فرح في قمعستان – فلاش باك
بعد سنين:
على اطراف مدينةٍ قِبل المغرب و في مقهى عتيق جلست أتأمل سواد فنجاني، ما اصدق السواد حين يعكس صورتي فيظهرني كما أنا.. أحرك الفنجان بيدي لعل انعكاس الصورة يتغير، لولا ان فنجاني ليس بكذوب فلا يتغير ، أهزه بقوة اكبر لعله يغير رأيه فيريني عكس ما أرى، لولا انه لزم جانب الصدق و ابى، أكره الأشياء حين لا تكذب، أكره المرايا و انعكاس الماء و فنجان القهوة الذي بيدي، بعنف أكبر اهزه كأني اعاقبه على اغضابي و هو بيدي و أمره اليّ كيف يجرؤ؟! لوهلة نسيت اني أخاطب فنجانًا و بغضبٍ أرميه على الطاولة فينكسر، أقتص لنفسه مني قبل الموت فيدي تنزف من جرح أحدثه، “بطل” أقولها له بابتسامة مشفق و قد نسيت لوهلة أخرى انه فنجان لا يعي و لا يحيط.
يأتي غلام صغير مسرعًا اليّ معتذرًا، هو عامل المقهى كما يبدو، يتأسف الي ان كُسر الفنجان و أنا من كسره بغير ذنب، يستسمحني و يعتذر طالبًا السماح و كلانا يعلم اني من أخطأ، لكنه ذل الفقير الضعيف، الذي يجعله مذنبًا و ان لم يذنب، يتوقع ضربة العصا عقابًا على ما فعل و ما لم يفعل، من بين كل خطايا العالم لم اكره شيئًا قدر كرهي للفقر، رأس الخطايا بطن جائع و قلب موجوع، من يلومه بعالم غاب عنه العدل ان خاف ان يُظلم أو يضرب؟ لستُ أنا حتمًا… أعتذر للصبي الصغير و أدس شيئًا من المال في جيبه خلسةً مخافة ان يراني سيده فيأخذه بغير حق، و يبدو ان القهر خيرُ معلم فقد أدرك الصبي ما أردت دون ان اصرح به فهمس بصوت لا يكاد يُسمع ” شكرًا” ، أغادر هذا المقهى البئيس و أودع أوجه رجاله الكالحة التي لم تنظر اليّ الا شرزًا مذ دخلت، لعل دخول غريبٍ لمقهى مدينتهم اغضبهم، أو لعلها تاء التأنيث فيّ ما أساءت محاجرهم.
__
توجع
وقفت على هضبة مُطلة على القرية وحدي أتأمل القصف الغادر عليها من السماء بكرات من لهب … و ليل القريةٍ لم يعد ليلاً ،و جنود الجيش يحاصرون القرية مستعدين لقنص اي روحٍ تبغي النجاة، أصوات قهقهات الجنود و صوتُ المدافع و صراخ القروين رعبًا و توجعًا و ركضهم في كل الاتجاهات محاولين الهرب من النار التي تأكلهم أحياء … تلك الأصوات و ذاك المشهد سيرافقني الى قبري، و صورةُ قروية تلتهما النيران بروية، تذيقها اشواطًا من الألم الذي لا يحتمل قبل ان تزهق روحها الحية، لا تزال تثيرُ فيّ احساسًا بالذنب و العجز، تلك المرأة التي لا اعرف اسمها و لا حتى شكل وجهها قبل ان تذيبه النيران لم تكن تنظر الى السماء او الى الأرض، لم تكن تصتصرخ المفزوعين حولها او المحترقين معها كي ينجدوها، كانت تنظر من بعيد الى مكان قصيّ لفه الظلام ، كانت تنظر الى مكاني و تمد يدها طالبةً العون.. لا اعرف هل رأتني، كيف رأتني و انا التي لا أرى بجنح الليل الا من قريب، كيف كانت تظن ان بيديّ عونها و انا الطريدةُ البعيدة، و لم تركت الأقربين و مدت يدها لبعيد عاجز؟ تلك الأسئلة لن أجد لها جوابًا و لو سئلت الرفات.
وقفت أتأمل مشهد الموت الحيّ أمامي و رائحة الموت و الشِواء تزكم فمي، الروائح و الأصوات و الأرواح امامي و طيف الموت الذي شاهدته و انا طفله يهرول في شوارع القرية يزهق الأرواح، كانت حقيقية لدرجة انها لم تعد كذلك في ذهني، و صرت اسئل هل الموت حقيقي، كحقيقة ما أرى، او كحقيقة ذاك الطيف القديم الذي أراه في شوارع القرية؟ تغيرت اشياءٌ كثيرة بداخلي و كُسرت اشياء بذاك المساء، صِرت ادعو و أناجي خالق تلك الأرواح ان يأخذها، ان يعين الموت على حصادها بدل ان يشوى اهلها ثم لا يرحمون، ان يكون الموت هذه المرة موتَ رحمة… و قد كان، فلم تشرق الشمس على القرية الا و قد اصبحت قريةَ اشباح.
-بناءً على طلب عائشة نشرتها, و الا فقد ماتت فرح.