شهدَ الخليِّ وغسلين المحبينــا
مسـّاكِ بالخير ، ماذا لو تمسينا ؟
انتخبتُ لكِ مطلع قصيدة ( زجاج العمر ) ألقيه عليكِ تحيّةً كـ ما فعل قائله
حين أقبل مشتاقاً لمدينته .
طيّبَ الله كلَّ أوقاتـك يا مدينتي الخضراء
أخبريني مالمشترك بينكِ وبين الماء يا هند ؟
لِمَ كلّما لمحت أحدكما أو سمعت صوته دبت بأوردتي الحياة حدائق وعصافير ؟!.
ويسألونني عنكِ !
مَنْ تكون تلك الماكثة فوق أهدابك, تلك التي تنساب على وجنتيكِ دمعة وضاءة ذات حزن
بليغ وتمتد بسمة مشرقة تزهق بحلولها كلّ خصومات الكون من حولي ذات بهجة
وأُخبرهم أنَّكِ ساعةٌ مضت ولو بُعثت أُخرى تلدني أُمّي بلقيسا, فيشقون قلبي بحثاً عن الهدهد
وأُخبرهم أنْ لا تسترشدوا بدليلٍ ضيعته قبل أن تتوارد الخيبات إلى صدري نبأ يقيناً
آهـ يا كلَّ الحكايات ,يا فرحاً أقام في سماء ليلٍ فاقد بدرهـ عرس ضوء لا ينطفئ !
الرّسائل الرّسائل ولا شيء سواها يا صديقة العصافير والنوافذ الضّاحكة
الرسائل يا هند نعوش من ورق تخبئ بين طياتها والسُّطور رماد الأيام الماضية وما استبطنتْ من
أقداروما خطاباتي إليك يا نصفي الصّالح إلا تشييعاً لما مات من أيامي _الخالية من صوتك_
دونما غُسل وصلاة .
أنا لا أُحيك الكلماتِ إليكِ يا هند على سبيل السّرد والتوصيف لما سقط من العمر أنا أكتب إليكِ لأصحو
, لأنجو ولتموت الأيام بين يدي كرّة أُخرى فـ اغسلني وأصلي .
ليس عليكِ أن تضيعي وقتك بقراءة كلّ ذلك العبث المسطور والمصدّر إليكِ بهذا الكم ,
لستِ ملزمة بذلك أبداً .
وبعد ,
الطين _ يا هند _ ميراث أهل القرى والضّوء صوتهم المفتول بغناء الجدّات عند المهود, أحاديثهم
ملائكة تسابق النَّهر في جريانه ساعة تنام الحقول وتستفيق المواويل ,قلوبهم نخيل يهتزّ كلّما
ضجَّ بالأجواء عطرعشق أسمر يمطر وجدانهم سدراً وماء ,وأنا _ يا كلَّ القرى المسلوبة _
مسكونة بكِ وبالنّهر والبساتين .
فلا تعجبي
حين لا أعرج على قلبكِ بقلق المحبين فلازلتُ مطمئنة منكِ وبكِ وعليكِ كـ فلاّحٍ ما عاد
يتفقد حقله المتروك بلا فزاعة بعد أنْ أستودع الله فسائله والثّمار .
لو تعلمين _ يا هند _ كم تُسرف دروب القرى في شوقها لخطاك !
يا لهذا الصّداع البغيض !
لو يمهلني قليلاً من الوقت فأنفث على الصفحات شوقاً ممّا تشتهين .!.
بالأمس قصدتُ طبيباً أبتغي منه أن يرشدني لدواءٍ يُزيل - ولو لبعض حين - هذا الصّداع الذي
يحول بيني وبين السّكينة , بيني وبينك , بيني وبين هذه الحياة التي تتقوزح أفراحاً كلّما دونتُ
إليكِ سطراً/ صدراً .
هذا الصّداع الذي بلغتْ به الوقاحة أن يوقظني من نومي دونما خجل سالباً من عينيّ وقلبي
هناء الغمض, ذاك اللعين رافقني حتّى عيادة الطبيب حيث كانتْ غرفة الانتظار مكتظّة بأهل
العلل ومرافقيهم ,
أولئك الذين بدوتُ وسطهم يا صديقتي مدّعية كبيرة وهو يدنو مني ويبتعد ساخراً من خجلتي حين يغدو
وتأوهي المكبوت حين يجيء أرشدني الطبيب أن أُخلي رأسي من الضجيج وسأكون بخير ,أ أفعل ؟
حسناً ,سأنصاع لما قالته أُمّنا عائشة (رضوان الله عليها ) :
"هو نهر في الجنة ليس أحد يدخل إصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر".
