أحمد برقاوي ..
حين يجد المثقف نفسه وجهاً لوجه أمام التحولات الكبرى في تاريخ ينتمي إليه، التحولات التي تحدد المصير، فإنّه يتحول في كل أحواله إلى ذات مندرجة في هذا التاريخ العاصف المرتبط كما قلنا بفكرة المصير. ذات لا تملك إلا الكلام، الكلام المعبر عن موقف، هو في كل تعيناته مسؤول. بل إن أثره على حركة التاريخ، سلباً كان هذا الأثر أم كان إيجاباً لا يقل فاعلية عن أثر المندرج عملياً في معمعمة الصراع المادي.
خطاب المثقف الحر: الشاعر، القاص، الروائي، الفنان، الفيلسوف، المفكر، الصحفي المنتمي دون لَبْس إلى حركة التاريخ المؤسس للحرية، خطاب واضح وصريح، خطاب مؤسس على موقف أخلاقي سامٍ وشجاع. وخطاب المثقف العبد المنتمي إلى الوسخ التاريخي وإلى الطاغية هو الآخر، خطاب واضح وصريح، خطاب مؤسس على انحطاط أخلاقي دنيء.
يمنح الوضوح والموقف الصريح كلا الخطابين القدرة على الوصول المباشر إلى المتلقي من حيث ماهيته. وصار قادراً على التمييز المباشر بين مثقف الثورة والحريّة ومثقف الوسخ التاريخي السلطوي والعبودية.
غير أنّ أسوأ أنواع الخطابات هو الخطاب المخاتل. والمخاتلة تعني المراوغة والمخادعة والمغافلة.
في الخطاب المخاتل نعثر على مثقف يخاف الظهور على صورة المثقف العبد، ويبحث عن لغة يهرب فيها من عبوديته، والظهور بمظهر الحر عبر حرف الاستدراك "لكنْ".
لكن - حرف الاستدراك هذا هو جسر للانتقال إلى مكبوته بشكل واعٍ بلغة تتحفظ على خطاب الحر بحجة النقص والنسبية فيه.
مثقف "ولكن" هذا لا يريد أن يظهر بمظهر المعادي للقيم الإنسانية الرفيعة المعبرة عن الحرية أساساً وما يدور في عالمها من قيم؛ لأنه إن فعل ذلك وقع فوراً في مستنقع العدوان على الإنسان عموماً، وعلى الإنسان المكافح من أجل حريته الآن، ولهذا تراه يركب لغة القيم هذه ثم يتوقف عند "ولكن". تسمح له "ولكن" هذه أن يضعنا في اختيار أحد مستنقعين، أو إحدى عبوديتين. فإما أصولية مدمرة أو دكتاتورية مدمرة، وعليه يعلن مثقف "ولكن" حقيقة موقفه باختيار الدكتاتورية المدمرة.
ينتمي مثقف "ولكن" بالأصل إلى فضاء التحرر، حين لم يكن الموقف من التحرر يتطلب الشجاعة في القول من جهة، وحين كان الظهور عبر خطاب الحرية والتمرد عادياً، أما وإنه وجد نفسه في لحظة الخيار الشجاع، خيار الحرية، خيار المسؤولية، خيار الموقف من ثورة شعب، فإنه لم يستطع إلا أن يعود إلى هويته المخفية عن عمد، فاختار أن يكون مثقف "ولكن"، معتقداً بأنه عبر "ولكن" لا يخسر ماضيه، أو يحتفظ بماضيه وبصورته التي فضحتها "ولكن ".
ففي الوقت الذي يعلن فيه مثقف التمرد الكلي، أو التمرد الميتافيزيقي، الموقف الواضح والصريح ضد الأصولية القاتلة مهما كان مذهبها والدكتاتورية القاتلة مهما كانت طبيعتها، فإن مثقف "ولكن" يعلن بكل شجاعة زائفة وقوفه ضد نمط من الأصولية ويمجد أخرى، فيركب باسم وقوفه ضد نمط وحيد من الأصولوية "ولكن" ليعلن انتماءه الحقيقي للدكتاتورية.
ومثقف "ولكن" لا يكتفي بالغرق في مستنقع الدكتاتورية، بل يتحول إلى شتّام لمثقف الوضوح والانتماء إلى الحرية والتحرر، فترى الشاعر "البكّاء" الغاضب على العالم يتحول إلى شاعر "ولكن" وشتّاماً، فتدرك من فورك أنّ هذا "البكّاء" لم يكن يبكي إلا على وضعه الفردي الخاص، لم يكن متمرداً إلا على وجوده الخاص. ولهذا ما أن وضع أمام خيار الموقف من حركة الحياة، خيار إما أن يكون مع روح الشعب ضد الدكتاتور والأصولية بكل أنواعها ، أو مع الدكتاتور وأصولياته، وقف مع الدكتاتور وأصولياته، باسم موقف ضد أصولية مجرمة هي الأخرى.
ولعمري لو لم يكن مثقف "ولكن" بالأصل غارقاً في هويته الزائفة الضيقة، لما كشفت الحياة انحطاطه الأخلاقي هذا.