استنهضه فهمانُ وأجلسه على كرسي ، وناوله بعض الماء حتى إذا استراح قال لفطين متهدج الأنفاس..
أنا ما جئت لأهدّدك أو أبتزّكَ ، وإنّما جئتُ لأعمل لك العمليّة ، وأعطيك أيضًا هويّةَ صاحب الرأس الجديد إن أردت ، وبذا تكون قد أمّنتَ نفسك وأمّنتَ مستقبل ولدك.
-وكيف أصدقك؟
-لو أردتُ ابتزازك لِمَا حضرتُ إلى بيتك ، ولو أردتُ الغدر بك لأوصلتُ هذا الحوار إلى الشرطة عن طريق طفل بوهبةِ زجاجة مياه ثُمّ فررتُ أنا .
فكّر فطينُ قليلاً ووجد كلام الطبيب كلِّه معقول ، بل هي عصا موسى التي ستنجّيه وولده مِن حبل المشنقة ، أو إرساله إلى إسرائيل ليضعوه في سجنٍ سرّيّ لايَمُوتُ فِيه وَلَا يَحْيَى..ثُمّ قال ..هات ما عندك أيّها الطبيب.
-قال سآخذ رأسك وأزرعك الرأس الذي لديّ و ..استوقفه فطينُ قائلاً..أنا لا أقبل أيّ رأس؟
ردّ الطبيبُ بتوسلٍ ..لا تقاطعني حالما انتهي .
صاحبُ الرأس رجل فلسطينيّ وطنيّ مِن شعر رأسه إلى أخمص قدميْه ، تهجّر مِن بلده ودخل هو وأمّه وأخوته إلى مصر عبر شمال شرق سيناء بموجب الاتفاقيّة الرباعيّة و ..صمتَ توجّعًا وأطرق رأسه إلى أسفل خجلاً .
طغى الفضول على نفس فطين فقذفه قائلاً ..أكملْ .
-لمْ يردّ عليه ..وعاد مِن جديد وحشُ الماضي الطاغي وفرض نفسه على مشاعره التي كان يداريها عبثًا خلف ابتسامة زائفة مع أنّ قلبه يتمزق إرَبًا.
ولقدْ تجسدتْ الآن الصورة أمام عينيْه اللتيْن بدأتا تزوغان وتغرورقان ، وأخذ جسده يرتعش مع الذكرى رعشة الصاعقة.
وتجسّدَ المشهدُ الأليم في مخيلته كأنّه حدثَ منذ لحظات .
في المشهد يظهر الفلسطينيِّ وهو يصارع سكرات الموت غمًا وحسرةً على ما يحيق بوطنه من ويلات ، كما يدعو على يعقوب إسحاق بأن يصيبه الله الشلل في جسده .ويتحسّرُ على عدم إدراكه للعمل مع الاتحاد .
وعلى جانب آخر من الصورة أمّه واقفةً ، يتزاحم إخوته التسعة حول ثديها الجاف .
نظرتْ الأمُّ إلى ابنها الهالك وإلى أولادها الصغار وقالتْ ..لا أدري يا أبنائي أحملُ مَنْ الآن ، أحملكم أمْ أحمل ولدي الهالك ؟
هذا الهالك الذي كان يحملنا ، الآن لا يجد مَنْ يحمله .
اِصبروا حتى ندخل مصر ونبحث عن جُحْرٍ يأوينا .
انسلبتْ مِن أبنائها واندفعتْ بكلِّ مشاعرها نحو ابنها واقتعدت الأرض ورفعتْ رأسه ووضعته في حجرها وصرختْ.
أقبلتُ عليها لمواساتها فنهرتني قائلةً ابتعدْ عنّي أيّها المصريّ المتوحش.
ونظرتْ إلىّ باحتقار وقالتْ ..أنت مصريّ ؟ إلى متى سنظلُّ قرابين لحكّامكم ، تملكون حريتكم بتعبيد الطريق المؤدّي لاسترقاننا ،إلى متى إلى متى ؟
قلتُ لها كذبًا..أنا فلسطينيّ أجاهد من أجل تحرير بلدي ، وأريد رأس ابنكِ لاتحاد المقاومة.
نظرت المرأة إلى صراخ أطفالها ، ثمّ نظرت إلى ابنها الهالك ، فحثت على رأسها التراب إشارة إلى أنها لطخت نفسها بالعار من أجل حماية صغارها من الموت جوعًا.
ثمّ نهضت واقفة بثبات وهي تمرر إصبع الإبهام على إصبعي السبابة والوسطى قائلة ..كم ؟
وزاد صراخ أطفالها فزاد صياحها وأخذت تردّد بجنون وبعينين زائغتين..كم ؟ كم؟.
فعرضت عليها مبلغًا كبيرًا ، فوافقت على الفور ثمّ انكبتْ على ابنها الهالك تحتضنه وتصرخ قائلة في جنة الله ياولدي ، سامحني يا ولدي، ثمّ انتصبتْ واقفة ورفعتْ يديها إلى السماء وقالت ..
ربّ إنّي أودعتُ ابني عندك ولا حيلة لي ولا سناً تقطع ، اللهمّ أرني في يعقوب إسحاق يومًا أسود كيوم عادٍ وثمود ، اللهمَّ إنّ رأس ابني وديعة عندك فحلْ بينها وبين جسد أيّ مجرم أو غادر ، اللهمّ إنّ ابني عاش بجسدٍ حميدًا مدافعًا عن وطنه فاجعلْه في جسدٍ بقلب حميدٍ خلوقٍ .
ولمّا طالتْ لحظات الصمت ووجد فطينُ رجفةَ الطبيب ودموعه التي انهمرتْ حتى سقطتْ قطراتها على فخذيه أشفق عليه وناداه وحاول أن يستحضرَه بينما الطبيب غائب في لوحة الماضي الأليمة.
فأقبل تلقاء وجهه وأمسك منكبيْه بكلتا يديه يستحثّه على الانتباه وطرْد ذاك الشيطان الذي جثم على مشاعره ، ثمّ هزَّه مناديًا..دكتور دكتور، فانتبه.
