هي : رأيت صورة وجهي معكوسة في نظرة أمي التي استقبلتني بها ،، ها هي تداري عينيها في إشفاق وما يشبه الخوف ،،
قلت لها على مسمع من أبي : هنيئا ً لك ،، نجح مسعاك ،،
فغرقت أكثر في الصمت حتى اغرورقت عيناها ،،
وإذا بأبي يقول : إني مطمئن إلى رجاحة عقلك ،،
" فلم أقل شيئا ً " ،،
قال بهدوء : لن تندمي ،، وسوف أذكرك بذلك في يوم قريب ،،
ونطقت أمي لأول مرة بقولها : لا يهمنا في الدنيا شئ سوى مصلحتك
ولكنها دنيا جديدة تماما ً علي أن أعايشها منذ الساعة ،، دنيا لا يوجد بها أثر لحبيبي ،، دنيا على القلب أن يصبر عليها حتى يجيئه الفرج بموته ،،
ودهمني شعور قاس بتقدم عمري وأنني أطرق أبواب العنوسة برجاء خائب ،، فشاب شعري وتساقطت أسناني ووهنت عظامي ،، وتبدت لي غرفة نومي قديمة بالية لم يبق من ألوانها إلا خيال ،، وثار غضبي عليه ،، أثبت أنه أضعف مما تصورت ،، وأنه خليق أن يبقى حائرا ً بلا مرفأ إلى الأبد ،، الحقيقة أنه ضاق بحمل المسئولية ،، إنه يهرب من عجزه ،، وفي ظنه أنه لن يرمى بعد اليوم بالعجز عن الزواج ،،
إنني يجب أن أسعد بالتحرر منه ،، إنني أخف مما كنت في أي يوم مضى ،، هجرني وخانني ،، من غيره يسأل عن تعاستي ذات الأنياب الحادة ،، يجب أن أهنئ نفسي على التحرر منه ،، ذلك الفقير الحقير المعدم البائس ،، من الآن فصاعدا ً أستطيع أن أزن الأمور بعقل غير مشلول بقيود القلب ،، أنا حرة ،، حرة ،، حسبي ذلك ،،
مرارة التجربة التي طحنتني مزقت أقنعة الحياء الفارغة ،، أنضجتني أكثر مما قدرت ،،
ولكني عندما انفردت بنفسي انهار سد المقاومة فأجهشت في البكاء ،، ليكن هذا وداعي الأخير للماضي العقيم ،، قد أكون خسرت أثمن ما في حياتي ،، ولكن لأدع كل شئ للزمن ،،
ماذا كان يعني رئيس القسم ذلك اليوم ؟! ،، يا للتعاسة التي تتمطى بلا حدود ،، هل يشفي الزمن حقا ً من الحب ؟! ،، متى وكيف ؟! ،، لن يفيد البكاء وإن رويت الدهر بالدموع ،، سأعالجه بالازدراء كما سقاني الذل ،، والداي يمعنان في الهرب حتى ينظما صفوفهما ،، أول النصر هزيمة ،، هرب وتحررت ،، احملي ألمك بشجاعة حتى يتبخر ،،
انتظرت رؤيته في المستشفى صباحا ً مصممة على لقائه كزميل وكأن شيئا ً لم يكن تماديا ً في إعلان اللامبالاة ،، لكنني لم أستطع ،، لم أنظر نحوه ففضحت تعاستي ،، ترى كيف بات ليلته ؟! ،، شاركني العذاب أم غط في نوم من الراحة والحرية ؟! ،،
وكان لا بد للسر أن ينكشف فعرف في القسم وأحدث في الظاهر على الأقل وجوما ً ،، لم تعلق واحدة في القسم بكلمة ،، لعل المفلسات قد سعدن ،، فالتعساء يتعزون بالتعساء ،،
وقال لي رئيس القسم : علمت وأسفت ،،
" فلذت بالصمت" ،،
فقال : لكنها نهاية محتومة ،، وفي تقديري أنها جاءت متأخرة ،،
ثم بنبرة أقوى : مثلك لا يصلح لها أن تعلق مستقبلها بوعد مجهول كأنك لا تدركين قيمتك الحقيقية ،،
" ولم أنبس بكلمة " ،،
فقال : عندما قلت لك يوما ً إن لكل مشكلة حلا ً كنت أفكر في هذه النهاية ،، وإن يكن كل وجود إلى زوال فالحزن لن يشذ عن هذه القاعدة ،،
وطوال حديثه تصفحني بنظرات جريئة لم يعد يخفف منها الحاجز الذي كان قائما ً ،، كم أكرهه ،،
وفي المساء قال لي أبي : أود أن أصارحك بأنه لو كان كامل الإخلاص لما تخلى عنك أبدا ً ،،
ورغم أنني ملت لتصديقه إلا أنني قلت : لأنه لم يعد يحتمل المزيد من اللوم فقد أقدم على ما يسميه بالتضحية ،، إني أعرفه تماما ً ،،
فقال : ما يحزنني حقا ً أنني السبب في هذه المأساة ،،
فقلت باستياء : لقد انتهى كل شئ
فقال وهو يبتسم : بهذه الروح نقهر الأحزان ،،
قبلت رأسه واستأذنته معتذرة بالنوم ،، وا أسفاه ،، هو يمعن في البعد وها نحن نتحدث عن حياة جديدة ،،