حوار حول "مدخل إلى القرآن
محمد عابد الجابري
نشرت الأسبوعية المغربية "الأيام"، في عددها المؤرخ ب 11/17 نوفمبر 2006، حوارا أجرته معي بمناسبة صدور الجزء الأول من كتابي "مدخل إلى القرآن الكريم". وقد تطرق الحوار إلى الضجة التي أحدثها مقال كنت نشرته في جريدة "الإتحاد الإماراتية"، ضمن سلسلة مقالات مقتبسة من نفس الكتاب. وتلبية لطلب عدد من زوار هذا الموقع ننشر هنا نص ذلك الحوار.
قدمت الأسبوعية المذكورة لهذا الحوار بالعبارات التالية:
"لم* يكن الكثير من المتتبعين قد اطلعوا بَعْدُ* على كتاب "مدخل إلى القرآن الكريم"* عندما ظهرت بعض ردود الفعل تنتقد محمد عابد الجابري* الذي* كان قد نشر بعض المقالات التي* تناولت بعض مضامين إصداره الجديد*.
* "مدخل إلى القرآن الكريم"* إضافة جديدة في* المشروع الفكري* للجابري،* إضافة* يواصل من خلالها المفكر المغربي،* رحلة البحث العلمي* في* التراث العربي* والإسلامي... بتبني* نفس المنهاج الذي* اختاره منذ *"نحن والتراث" : منهاج جعل المقروء معاصرا لنفسه*.. معاصرا لنا*.
"من* يطلع على كتاب الجابري* الجديد،* يجد نفسه مدعواً* إلى الوقوف على طرفي* معادلة مستعصية،* قوة المنطق وعمق البحث العلمي* ودقة الدراسة من جهة* … ومن جهة أخرى،* قرون من* "الأفكار المتلقاة* "... من الجمود والتقليد*.
"بين طرفي* المعادلة،* يأتي* الكتاب/البحث العلمي،* ليمارس الكثير من*" الخلخلة" لمفاهيم التعاطي* مع قضايا أساسية في* التراث العربي* الإسلامي،* لعل أهمها * قضية التعامل مع القرآن كنص* يريده الجابري* معاصرا لنفسه* .. ومعاصرا لنا*.
"في* هذا الحوار،* يجيب الجابري* على بعض أهم الأسئلة التي* تخلفها القراءة الأولية للكتاب".*
"مدخل إلى القرآن الكريم": تتويج.. أم بداية؟
* س: في* تقديمك لكتاب "مدخل إلى القرآن الكريم"* قلت إنك لا تميل إلى اعتباره تتويجا لسلسلة،* لكن في* المقابل،* لا* يمكن للكتاب إلا أن* يكون جزءاً* من المشروع الفكري* لمحمد عابد الجابري،* وبالتالي* نتساءل عن موقع *"مدخل إلى القرآن الكريم"* من مشروع نقد العقل العربي؟
*ج: هذا ما حاولت أن أعرض له وأتحدث عنه في* ذلك التقديم،* قلت إنني* لا أستطيع القول بأن الكتاب هو نقطة انطلاقة لمشروع جديد أو أنه تتويج للقديم،* كل ما* يمكنني* قوله هو أنني* ما كنت أستطيع أن أخوض في* هذا الميدان بهذه الطريقة لو لم أكن قد قدمت المشروع السابق*.
المشروع السابق هو عبارة عن إطلالة على الثقافة العربية في* مجملها وفي* تطورها.* كان المركز حاضرا دائما، طبعا،* وأقصد القرآن الكريم،* لكن،*, من حسن الحظ ربما، وأيضا بالنظر لقناعة فكرية لدي،* كنت أجزم بأنني* لا أستطيع البدء بالقرآن،* وأنه لابد من مخزون فكري* ثقافي* حتى* يمكنني* الخوض في* هذا المجال*.
ومع ذلك،* لم أكن أجزم أنني* سأكتب عن القرآن بهذا الشكل،* ولا حتى عندما بدأت أكتب.* وقد أوضحت ذلك في* التقديم،* وقلت إن بعض الإخوان اقترحوا علي أن أكتب عن العلم في* الثقافة العربية أو عن الجمال فيها*. وقد تحدثت أيضا عن الظروف التي أثارت لدي هذا الاهتمام،* وقلت إن قيام الثورة الإيرانية والصحوة الإسلامية،* وبعدها الحركات الإسلامية في* الثمانينيات والتسعينيات،* ربما صرفتني* عن مشروع آخر كنت أفكر فيه وهو نقد العقل الأوروبي،* وقلت إنه لابد من الاشتغال على هذا الموضوع، موضوع مدخل إلى القرآن*.