-قال فطينُ له ..أنا موافق بشرط أن تجبني عن سؤالٍ واحدٍ ولا تكذبني ، هل الفلسطيني وطنيّ مِن شعر رأسه إلى أخمص قدميْه كما قلتَ ؟
-أجابه..هو من الشهداء يا فطين .
وأسرّ مؤيد في نفسه قصة شرائه ، كما لم يبحْ له برغبته في ضمّه إلى اتحاد المقاومة.
-كمْ تريد ؟
-فقذفه سريعًا بسؤاله هذا ..لِمَ قتلتَ يهودىّ الفندق؟
-النفس بالنفس ، قتل عالمنا المصريّ ، وكان أملاً لخروج مصر من أزماتها السياسيّة والاقتصاديّة.
-سكت مؤيد هنيهة ثمّ قال عملية اغتيال العالم المصريِّ المشهور ..أتقصد تلك العمليّة التي تمّت في فندق هيلتون طابا ؟
-نعم.
-لمْ يعرفوا حتى الآن كيف دخل السمُّ إلى الحجرة رغم الحراسة المشدّدة عليه ، هذا العالم أعرفه كذلك ، إنّه كان بروفيسورًا في إحدى الجامعات الأمريكيّة ، أعرفه جيدًا جدًا ، إنّه عالم روبوتات رائع ليس له نظير غير واحد فقط ، يعمل في مصادم سيرن fcc-1 اسمه اسمه ..اسمه ميتشو كاجيتا وهو يابانيّ الجنسيّة.
وأخفى عن فطين أنّ بروفيسور بيتر كان معه في الفندق وقتها ، وأنّه انضمَّ لنفق الاتحاد وقتها.
ثُم سأله ..لكن كيف سيخرجكم من أزمتكم الاقتصاديّة ؟
-لو التفَّ حوله باقي العلماء والباحثين وأنشأوا مصنعًا روبوتيّاً لأمكنهم صنْعها بحيث تتمتع بقدرات خاصة مِن الممكن تصديرها لدول أوروبا وآسيا بأسعار خياليّة لأنّ الأمريكان والروس يتنازعان حول حكم العالم والسيطرة على القرارات السياسيّة والاقتصاديّة فيه.
-من أين عرفتَ كلَّ هذا ؟
-قرأتُ في جميع تخصصات الفيزياء لاحتياجي لها في عملي ..فأنا ساحر.
-ألعاب سحريّة ! كم أنت رائع يا حاج فطين .
-ولمّا تيقن الموساد مِن خبر ابتكاره لهذا الروبوت وإبائه العمل لدى الأمريكان صدر الأمر إلى قسم الكيدون بالتصفيّة الجسديّة فورًا بأيّ ثمن .
-اقتضبَ مؤيدُ الحديث وأداره حيث يريد وقال ..أريد المال الذي دفعناه فيه فقط ، أمّا جهدنا فسأترك لك تقديره حتى إن لمْ تدفعْ شيئًًا ، فأنا لست أقلَّ وطنيّة منك يا حاج فطين.لكنّنا سنأخذ رأسك فأنت لست بحاجة إليه.
-بلْ أنا في حاجة إليه ، أنا معجب به ، أحبُّ أنْ انظرَ إليه يوميّاً ، وقد يأتي يومٌ آتي إليك فيه لتركبه مِن جديد ..قل لي..
لِمَ إذن تساعد المجرمين ليهربوا مِن جرائمهم بعد أن تغير وجوههم؟
-هذا سرُّ يا فطين ، لكنّي أوؤكد لك أنّ المال الذي اتحصّل عليه لا يدخل جيبي ، أتبرعُ به للقضيّة الفلسطينيّة .
-ابتسم فطينُ ، وصدق حدسه في مؤيد ثُمّ سأله ..ألمْ تخشَ على مشفاك ؟
-أخشى طبعًا ..لكنّي حريص جدًا في حال مخالفة القانون ، والمجرم له طرق مختلفة للحصول على التصريح ..البلد فاسدة وكلُّ شيء يُشترى بالمال .
عامة ، رأسك غالٍ يا فطين ولا يقدر بثمن ، تنازلتُ عنه .
-متى نبدأ ؟
-خلال أسبوع ..المهم يكون معك المال .
-اتفقنا.
وبمجرد أن رحل مؤيد تذكّر فطين الاحتراق الذي نشب في الصورة ولم تحرق إلّا رأسه فاستبشر خيرًا .
رحل مؤيد ولقد ذكرته هذه الاتفاقيّة مع فطين بالحوار الذي دار بين قادة المقاومة منذ سنوات في نفق الوادي الجديد .
ذاك الحوار الذي انقسمَ فيه قادة المقاومة إلى أحزاب وكادوا يقتتلون حول فكرة استغلال جثامين شهدائهم في تدعيم المقاومة مِن عدمه ، إذ أنّ المقاومة في حاجة لشراء أسلحة وذخيرة للبقاء على قلب فلسطين بعدما قطع يعقوب إسحاق أنفاسه ، بمعنى أنْ يبيعوا أجسادهم أو استغلالها في زراعة الأعضاء مِن أجل الإبقاء على المقاومة وتدعيمها فضلاً عن إمداد أُسَرِهم فوق الأرض بالمال الذي يكفيهم مِن الحاجة بديلاً عن التشرّد.
وقدْ رجحتْ في النهاية كفّةُ الرأي القائل باستغلال جثامين شهدائهم للأسباب السالفة الذكر فضلاً عن الأسباب الأتية..
-الحصول على ملايين الدولارات من رؤساء مافيا المخدرات الذين رهن الاعتقال مقابل تغيير رؤوسهم برؤوس فلسطينية متوفاة .
-لديهم الطبيب الأول عالميًا في عمليات الزرع وهو بروفيسور بيتر الأمريكيّ ، فهو معجزة العصر في زرْع الأعضاء وخاصة الوجه.
-وجود مشفي الدكتور مؤيد أصيل مما يسهل عليهم تحقيق الهدف بسهولة.
