ظلام من نوع آخر
أدرك على نحو يجعلني أغط في ذهول يسمَرني لثوان وربما لدقائق قد تمتد لساعات بالأحرى من جراء تعاطي الكائنات الأرضية والمتمثلة بالإنسان لممارسات قد تكون أقرب وأشبه بالجنون أو الحمق , حتى النفس البشرية يغمرها الظلام في جزء عميق من الذات المسرفة بالوساوس والغلظة .. هذا ما اكتشفته بعد رحلتي القصيرة والمضنية على ساحل الحياة , ولعل هذا السواد الملطخ بالغرور والعناد والإصرار على التدني إلى مهابط القسوة يكمن في زاوية منسية من القلب لا تصل إليها أنوار الفضائل إلا فيما ندر ..
ولا تدغدها حكمة المنطوق من درر السمو " مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " أو "ابتسامك في وجه أخيك صدقة "
حقيقة أتلثم بالفضول وأنا أسير وراء مشعلي وأحمل معولي لأنبش هذه القبور الدفينة في أتربة النسيان ..
أعشق حل الطلاسم وإن كانت تغرق في بحور من الظلام .. وإن غارت في عمق سحيق لا أَجيد معه العوم .. ولكنني أستعين بالله وأستند على عزيمة تجيد الغوص وأذهب إلى ما وراء الطبيعة الإنسانية ..
وفي حكايات قديمة ومواقف علتها أتربة الزمان .. أنفض عنها البلى وأنفخ على سياقها لتبقى جلية بالعظات مقبولة للعقول والأذهان , وقد يحالفني الحظ مع اعتكافي في صومعة الرعب من جراء هذه المشقة .. و قد أنجح في مهمتي هذه حينا .. وأفشل كما أتوقع عادة أحيان ..
وللأمانة فإن إخفاقاتي بالفشل على مرارتها توعز لي مرارآ بالإبتعاد في حال تمخض بحثي عن فشل ذريع لا يعقبه سوى الحسرة والألم ..
فلا طائل من إصلاح نفس سادها الظلام ورسخ على متونها بدعائم الضلال التي تنتهي بصاحبها عادة إلى السقوط في براثن الويلات النفسية والجسدية ..
ولا جدوى من رتق نسيج للقلب اهترأ بالنفور والعنفوان حتى أخذ وجه صاحبه ملامح الازدراءالذي يلطم ناظره بأنفاس من الصلف ..
والأدهى من كل ما قيل أن تلتزم جماعة - وليس شخص فقط - بهذا النهج الذي غالبا ما يجعلك تتوقف عن سبر الأعماق وتعود خالي الوفاض إلى حيث البداية فقط ..
تجهم جماعي ..!!!!
القصة التالية جاءتني على عجل مع هبوب نسمات مسائية تجلت بضحكة لقريبتي التي جلست أمامي تبادرني بحماس قائلة :
- هل سمعت أخر طرفة يا سحر ؟
قلت أناولها فنجال من القهوة تعالت أبخرته بروائح " الهيل " الشهية : لا ..
وأردفتُ أحذرها من من مغبة ردة فعلي إذا ما فشلت في إضحاكي :
- ها .. إياكِ وتلك النكات السخيفة التي تكررينها دائما على مسامعي وتجعلني أرغب في ..
ضحكت ضيفتي بسعادة وقالت : ستضحكين وتعجبين .. أعدكِ بذلك لأنها قصة حقيقية ..
قلت أرتشف من فنجالي قطرات ساخنة من القهوة : حسنا .. هاتِ ما لديكِ ..
قالت : أنت تعرفين قصة أخي بدر , وما فعله لأجلنا بعد وفاة والدي يرحمه الله , حيث تحمل مسؤوليتنا جميعا وعزف عن الزواج من أجلنا حتى كبرنا وتعلمنا وتزوجنا جميعا ..
قلت : أجل .. أحفظ هذه الملحمة الإنسانية عن ظهر قلب , وكيف لا أفعل وبدر قد قدم نموذجا للرجل الرائع ومثالا للتضحية النبيلة في زمن شحبت فيه معايير الروعة ..