التعامل مع القرآن له شروط
* س: في* تقديم الكتاب،* تشيرون أيضا إلى أن أحداث شتنبر* 2001* كانت دافعا وراء التفكير في* الاشتغال على هذا الموضوع؟
* ج: ليس تلك الأحداث بالضبط.* لقد بدأت أحس بالحاجة إلى الكتابة في هذا الموضوع في* السبعينيات،* في* أواخرها، عندما ساد الساحة نقاش حول الصحوة الإسلامية،* ثم حول الثورة الإيرانية.
لقد حصل آنذاك تحول إيديولوجي* كبير،* فبدل الاستناد على ماركس أو غيره من* المرجعيات،* قام تيار فكري * يعتمد الإسلام كمرجعية.* وكما نعرف فالتوظيف الإيديولوجي* للمرجعية الدينية هو سلاح ذو حدين،* بسهولة* يتم تكفير الناس،* وبسهولة* يتم تفسير النصوص..* بسهولة* يستشهد شخص ما بآية قرآنية ويعتبر نفسه على حق*.
من خلال تعاملي* مع القرآن في* الأعمال السابقة،* أدركت أن القرآن هو واحد من الكتب التي* لا* يمكن أن تُقرأ كما يقرأ الإنسان جريدة أو قصة* .. القرآن كتاب تاريخي،* وللتعامل معه،* لابد من فكر تاريخي* متتبع لتطور الثقافة العربية وخصوصا الجانب الكلامي والفقهي.* إن آخر فصل من فصول أصول الفقه مثلا هو المتعلق بـ* "الفتوى*"،* والشروط التي* وضعت لإصدار الفتاوى* وما إلى ذلك*.
شعرت أن الناس* يتعاملون مع القرآن بسهولة* غريبة،*عندما يفتون* .. فقلت إنه لابد أن أوضح للناس وللقراء أن الأمر ليس بتلك السهولة،* وأن التعامل مع القرآن له شروط،وأن فهمه* يتطلب عدة وسائل ثقافية*.
* س: بمعنى أن المشروع ظل مؤجلا إلى حدود أحداث شتنبر* 2001*..
* ج: الفكرة كانت دائما موجودة،* لكن عندما وقع ما وقع في* 11* شتنبر*2001،* وظهر أن الطرف الذي* تبناها هو تيار ديني* متشدد*.. أعطى هذا الحدث وزنا للشعور الأول*. لقد ظهر لي أننا أصبحنا أمام حركة عالمية تمارس العنف باسم الدين،* قد* يوافقها البعض ولا* يوافقها آخرون،* قد* يبرر أعمالها البعض ولا* يبررها آخرون* .. لكن،* ما دامت المرجعية لديها هي* القرآن والسنة،* فقد رأيت أنه من واجبي* قول شيء حول القرآن كما* يبدو لرجل* يريد أن* يكون موضوعيا وعلميا*…
معنى "التعريف بالقرآن"
* س: تقولون أيضا إن هدفكم هو التعريف بالقرآن، للمسلمين* ولغير المسلمين. نود أن نعرف ما الذي* تغلب عليك كهاجس،* هل هو التعريف بالقرآن لغير المسلمين* .. أم التعريف به للمسلمين في* الدرجة الأولى؟
* ج: هم بالنسبة إلي* سواء* .. الفرق بين المسلم وغير المسلم في هذا المجال، هو أن المسلم* يؤمن بالقرآن،* وغير المسلم لا* يؤمن به.* أما المعرفة بالقرآن،* معرفة أغلبية المسلمين ومعرفة علماء المستشرقين وحتى البابا نفسه،* فإنها تبقى معرفة هزيلة*. أعتقد اليوم أن الأجزاء التي* كتبت في*" نقد العقل العربي"،* هي* ضرورية، ونحن في* حاجة لأكثر منها، لاكتساب معرفة حقيقة بالقرآن
الغالبية من المسلمين اليوم حتى المثقفين وحفاظ القرآن الخ* يمكن أن نعتبر أن فهمهم للإسلام* -هو، كما كان* يقال قديما، من جنس **"إيمان العجائز"، أي* الإيمان بدون بحث،* والنتيجة هي أن أي* شيء خارج عن الموروث* يتم اعتباره خارجا عن الإسلام*. في* النهاية* "إيمان العجائز"* هو إسلام الجهل بالقرآن وبما فيه وبظروفه*.. وهو إيمان مقبول من الناحية الدينية،* لكن من الناحية الفكرية هو* غير كاف*.
لذلك،* فسواء تعلق الأمر بالمستشرقين أو بغير المسلمين عموما،* أو تعلق الأمر بالمسلمين،* أو حتى ببعض الذين* يكتبون في* هذا الميدان أيضا،* فإن الغالبية العظمى منهم ليست في* المستوى الذي* يتطلبه التعامل مع هذا الكتاب: القرآن الحكيم.