الرءوس العربية كلُّها توائم
بعد ثلاثة أيام مِن اللقاء ...
آخر الليل..جاءتْ سيارة حمراء قاصدة منزل فطين ، فلمّا أتاه قالَ..له أنت فطين المصريّ ؟
أجاب..نعم.
فلمّا تأكّد السائق أنّه هو ، قال أنا رسول الطبيب بأمارة القدّاحة يدعوك أن تأتي معي .
نادى على فهمان أنْ يحضرَ عصاه والمال فلمْ يسمعه ، إذْ أنّه في بحثٍ متواصلٍ على الحاسوب يقرأ أحدث ما وصل إليه الطبُّ في زراعة الأعضاء ، وأمامه بعض كتب أبيه يبحث في محتوياتها عن عنوانات تتكلم عن زراعة الأعضاء.
فدخل عليه أبوه فوجده على حاله تلك ، فأخذ العصا والمال واستنبهه فانتتبه ثُمّ قالَ..يا ولدي..لقد أوتيتَ الرشد صبيًا ، فإنْ لمْ أعدْ فدبّر حالك بنفسك ، وفتح الحقيبة وأخذ منها ثمن عملية الزرع ثمّ أغلق الحقيبة وأعطاها ولده وقال .دبّر حالك بهذا المال .
حدّجه فهمان ثُمّ تمتم بحشرجة نتيجة خوفه متسائلاً ..إلى أين يا أبتِ ؟
-إلى حيث تعلم يا بني .
-ألَا تتمهل قليلاً حتى نتأكد من موت اليهوديّ.
-مات يا ولدي ..مات.
-اغرورقت عيناه وقال راجيًا..إنْ شاء الله ستعود بعد نجاح العمليّة ، ثمّ لثّم رأسه وهو يعلم أنّها آخر قبلة لهذا الرأس .
-لا تترك المنزل حتى أعود ، الشقة فيها كلّ ما يلزمك ، لا تترك المنزل فإنّي أخشى مِن استفزاز أهل الحيّ لك أثناء غيابي ، لا تفتح الباب لأحدٍ لا تعرفه ، فإن لمْ أعد فسيعلمك الطبيب مؤيد بفشل العمليّة ، عندها اخرجْ ومارس حياتك ، أكرر يا ولدي لا تخرج حتى أعود.
ثُمّ دلفَ بابَ المنزلِ وخرجَ مع السائق وهو يقول لولده سأعود ..انتظرني يا بني .
سعى خلفه فهمان كأنّما يريد استعادته وتحذيره ، ولكنّ أبوه قد استقلَّ السيّارة الحمراء ومضى .
فقال فهمان بصوت متهدج ..ستعود ، ستعود يا أبتِ.
كشْف حقيقة ما حدث في الفندق .......
*قد حاول فهمان أكثر مِن مرّة أنْ يقنعَ أبيه بجدوى الذهاب إلى الفندق والتأكد مِن موت الكيدونيّ مِن عدمه ولكنّه كان يأبى دائمًا ، واليوم عليه الذهاب إلى الفندق لعلّ الكيدوني لمْ يمتْ فينقذ أبيه مِن موتٍ محتمل .
فقد كان يسأل فهمانُ نفسه دائمًا ..هل بالفعل مات اليهوديّ أم لمْ يمت كما أظنّ ..؟
ترك فهمان المنزل خلف أبيه بساعة تقريبًا وأخذ بعض المال معه قاصدًا الفندق ليبحثَ عن الحقيقة .
فسعى خلفه فرد مخابراتي مِن اتحاد المقاومة ليحميه من أيّ سوء ، وقد أرسله مؤيد بسبب غياب أبيه .
*ظلّتْ السيّارةُ الحمراء التي يستقلّها فطينُ تسير على الطريق الرئيس حتى إذا قطعتْ عدة كيلو مترات كان هناك على جانب الطريق شاحنة في انتظارهما ، فُُتح بابها الخلفيّ وأنزَلَتْ درجًا فصعدته السيارة ثمّ رفُع الدرج وأُغلق باباها .
*استقلّ فهمان سيّارة فأسرع نحوه فرْد المقاومة ليمنعه ، إذْ ليس مسموحًا له بالخروج خارج منطقة الحيّ وللأسف السيّارة ولّت .
*تبعه فردُ المقاومةِ وبعد ساعة تقريبًا توجّه فهمان إلى موقف سيارات السفر إلى محافظة سيناء ومِن هنا بدأتْ مرحلة الخطورة .
*هاتفَ فردُ المقاومة رئيسه بشأنِ وجهة الفتى ، فردَّ عليه..أيّها الأبلة كيف استقلّ سيّارة وأنت تراقبه ، أين كنتَ أنت وقتها .. اقبضْ عليه وأعدْه إلى بيته ، ثُمّ قال له كأنّه لمْ يسمعْ ما قاله فرْد المقاومة ..معذرة أقلتَ أنّه توجّه إلى سيارات أجرة سيناء الوادي الجديد ؟
ردّ ..نعم.
فقال له بغضبٍ شديدٍ ، امنعْه الوصول إلى سيناء ولا تلتحمْ بأيّ إسرائيليِّ مهما كان الثمن ، ولوْ كان الثمن حياة الفتى .
ردَّ ..عُلم .
أغلق الرئيس الخطّ وتذكّر كلمة مؤيد له..حافظ على الفتى في غياب أبيه وبالأخص إذا أراد أن يسافر إلى فندق هيلتون طابا بسيناء.
*سارتْ الشاحنةُ نحو ساعتيْن وهي في حالة ترقّبٍ حذِرٍ ، ثُمّ فُتحَ البابُ الخلفيّ وأُنزلتْ نفسُ السيّارة ، السيّارةُ الحمراء يسوقها سائقٌ قريب الشبه بالسائق الأول ويرتدي ملابسه ، وكذلك جلس بجانبه رجلٌ قريب الشبه بفطين ويرتدي أيضاً ملابسه ، بينما السائق الأول وفطين الآن في الشاحنة ارتديا ملابس السابقيْن الذين نزلا مُنذ قليل .