ثم سألت : وما شأن بدر في طرفتك ؟
قالت : قررنا بعد مداولات عدة أنا وأمي أن نزوجه . فقد حان له الراحة بعد هذا التعب الطويل ..خصوصا وأنه يقترب من الأربعين ..
قلت أبتسم : جميلة هذه الخطوة ومباركة إن شاء الله . وبدر يستحق كل خير .
قالت : ورُشحت لنا إحدى الفتيات , وقام أخي بدر بالتنسيق مع ذويها لزيارتهم أنا وأمي كي نتعرف عليهم ونرى الفتاة ..
قلت باهتمام : رائع .. وهل ذهبتم ؟
قالت تهز رأسها بقهر : أجل , ذهبنا وليتنا لم نفعل ..
قلت بدهشة : لماذا .. ماذا حدث ؟
قالت : ما كدنا نطرق الباب أنا وأمي حتى استقبلنا حشد من النساء , عمة الفتاة وخالاتها وشقيقاتها ..
قلت : ها .. وكيف كان استقبالهن ؟
قالت بمرارة : فاتر .. بارد .. صامت ..
سألت بذهول : كيف ؟
قالت : جلسنا ولم نسمع كلمة ترحيب واحدة , هل تصدقين هذا ..؟ ثم جلست السيدات متجاورات في مقاعدهن كل منهن تنظر إلينا من طرف خفي بريبة وحذر, بينما عبوس أقرب للغضب يكسو ملامحهن ..
- ماذا ؟
قالت : صدقيني .. هذا ماحدث , حتى عندما أحضرت العروس العصير .. لم تقدمه لنا بل وضعته على الطاولة قبالتنا .. ولم نسمع من أيهن كلمة تفضلن ..
بتشكك علقت : لعلكِ تبالغين يا عزيزتي ..
قالت بكل جدية : أقسم بالله أن هذا ما حدث ..
- أصدقكِ .. أكملي ..
قالت : وعندما وجدت الأجواء مشحونة بالتوتر والنفور , قمت ألطف الجو بشئ من المرح بالتعليق على فتاة صغيرة ربما هي إبنة أخت العروس , أخذتُ ألاطفها وأضحك لها وأداعبها بكلمات عفوية .. ولكني صدمت بأم العروس تقول بصوت أجش وملامح غاضبة : لماذا تضحكين .. هل يوجد ما يُضحك ؟
وتمتمت أخرى بسخط : الضحك بدون سبب قلة أدب ..
هتفتُ غير مصدقة : يا الهي .. هل قالتا هذا ؟
أجابت ضيفتي بمرارة : نعم
قلتُ أحاول خلق العذر : ربما أن القوم يعانون من ضائقة .. وربما لديهم مفاهيم ونفسيات جادة لا تقبل المزاح .. أو لعل لديهن مريض أو ظروف تستدعي هذا الإستقبال .. ..
وصمتُ لثواني ثم انفجرت بالضحك متابعة : هذا الاستقبال التجهمي ..
قالت : وليكن ما قلته حقا .. ألا يوجد بينهن امرأة واحدة تحسن استقبال الضيف وتكرمه ولو مجاملة ؟
قلت مندهشة : فعلا شئ غريب ..
ثم أطلقتُ سؤالا يكتنفه الفضول : وكيف انتهت الزيارة ؟
قلت : لكزتني أمي وهمست باستياء : لنذهب , وخرجنا ونحن نقسم أن لا نعود لهذا البيت أبدا
- وماذا فعل بدر عندما عرف بذلك ؟
ابتسمت وقالت بمرح : قرر العزوف عن الزواج إلى الأبد ..
أطلقتُ ضحكة من أعماقي لتعليقها , وقضيت ليلتي أفكر بهؤلاء القوم وأنا أتساءل : هل يعقل وجود شريحة مماثلة من الناس وعلى هذه الشاكلة وفي زمن علا فيه زبد الحضارة و والتثقيف الأخلاقي والمعلوماتي المُيسَر ...!؟
تحيتي