يلجأ أدباء الشرق إلى كتابة مذكراتهم، وسيرهم الذاتية على نحو أخلاقي، مبتعدين عن منطقة التعري والبوح الذي يحقق صدمة الوعي والإكتشاف للآخر، ونزوات (الأنا).
سنجد أن أدباءنا يلوذون بالكمون، فلا يظهر من جبل الثلج سوى قمته، بينما المسكوت عنه كثير، كثير.
ولعل ما خلفته [ مذكرات نجيب محفوظ ] من ضجة وردود أفعال متباينة، هو المثال الحي لعدم ملاءمة (الفضفضة) لخصائص الذهنية العربية، فقد حوت السيرة أو المذكرات آراء محفوظ السياسية والأدبية والفكرية.
( تعليقات من بعض الأدباء )
_ الناقد محمود أمين العالم يقول:
إن السيرة الذاتية ما زالت لدى البعض هي السيرة الحسنة أو التضاريس الخارجية، أو سيرة (الأنا) الظاهرة، وحين تكتب السيرة من خلال التأمل العميق، وعندما تصبح ذاكرة حية، فإن هذا يقلق السائد بالطبع، وهناك أمثلة في تاريخ الأدب، اتسمت فيها السيرة الذاتية بطابع أخلاقي، وهذا يرجع إلى خشية المصارحة لانعدام الديمقراطية.
ويضيف العالم: الكثير يغفل أن كشف العيوب ببساطة فضيلة كبيرة، فمثلاً مذكرات أحمد أمين كانت رصينة، وطه حسين لم يبح بحقائق كثيرة، والدليل على هذا ما جاء في كتاب زوجته سوزان (معك)، فقد تحدثت عن طه حسين بأنه شخص عصبي جداً، ومتقلب المزاج وهذا على عكس الطبيعة الهادئة التي كان عليها عندما يكتب أو يتحدث إلى جمهوره.
وفي حالة نجيب محفوظ فإنه لم يقرأ عليه الكتاب قبل نشره، وكنت في زيارته مؤخراً، فقال لي إنه قرأ نصف الكتاب فقط، وفي تقدير العالم أن الكتابة ليست في التفاصيل الصغيرة، ولكن بدلالتها في البنية الكلية، وفي ظل السياق العام الذي يعطي دلالة على بعض الأحكام، ولذلك لو أتيح لنجيب محفوظ قراءة كاملة للكتاب، لعله كان يغير أو يبدل بعض التفاصيل التي وردت في المذكرات.
_ الروائي إدوار الخراط يقول:
من حق المبدع أن يعبر عما يريد أو أن يكتب ليعطي مساحة للاتفاق أو الاختلاف فالماضي لم يمض، وكتابة المذكرات أو السيرة الذاتية تأتي بعد عمر من العطاء ورصيد من التجربة الزاخرة، وبالنسبة لمحفوظ أرى أن الأديب هو الشخص الوحيد الذي من الطبيعي أن يكتب سيرته الذاتية.
وليس شخصا آخر يملي عليه، ولكن الذي حدث أن محفوظ لم يراجع ما أملاه على الكاتب "رجاء النقاش".
_ الناقد إبراهيم فتحي يقول:
أن تصريحات محفوظ السياسية ليست بذات قيمة كبيرة، أما السياسة داخل أعماله الأدبية كطريقة للتفكير، وكمناخ فكري وباعث أو دافع للسلوك فهي التي تشكل قيمة، فهناك فرق بين التصريحات التي وردت في المذكرات، وهي لا تعنينا إلا كرأي فرد قد يغير رأيه، أو يختلف الآن عما كان في السابق، أما الأفكار السياسية، كمقوم في بناء الشخصية، وكأفق لمسار الأحداث، فهي التي تهمنا في الأفعال الفنية.
ويضيف فتحي :
أن السيرة الذاتية قيمتها بالنسبة إلينا، لا تعني البوح الناقص أو البوح الكامل، ولا تعني استحضار شخص بكل تفاصيل مخه وقلبه وأمعائه الغليظة وإفرازاته، ماذا يعنينا في ذلك؟ ليس لذلك قيمة كبيرة، والمجتمع العربي محافظ، والذوق العام لا يقبل أن يتحدث الإنسان عن مباذله أو بعض الخطايا الصغيرة أو الكبيرة التي ارتكبها.
_ الروائي إبراهيم عبدالمجيد يقول:
مهما كانت السيرة الذاتية في مصر أو العالم العربي، قد بلغت من الصراحة، لن تكون مثل السيرة الذاتية المكتوبة في أوروبا، وليس عندنا أحد يستطيع أن يكتب سيرة ذاتية، مثل جان جينيه أو أندرية جيد، أو كثير من الكتاب الذين كتبوا مذكراتهم أو سيرتهم الذاتية، فنحن نقيم معارك متخلفة جداً، لأن الأديب عندما يذكر أشياء في حياته، وغير متفقة مع الأعراف السائدة، فهو يذكرها ليعرف الناس الصواب والخطأ، وليس للمباهاة.
ويضيف إبراهيم: وحتى الآن للأسف السيرة الذاتية مدرسة تعليمية، ونحن غير قادرين على كتابة السيرة صحيحة مئة بالمئة، وذلك تحت اسم الأعراف أو الأخلاق أو غيره وبالنسبة لمسألة اللجوء القانوني ضد كاتب، فهذه مسألة خاطئة، لأنه من الممكن أن يكتب هذا أو ذلك ويرد على المعلومات، فمساحة الإختلاف والنقاش واردة، ولهذا فأننا في الشرق نكتب السيرة الذاتية (الأخلاقية) وفق المتاح والممكن، فالكاتب يضع في ذهنه مئات الضوابط والمحاذير، لتكون الكتابة دائماً ناقصة وغير مكتملة.
_ الروائي العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي يقول:
أن كثيراً من السياسيين العرب والأدباء كتبوا ما يشبه السيرة الذاتية، وكل هؤلاء لم يقتربوا من المناطق المحرمة..
ويؤكد أن المشكلة الموجودة الآن مع نجيب محفوظ في كونه أصبح سلطة بالإرادة الإنسانية والعالمية، وعندما يصبح «الرمز» ثقة إنسان تلك هي المصيبة الكبري عندهم، فهم يريدون أن يكون الرمز فارغاً كي لا يؤذي، لأنه حين يكون إنسانياً، يصبح مؤذياً ويلحق ضرراً بهم، فهم يقولون لماذا يكتب في مذكراته؟ ولماذا يجعل صورته تهتز؟
،
" خالد محمد غازي ".