مضتْ السيارة الحمراء نحو مكانٍ عامٍ مزدحم بالناس ، ثُمّ نزلا وترجّلا ترجْلَ فطين والسائق الأول ، نزلا على أحد المقاهي ولعبا الطاولة نحو ساعة ، ثُمّ استقلا السيّارة ومضوا إلى مكانٍ خالٍ تمامًا ليتبينا إنْ كانا مراقبيْن أمْ لا ؟
أمّا الشاحنة فقد استمرّتْ في السير نحو ساعتين ، وبعدها فُتح البابُ وأُنزلتْ سيارة بيضاء يستقلّها فطينُ والسائقُ .
مضتْ الشاحنةُ في طريقها المرسوم لها بعيدةً تمامًا عن مسار نفق اتحاد المقاومة ، وانعطفتْ سيّارة فطينُ متّجهة إلى مسارها المرسوم لها ، حيث نجد في هذا المسار سيارة أخرى تنتظرهما يستقلها اثنان لتذهب بهما إلى نفق الوادي الجديد مباشرة .
استقلّ الأربعة السيّارة ومضوا جميعًا .
*اِضطر فرد المقاومة إلي إيقاف سيارته بسبب نفاد طاقة البطارية أثناء متابعة سيارة فهمان لأكثر من ساعتين لحين إمداد ألواحها الشمسية بالطاقة التي تنتقل مباشرة إلى البطارية ، ثُمّ اتّجه مباشرة للمسار المؤدّي إلى سيناء ليلحقه.
راسل فرْد المقاومة قائده بشأن تأخره ، فقال له ..إنْ لمْ تدركه توجّه مباشرة إلى الفندق.وتابع كلامه ..رُدّه إلى الوادي الجديد باللين والحذر .
وكرّرَ ..عليك بردِّ الفتى في خفية ..ممنوع الالتحام تحت أيّ ظروف في الفندق حتى لو تعرّضَ الفتى لخطرٍ محدّقٍ ..
قال فرْد المقاومة سمعًا وطاعةً سيدي .
*عصب أحدهما عينيّ فطين بعصابةٍ محكمةٍ ، وظلّتْ السيارة تسير قرابة ثلاث ساعات تهبط وترتفع وتنعطفُ كثيرًا في الأيامن والأياسر .
وفجأة انعطفتْ تاركة ًالأسفلت بعدما أُبدِلت بعجلاتها الأربع ثلاثًا ..
واحدة أماميّة واثنين في الخلف ، تلك العجلات مصممة لتكون أشبه بشكل خفِّ الجمل ، وظلّتْ تسيرُ في رمال الصحراء ثُمّ هبطتْ في نفقٍ ولمْ تسرِ إلّا مئات الأمتار ثُمّ وقفتْ .
أنزَلوه ومضوا به معصوب العينين بماله وعصاه داخل مبنىً عسكري كبير تحت الأرض ، ثُمّ توقّفوا فجأة وطرقوا بابَ مؤيد فأدخلهم ثمّ نزعوا العصابة عنْ عينيه.
فرآه فطينُ واستبشرَ خيرًا .
قالَ له الطبيبُ مؤيد..أهلاً بك في معسكر اتحاد المقاومة الفلسطينيّة.
لا تؤاخذني يا صديقي على الطريقة التي أتيتك بها ، فالحرص ضروريّ جدًا ، إذْ أنّ كشْف نفق اتحاد المقاومة هنا كارثة الكوارث لأنّه مركز كلّ عمليات المقاومة.
ثُمّ أسهبَ مؤيد في حديثه حول عِلة هذه الإجراءات حيث قالَ ..تكتم إسرائيل عن الحادثة شئ مقلق ، وعلى الرغم أنّ لنا عيونًا مهرة إلا أنهم لم يستطيعوا معرفة شئ عن هذا الحادث ، وأغلب الظن أنهم يشكون أنك من قادة اتحاد المقاومة ، ولذلك آثروا أن يتركوك حتى يقتفوا أثرك فيكتشفون أحد الأنفاق العنكبوتية.
فلمّا حللت بأرض الوادي الجديد فرحوا ، واستمروا في اقتفاء أثرك كي يصلوا إلى نفقه ، هم يشكون منذ زمن أن الوادي الجديد به نفق من أنفاق الاتحاد ، زفر زفرة ثمّ قال ..فطين هو مجرد احتمال ، فمعذرةً أخي فطين ..باسم اتحاد المقاومة نعتذر لك.
نظرَ إليهم فطينُ جذلانَ ودعا لهم بالسداد والتوفيق.ثُمّ سألهم عن سبب وجود هذا النفق هنا .
أجابه مؤيد ..
إنّي أعرف أنّ الدّمَ العربيَّ يجري في عروقك ، يا ليت ولدك يكون مثلك ، المهم ..أنت تعلم أنّ عملية الاستيطان والتهجير تجري الآن على قدمٍ وساقٍ منذ تولّىَ يعقوبُ إسحاق رئاسة الوزراء وخاصة بعد أن كثّروا نسلهم لتهويد فلسطين .
ولقدْ شيدنا هذا النفق وجعلناه الرئيس لأسباب كثيرة منها ..توفر المياه بأرض الوادي ، وبُعده الشديد عن منطقة التوتر سيناء تلك التي تحت سيطرة أعين المخابرات والجيش الإسرائيليِّ ، سيناء التي تكتظُّ بحملات التفتيش الإسرائيليّة والمصريّة للبحث عن أنفاق المقاومة.
طأطأ فطينُ رأسه إعجابًا بهم .
-نظر إليه مؤيد وقال في لهفةٍِ وتوسّل..تعمل معنا ؟
-رسالتي هي تهيئة ولدي ليكون سلاحًا لبلده ، ولدي أمّة وحضارة وحده ، قل لي متى العملية ؟
-إنْ شئتَ كنتَ منّا ، وإن شئتَ عملنا لك العملية الجراحيّة ثمّ تركناك عزيزًا راشدًا .
-في المعسكر ! العمليّة في المعسكر!.