وأُسدل جفنيّ بعد أن أدس سبابتيّ في أُذنيّ وأُصغي بكلِّ اشتهاء لدوي الكوثر ساعتئذ
لا ضجيج سيبقى ولا حزن ولا غيوم ,لاشيء لا شيء سوى الطمأنينة .
لِمَ يا هند كلّما فعلت ذلك تترائين لي هناك عند الكوثر تتوضئين ؟!
وبعد يا هند,
في القلب شوق عظيم _ بعمر الأرض _ بلغ مني كلَّ مبلغ لسيدة فارسية مورقة تحبُّ الله كثيراً
كانتْ تلك المثمرة جدّة أبي الّتي حدّثنا عنها جدّي -ابنها - باكياً ذات ظهيرة رمضانية
معطرة بـ تلاوة خاشعة فأخبرنا أنَّها كانتْ تبكي حين تسمع القرآن بكاء الخاسرين بلا حيلة التعويض
بل كان بكاؤها أشدّ حرقة وعذوبة حين تغشاها هيبة الترتيل فتُبعث في صدرها خشية تليها غصة تجدل
من أمانيّ قلبها دعاءً ينساب خاشعاً على لسانها عبرة عبرة علَّها تتعلم العربية يوماً فلا تُفرّط في حفظ
قول ربها بقلبها أنيساً وباعثاً على الطمأنينة, تلك المؤمنة التي كانتْ توصي أبناءها أن هاجروا إلى أرض
العرب وتعلّموا لغتهم لغة القرآن وعودوا إن شئتم بعدها ,منذ تلك الظّهيرة يا هند وأنا بشوقٍ لقلب تلك
الجدّة علّه حين يبصر تيهي يتلو عَلى ضلالتي آية الخلاص بلغة نورانية خصّ الله بها تلك السّيدة .
هند,
مدينة أنا لتلك المضيئة حدّ الإجلال فلولا جهدها الحثيث من بعد مشيئة ربّي لبقيتُ -ربّما – إلى الآن
أجوب القرى في خراسان محرومة من عقد العربية الذي زيّن عنقي حتّى استطالتْ قامتي وعياً فصرت
أبصر ما لم يبصره آباءي الأوّلون , أنت أيضا يا عربية الدّماء مدينة لتلك الجدّة التي يسرتْ لكلينا
سبيل اللقاء وتبادل أقداح الحديث ذات عطش ومنحتني _ دونك _ نشوة الفخر بصحبتك
وبالتأكيد لذّة الكتابة إليك .
أتدرين ,
لعلَّ حبّي للعربية يا صديقتي الأشهى جزء من وفاءي وامتناني لتلك السّيدة من حيث لا أدري ,
لله كم أشتاق لرؤيتها !
حذار يا هند أنْ تُحزنكِ أعجمية دمي حسبكِ أنَّ قلبي ينطق / يخفق بنبض عربّي مبيّن
حسبكِ أنْ لا لغة يجيدها صوتي والقلم _ ولو قليلا _غير تلك الّتي أتشهى أن أُتقنها كما تفعلين
حين تحيلين السّطور بين يديّكِ أساوراً وخواتم .
لله أنتِ وتلك العربية الشّهية الّتي تسكبين من شفتيكِ .
أتودّين _ يا هند _ أن أحكي لكِ عني قبل أن أخرج إلى الرّيح والليل والأسئلة حين مضيتُ
لأوصد باب مدينتي بعد أن أشاع فيّ صريرها وبالدروب خوفاً يلوّن_ مدّ قلقي _ أضواء المدينة بالشّحوب ,
يوم كنتُ أظنّ أنَّ الدّنيا كلَّ الدّنيا مخبأةٌ بين أسوار مدينتي وأنْ المصابيح أبناء الشّمس الذين يستفيقون
قلقين حين تمرض أمّهم ليلاً ولا ينامون حتّى تبرؤ كلَّ صباح ينيب بالشفاء والعافية فينامون آمنين ,
كنتُ مثلكِ يا هند ومثل المصابيح أنام آمنة كلّما أشرقتْ للطمأنينة - في صدري - شمسٌ ولكنّي مذ
مرضت شمس المدينة بقيتُ متقدة فهي لم تُشف منذ تسع مضين ولا الصّباح في مدينتنا صار يجيء .
هند,
في صدري - الآن - مصابيح تتقد بقلق تتناسل ضوءاً وحريقاً
رضيعة تلاعب سكين قاتلها
غيمة جوّادة تمطر فوق البحر الميت
صانع حلوى مصاب بداء السُّكري
مشط عاجي يرقد في حقيبة سيدة منذ عامين
طفلة ترسم سفينة على جدار غرفتها
سائق سيارة أجرة يتفرّس في وجوهـ النّاس
مجاهد نفدتْ ذخيرته
وكثير كثير من المصابيح التي لم تنم بعد لأستريح !
ترتيل