-ابتسمَ ابتسامةَ طويلة ، ثمّ قال نحن لدينا هنا أمهر الأطباء في العالم ، ولدينا مستشفى مجهزة بأفضل المعدات والتجهيزات الطبيّة.
-كيف توفّرون الطاقة لأجهزتكم ؟ يسأل فطين وهو يعلم عدة تقنيات لها.
-ننتج الكهرباءَ مِن الماء بعملية تسمى الكهرومائيّة.كذلك لدينا المولّدات الحراريّة وبطاريات نوويّة.
-مَنْ سيجري العمليّة ؟
-بروفيسور بيتر.
-دهشَ فطين وقال ..أهو بروفيسور بيتر الذي كان مع عالمنا ؟
-نعم ، هو .
-أعرفه جيدًا ، إنّه بروفيسور في الفيزياء الطبيّة وليس له نظير في العالم كلّه ، لذلك فإنّ ال سي آي أي لا زالت تبحث عنه بكلّ الوسائل .
-عاش مؤمنًا بالقضية الفلسطينيّة ولذلك فهو هنا ، سيعمل لك العملية ، والمال سنأخذه ، ورأسك إنْ كنتَ ستبخلُ علينا به فلن نأخذه .
-صمتَ طويلاً ثمّ أخذته رعدة البكاء وظلَّ يتهامس بصوت متحشرج حتى إذا هدّته الدموع هدًا سكت ، ثمّ قال له هي لكم ، رأسي ورءوس كلّ المصريّين تهون في سبيل تحرير فلسطين .
اليوم يسقط رأس فطين ليعلو رأس فلسطين .
أخذه الطبيبُ مؤيد ومضيا معًا إلى بروفيسور بيتر، وخلال ساعات ثلاث تمّ عمل الفحوصات والترتيبات اللازمة قبل إجراء العمليّة ، فتطابقتْ طبيعة العصبونيّات والدم والأوردة والشرايين.وتأكد بروفيسور بيتر تمامًا مِن قابلية التحام جسد فطين بالرأس الجديد .
فعلّق مؤيدُ قائلاً..أرأيتَ يا فطين أنّ الدمَ العربيَّ واحدٌ .طأطأ رأسه وقال نعم ، وأردفَ..هل مِن الممكن أنْ اتّصلَ بولدي؟
ردَّ عليه مؤيدُ ..مستحيل ، وقد أزلنا البطارية منه بمجرد دخولك النفق فقد يكون هاتفك مراقبًا ، لكنْ لتكنْ هادئ البال ففهمان تحت أعيننا حتى ترجع ..
*للأسف وصلتْ السيّارةُ إلى جنوب سيناء ولمْ يدركْه المراقبُ حيث رآه ينزلُ مِن السيارةِ دالفًا باب الفندق ..
فتابعه مِن خارجه ولمْ يلجْه ، فهو يعلم أنّ الفندق به عناصر مِن الموساد تعرفه جيدًا .
فقرّر أن ينتظر متخفّيًا حتى إذا ما خرج فهمان أخذه ومضى .
لحظات ودخل يهوديّ الموساد الذي قاتله فطين من قبل في صحبة روبوتيه.
نظرَ في القاعة وعاين الزبائن فلفتَ نظره ذاك الفتى الجالس بعيدًا ، فأخرج هاتفه المعجزة لعلّه يدون له هويته.
رآه فهمان بصحبة الروبوتين ، هذان الروبوتان ذكَرهما له أبوه عندما قصّ له الحادثة ، فانفرجتْ أساريره واستبشر خيرًا.
وأراد أنْ يتبيّن الأمر ويتأكد أنّه هو ، هو قتيل أبيه المزعوم ، فاقترب إلى صاحب البار وسأله عن هذا الرجل ، فنظر إليه باشمئزاز ولم يجبه ، فأخرج فهمان مِن جيبه مئتي دولار وأعطاها له وسأله مجددًا عن وقوع حادثة بين رجل عربي وهذا الرجل اليهوديّ .
حدج عامل البار في الدولارات فاستقلّها فزادها إلى خمسمئة ، نظر إلى اليهوديّ يرقبه وهو يأخذ الخمسمئة دولار ثمّ مدّ يده في جيب فهمان وأخذ كلّ ما فيه وأمسكَ بكلِّ المال وضربه في درج البار ، ثمّ بدأ يقصُّ عليه صِدقاً ما حدث حيث قال..
قَدِمَ علينا رجلٌ بعصا سحريّة ، رجلٌ مِن الطراز القديم جدًا ، مصريّ شجاعٌّ لا يشقّ له غبار ولا يهزمه أحد ، قاتل الروبوتين فهزمهما وأتلف الشرائحَ الإلكترونيّة والهاتف لهذا اليهوديّ السيد ، وضربه ضربات قاتلة ، وظنَّ الرجلُ أنّه مات بعد أنْ مثّل عليه دور الميت .. و .. مقاطعة ..
-قال له فهمان حسبك وكفى وتركه دالفًا باب الفندق للخروج .
وأخيرًا رمقه اليهوديّ وهو يحادث الفتى فدنا من صاحب البار.
حوار بين مؤيد وبيتر بشأن العمليّة :
دلفَ مؤيدٌ حجرة بيتر وكان بيتر حينها يكتب في ورقة أسماء طاقم أطباء العملية الجديدة .
-قال مؤيد ..بروفيسور بيتر ، فطين هذا قوىّ أمين ، محبٌّ للعروبة ، معتزٌّ بوطنيّته ، له دراية كبيرة بعلوم الفيزياء ، لديه كلُّ المقومات التي تؤهّله ليكون قائدًا فعّالاً في اتحاد المقاومة.
-إنْ كان كذلك فجنّده .
-قال متأوّهًا ..للأسف رفض .
-لم ؟
-يقول إنّ رسالته نحو بلده مصر والعروبة تكمنُ في تأهيل لولده ليكون عالمًا .
-قال مازحًا ..إذن اقتله ، يقولها وهو يقهقه.
-لمْ يبادله القهقة بسبب تغلب مشاعر الحسرة على كلِّ حواسه ..يقول عن ابنه بأنّ لديه عِلمًا إبداعيًا ليس نابعًا عن دراسة وإنّما عن مخزون إبداعيّ محضّ .
-فطينُ رجلٌ ذكيّ ويفكر بحنكة ، فعلاً مؤيد..إذا كان الربُّ وهبه ذلك فعليه أنْ يكرّسَ كلَّ حياته مِن أجله ومِن أجل مصر ومِن أجل فلسطين ومِن أجل البشرية جمعاء.
-هذا رأيك اذن ؟
-نعم ، هذا رأيي ولكنّ الإبداع يلزمه دراسة أيضًا ، ولذلك ستعترضه بعض العقبات ، سيحتاج إلى مالٍ كثيرٍ لينفق على تعليم ابنه.. صمت هنيهة ثمّ سأله ..ماذا يعمل هذا الرجل ؟
-ساحر ، سكت هنيهة ثمّ قال ..أبتِ هل من الممكن نفعل شيئًا لفطين لعلّه ينضمّ إلينا يومًا .
-نعم ، ممكن جدًا وخاصة أنّه ساحر ولاسيما لو كان ساحرًا متعلّمًا .
-إذن ، نهيّئه وابنه لنا .
-ماذا تقترح ؟
-غيّرْ الرأس كما اتفقنا ، أريده أن يكون مزدوج الخِلقة ، اجعله إنسانًا وروبوتًا معًا لينفع المقاومة.
-لا مانع لديّ ، فطبيعة عمله تناسب ما اقترحتَ به يا مؤيد ..سأفعل .سأضع في الرأس الجديد خليةًّ إلكترونيّةً تحتوي على مليارات العصبونيّات الصناعيّة فتزيده ذكاءً ، فضلاً عن قدرتها على نسْخ نشاط فيزيائيّ .
-لنعملَ على ذلك ، سأدخل معك غرفة العمليّّات وأكون لك معاونًا .
-أمرك يدعو للفضول ..لِمَ رغبتَ في العمل معي في هذه العمليّة بالأخصّ ؟ .
-لإنّ فطين هذا شيء عظيم ، كما أنّي أحببته جدّاً .
-لا مانع لديّ ، واعلمْ أنّ ما يحفّزني ويستنهض عزيمتي على تركيب هذه الخليّة أنّها ستجعله مِن الأثرياء بسبب قدرتها على نسْخ أعمال فيزيائيّة أثناء أداء أعماله السحريّة ، وسيحتاج إليها كثيرًا ، فبدونها لنْ يستطيعَ أنْ يتحصّل على المال اللازم لتعليم ولده .
-كيف ؟
-الدولةُ المصريّة لا تعتني بالعلماء ، والجامعات الأمريكيّة وكذا سائر جامعات العالم حجّمتْ كثيرًا مِن المنح والمساعدات لتدعيم الطلاب الدوليين ، ففطين سيحتاج إلى أموالٍ كثيرةٍ لينفق على ابنه.
-يفعل الله ما يشاء.
-خذ أسماء هذا الطاقم وأعدّه ، فخلال ساعة سنبدأ عملية الزرع .
بعد خمسة وأربعين دقيقة دخل مؤيد على بيتر ، أبلغه أنّه أعدَّ الطاقم وغرفة العمليات ، ومضوا جميعًا إليها .
*بعد أن خرجَ فهمان من الفندق وكان وقتها مؤيد يحادث بيتر قرّرَ الاتصال بأبيه لمنع عمل العمليّة .
سأل اليهوديّ صاحب البار عمّا سأله الفتى فأخبره فقط بأنّه يسأل عنه.
-فقال اليهوديّ وماذا قلتَ له ؟
-قلتُ أنّك صاحب الفندق ورجل شريف.
-جيد ..ثُمّ استطردَ ..هلْ شاهد شيئًا مِن عروض الفندق ؟ هل طلب شيئًا؟ هل جاء برفقة أحد ؟
-لا أظنّ ، لا ، لا أظنّ.
تركه اليهوديّ قاصدًا الخروج خلف الفتى .
بينما فهمان في طريقه للعبور خارج الفندق تبعه اليهوديّ والروبوتان ، يريد أنْ يعرفَ سبب مجيئه وسؤاله ، وفرْد المقاومة يراقبُ المشهد عن كثْبٍ ، يراقب متخفيًا.
استوقفه اليهوديّ على درج السلم أمام الباب الرئيس له ..فوقف ثُم قالَ..
-لِمَ تسأل عنّي أيّها الفتى العربيّ ؟
-توسّمتُ فيك الشرف والإجلال فأحببتُ أن أعرِفك.
-ردّ بغضبٍ ..قلتُ مَنْ أرسلك إليّ ، ماذا تريد منّي؟ ما شأنك بي ؟
-ردّ بخوفٍ..قلتُ توسمتُ فيك الشرف والإجلال فأحببتُ أنْ أعرفك.
اغتاظ اليهوديّ وقررَّ الإمساك به واصطحابه إلى مكانٍ خالٍ حتى يعرف حقيقة مجيئه للفندق والسبب وراء سؤاله.فأمسكه وجذبه مِن أجل ذلك.
فقاومه فهمانُ حتى لكمه اليهوديّ فطرحه أرضًا ، ثُمّ أشار إلى حتشبسوت بحمله .
تيقّنَ عندها فرْد اتحاد المقاومة أنّ الأمر خرج مِن يده برمته وخاصة بعد الأمر الذي صدر له بعدم الالتحام .
والمفاجأة أنْ فرْد اتحاد المقاومة يسدد الخنجر فلا يخطئ مطلقًا ، فقرّرَ إنقاذ فهمان ومخالفة أمر رئيسه.
ألقى فرْد المقاومة خِنجرًا مسمومًا فأصاب اليهوديّ في قدمه ، ثمّ ألقى خنجرًا آخر على حتشبسوت فأتلف شريحة الإدخال فتعطّلتْ ، ثمّ ألقى خنجرًا ثالثًا إلى الروبوت يهوذا فأصاب منه ما أصاب مِن حتشبسوت بالضبط .
أسرع نحو فهمان فاعترضه اليهوديّ وقاتله فجنّدله فرْدُ المقاومة وأسقطه أرضًا وأخذ فهمان واستقلا السيّارة وانطلقا بأقصى سرعة ..
بعد أنْ نجا فهمان مِن عمليّة قتْل محققٍ ناشدَ فرْد المقاومة الاتصال بأبيه ليخبره بأمرٍ خطيرٍ قبل أنْ يقوموا بعمليّة الزرع .
ردَّ فرْد المقاومة .لا أعلم عن أيّ شئ تتحدث .
سكت فهمان قليلاً وتبيّن له أنّ هذا الشخص يراقبه ليحميه فقط ولا يدري أيّ شيء عن عملية الزرع ، اتّصل بأبيه ولكن الهاتف مغلق ، وأخيرًا اضطرَّ أن يقصَّ لفرْد المقاومة كلَّ شئ حتى يتواصل مع مؤيد ليوقف العملية ..
وبمجرد أن سمع القصة قرّرَ مهاتفة رئيسه بنفق الوادي الجديد ليخبره بما سمعه.
رنَّ هاتف رئيسه ولكنّ الهاتف كان بعيدًا عنه فلم يسمعْه.
وقُطع الرأسُ...
العمليّة...
بعد التحاليل دخلَ غرفةَ العمليات وكان في انتظاره فريق متطور مِن الأطباء يقودهم بروفيسور بيتر.
جلسوا على طاولة العمليّات ثُمّ خدّروه مِن خلال جهاز التخدير الموجود أعلى الطاولة مباشرة والمتصل بأنابيب تسير فيها غازات التخدير والأكسجين مِن تمديدات مركزيّة في جدران المستشفى ، ثمّ ألصقوا على صدره ملصقات التخطيط الكهربائىِّ للقلب ، بالإضافة إلى أنابيب قياس الأكسجين في الدم والضغط .
وإلى سلك جهاز التخثير الكهربائيِ المتصل بساق فطين عن طريق لصاقة خاصة.
تمَّ تسليط الضوء الساطع على رأس فطين ، ثُمّ تقريب الميكروسكوب المجهريِّ المتطور الذي يبلغ قوّة تكبيره إلى أربعين ضعفًا .
وكذلك تمّ إحضار جهاز الليزر مع الميكروسكوب المجهريّ بالإضافة إلى خليةٍ عصبونيّةٍ إلكترونيّةٍ عبارة عن رقائقٍ متناهيةٍ في الصغر تحاكي تمامًا الخليّة الطبيعيّة للكائن الحيِّ .
وَجِيءَ بالهرم الزجاجيّ الموضوع به رأس فلسطينيّ الحدود ، الخلايا ميتة ولكنّها سليمة لم تتقطّعْ أو تتحطّم حيث أنّ الرأس كلّه تحت تأثير تقنية التبريد العميق .
بعد عملية التخدير قام طبيبٌ مختصٌ بوظائف الكبد بتنشيط الكبد بإعطاء الجسد حقنة تسمى بحقنة جنون الكبد ، ولقد سمّاها الأطباء كذلك بسبب انتفاضة الكبد وهيجانه كأنّه تحوّلَ إلى حارس يبذلُ كلَّ ما بوسعه للدفاع عنْ جسده قبل أنْ يهلك.
هو يسعى إلى المكان الذي حدث فيه الخلل ، والخلل هو قطْع الخلايا العصبيّة بعد قطْع الرأس ، فيثور ويهتاج وينتفض انتفاضة النفَس الأخير فيفرز أعلى نسبة هرمونات مِن شأنها أنّها تحول دون موت الخلايا العصبيّة.
ويظلُّ الكبد يرسل إشارات استغاثة تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ سيارات الإسعاف التي تنقذ المرضى ، تلك الإشارات هي قيامه بإفرازات لا نهائية مِن هذه الهرمونات.
يقوم بيتر قبل قطْع الرأس أيضًا وبعد التخدير بتوصيل خلية عصبيّة اصطناعيّة عبارة عن رقاقة الكترونيّة نانويّة بالخلايا العصبيّة لفطين والتي تعمل نائبة عنها إذا ما ماتتْ خلاياه الطبيعيّة وتوقفتْ عن العمل تمامًا ، كذلك في حالة دخولها السبات العضويّ .
كلُّ ما يريده الطبيب كسْب وقتٍ كافٍ حتى يتثنّى له وصْل الخلايا والنخاع والأوعية الدمويّة بتقنية جهاز الليزر حال قطْع الرأس.
*مضى رئيسُ فرْد المقاومة المكلّف بحراسة فهمان إلى هاتفه بعد تركه نحو ساعة مضت ، فتحه فسمع مِن شأن فطين ما سمع فألقى الهاتف على الفور وتوجّه مسرعًا إلى حجرة العمليات ليمنع العملية حيث أنّ مقره قريب مِن مشفى النفق .
وقُطع الرأس بعد توصيل الخلايا العصبيّة الاصطناعيّة مباشرة بينما رئيس فرد المقاومة على باب حجرة العمليّات يأمل أن يدرك مؤيد ليخبره بمنع عمل العملية.
لكن للأسف جاءه الخبر بأنّ الرأس قُطع منذ لحظات.فأسِفَ لذلك.
عمليّات الوصل..
وقام بيتر بربط الأوعية الدمويّة والخلايا العصبيّة بالليزرعن طريق تكبيرها بالمجهر، وذلك لمشاهدة العصبونات المراد ربطها ووصْل الشرايين والأوردة ببعضها ودمْج أطراف الحبل الشوكيّ معًا عن طريق الليزر فائق القصر.
ثمّ أحضر رأس الجثة المحفوظ بتقنية التبريد العميق والتي خلاياه دخلت في حالة سبات عميق مِن المستحيل إيقاظها إلّا بوصْله بخلايا حيّة ، حرّك الطاولة بطريقة مناسبة وقرّب الرأس إلى الجسد الجديد وسلّط نبضات الليزر فائقة القصر ، سرعة النبضة فيمتو ثانية وبين كلّ نبضة وأخرى 10-12 ثانية يتمُّ تسليطها على مناطق الربط .
وعلى طول مدة العمليّة كان جهاز التخدير هو البطل الثاني حيث أنّه ساعد فطين على التنفّسِ حال قطْع الرأس ، فأبقى على القلب حيّاً حيث كانتْ عمليات التنفّس تخرج مِن المجرى المؤدِّي إلى الأنف والفمِّ الهالكين عن طريق شهيق وزفير .
ومِن خلال جهاز التخدير كان طبيب التخدير يراقب باستمرار المؤشرات الحيويّة مثل سرعة النبض والضغط الدمويّ وأوكسجين الدمّ ومعدّل التنفّس وتخطيط القلب وكلُّ هذا تمَّ على أحسن حال.
كما أنّ جهاز التخثير الكهربائيّ قام بوظيفته على أحسن وجه حيث قام بوقف نزْف الدّم بالأوعية الدمويّة من شرايين وأوردة.
وأثناء العمليّة وبعدها قام جهازُ مصّ المفرزات سحْب الدمِّ والسوائل المتجمعة في جرح العمليّة وتجميعها في زجاجات صُنعتْ خصيصًا لذلك ، ثمّ تُرمى بعد ذلك لأنّها غدت مِن النفايات الطبيّة.
ولمْ تستغرق العملية أكثر مِن ثمان ساعات في حين أنها كانت في العقد الماضي تستغرق ستة عشر ساعة .
وكان مِن أحد عوامل النجاح الأساسيّة هي دقّة الضرْبة الليزريّة التي أتقنها بيتر ببراعة.
تمَّ حمْل رأس فطين ووضعه في الهرم الزجاجيِّ وتمَّ حِفظها بتقنية التبريد العميق.
والرأس الجديد فيها خليّة عصبيّة اصطناعيّة قدْ تكون سبب بقائه على قيد الحياة.
وفي الخارج ، نجد رئيس فرد المقاومة منتظرًا حالما ينتهي بيتر مِن العمليّة ، بعد ثمان ساعات تقريبًا خرجَ بيتر بمصاحبة مؤيد فناداه فالتفت إليّه ..فأخبره بأمر يهوديّ الفندق وبكلِّ ما حدث في الفندق بالضبط .
فتأوّه مؤيد ودعا لفطين قائلاً ..الله يلطف بك يا فطين .
ثمّ نظر إلى رئيس فرد المقاومة وقال له تكتّمِ الأمر تمامًا ولا تُحدّثْ نفسك به.
تركه وهاتف فرْد المقاومة ليخبره بنجاح العمليّة ، فأعلمَ فهمانَ فسقط مغشيّا عليه .
وأمّا فطين فقد سبَحتْ روحه في عالمٍ آخر أثناء مدة العمليّة ، فقد سافر إلى المستقبل أكثر مِن ثلاثة عشر عامًا .وجد فطينُ ولده في هذا المستقبل وقد ترك عالمه إلى عالمٍ آخر مِن خلال عبور سمّ كسمّ الخياط ، وقد رآه من بُعد الأموات في هذا العالم الآخر طريحَ طاولة من نار موضوعة على أرض ناريّة وحوله مخلوقات غريبة تبدو عليهم علامات التقوى والورع ، فخشِيَ أن يحترقَ فنادى عليه ليحذره ويدعوه لترك الطاولة والهروب بعيدًا عنهم ، بعدها ببضع سنوات أخر وجدهم يلفونه بلفافة مِن نورٍ لمْ يرَ مثلها قطٌّ لأنّها تنبثق من بُعدٍ مختلفٍ عن بُعد ولده وبُعده ، وقالوا له عندما يأذن الله سنخرجك.
عاد فهمان بصحبة فرد المقاومة إلى المنزل منذ ساعتين تقريبًا وفرْد المقاومة أقام معه في المنزل لحين عودة أبيه.
أفاق فطينُ مِن العمليّة فوجد مؤيد بجانبه ، نادى على بروفيسور بيتر يخبره ...
-حمدًا لله على السلامة يا بطل ..قال به بيتر.
-الله يسلمك يا دكتور ..قال به فطين .
-العمليّة نجحتْ بامتياز ، وأنتَ الآن أقوى مِن ذي قبْل بكثيرٍ ، أنت رجلٌ خارقٌ الآن يا فطين ..قال به بيتر.
-حقّاً يا دكتور ، أمْ أنّها رسالة التطمين المعتادة التي يقولها الأطباء لمرضاهم ..قال به فطين .
-بروفيسور بيتر رجلٌ أمريكيٌ لا يفهم ما تقول يا فطين ، الأمريكان لهم تقاليد غيرنا ، همْ يقولون الحقيقة ولا يعرفون المجاملات.قال به مؤيد.
طلب بيتر من مؤيد إحضار مِرآة ، نصبها بيتر تلقاء وجه فطين ثمّ قال له انظرْ ..تفحّصْ ..هل ترى شيئًا ..
تفحّص فطين شكله فلمْ يجدْ إلّا خيطًا رفيعًا يكاد لا يُرى إلّا بالمجهر ،، فحمد الله.
ثُمّ قال بيتر..أحمد الربَّ وأحمد أيضًا مؤيدًا فقدْ بذل جُهدًا كبيرًا معي لكي تنجح العمليّة .
نظرَ فطينُ إلى مؤيد وتذكّرَ يوم أنْ كاد يقتله في منزله بالوادي الجديد فنهض مِن رُقاده كي يقبّل يديه بيد أنّ مؤيدًا دفعه للخلف وقال له يا مجنون أنت ممنوع عن الحركة تمامًا ، ستظلُّ هنا قُرابة شهر وبعدها تستطيع أنْ تذهبَ إلى بيتك .
مضى الشهر وأتمَّ الله شفائه وأخذته سيارة المقاومة إلى منزله بالوادي الجديد.وقد تكتّموا جميعًا أمر يهودِيّ الفندق.
يتبع ..