أهمية التعامل مع ترتيب النزول اليوم
القرآن كما نعرف،* هو نص نزل في مدة* 23* سنة وخلال هذه السنوات المديدة * كان ينزل مرة آية*.. أو آيات ومرة سورة*.. وفي الغالب كانت هناك "أسباب نزول" أو مناسبات للنزول، وهي وقائع اجتماعية حياتية، الشيء الذي يجعل نزول القرآن منجما متساوقا مع تطور الدعوة المحمدية ووقائع السيرة النبوية. بمعنى أن الواحد منهما يشرح الآخر. ومن هنا ارتأيت أن الطريق إلى معرفة القرآن هو التعامل معه على أساس ترتيب النزول لسوره.* أما المفسرون* - كلهم تقريبا* - حتى الكبار منهم،* فقد انساقوا في تفاسيرهم مع ترتيب * المصحف،* فيبدؤون من البقرة (بعد الفاتحة) ليفسروا ما تلاها في المصحف، هذا* بينما واقع الحال أن البقرة هي* تتويج للقرآن،* ولهذا قال* "بلاشير*" الذي* قام بترجمة القرآن إلى الفرنسية "نحن نقرأ القرآن مقلوبا"،* نبدأ من آخر ما نزل لنصل إلى* "قل أعوذ برب الناس*"،* بينما سورة "الناس" هذه هي* من السور الأوائل في* ترتيب النزول*. المفسرون القدماء،* ومنذ عهد الصحابة، كانوا* يبدأون القرآن من البقرة، وفيها آيات هي من آخر ما نزل، وهذا* مبرر لأن الدولة كانت تحتاج إلى قرآن التشريع أكثر من حاجتها إلى قرآن الدعوة الذي طبع المرحلة المكية، والذي كان موجها كله تقريبا إلى قريش... واليوم وقد مرت قرون على نزول القرآن نحتاج إلى فهمه كما نزل منجما على مدى أزيد من عشرين سنة.
لهذا اخترت التعامل مع القرآن حسب ترتيب النزول،* أي* من أول آية نزلت* .. إلى آخر آية*. والغرض من هذه القراءة التاريخية، هومحاولة إقامة تطابق بين نزول القرآن والسيرة النبوية،* لأن حياة الرسول والقرآن متساوقان*. هذا التساوق،*غفل عنه كبار المفسرين أنفسهم،* حين يفسرون آية من الأعراف أو البقرة أو* غيرهما،* وكأنها آية منفصلة وإذا تكلموا عن أسباب نزولها،* فهم* يتكلمون عن واقعة معينة مقطوعة عن سياقها*.
التعريف بالشيء أوسع كثيرا من مجرد تعريفه
* س: أثناء تقديمكم لبعض تعريفات القرآن،* شددتم على عدم طرح أو مناقشة التعريفات الإيديولوجية للقرآن،* في* حين أن واحدا من أهم الأسئلة التي* طرحت على الثقافة الإسلامية هو سؤال الأدلجة،* ومنه التعريف الإيديولوجي* للقرآن*.. لكنكم في* الكتاب تقولون إنكم لا تريدون الدخول في نقاش مع التأويلات الإيديولوجية.
* ج: نعم، قصدت ذلك. إنني* لا أريد أن أكرر ما قاله أصحابها عنها في الدفاع عنها أو ضدها،* لأن كل هذا* يتعلق بصراع الفرق* ..لم أرد بالتالي* أن أشغل بها نفسي* أو أن أشغل الناس بها،* ولا حتى أن أعطيها فرصة لتبعث من جديد،* لأننا لسنا في* حاجة إليها فهي ليست ضرورية للفهم*.
لذلك،* أعطيت نماذج من التعريفات فقط، لأجعل القارئ* يدرك بنفسه ما أعنيه. بدأت بتعريف بسيط للقرآن كمصحف،* ثم ارتقينا درجات،* إلى أن وصلنا إلى تعريف يقول فيه صاحبه إن من قال بخلق القرآن فهو كافر*، ومسألة "خلق القرآن" ليست من الأمور التي تدخل في تعريف القرآن..
أعتقد أن عنوان الكتاب بالعربية لا يعطي بالكامل ما قصدت.* أعتقد أن ترجمته إلى الفرنسية ستجعل المثقفين بالفرنسية* يدركون المعنى بشكل أدق* .. لأن عنوان الكتاب في* العربية* هو* "التعريف بالقرآن*"،* ولكن في* الفرنسية العنوان هو* "Connaître le Coran*"،* أي* كيف نعرف القرآن، أو المعرفة بالقرآن*.
* س: المعرفة أعمق من التعريف *…
* ج: طبعا، عنوان الكتاب هو "التعريف بالقرآن"، والتعريف بالشيء أوسع كثيرا من مجرد تعريفه. لفظ "القرآن" معروف معناه،* ولكن المعرفة بالقرآن شيء آخر... مضمون المشروع أو الكتاب* يتعلق إذن بمعرفة القرآن،* معرفته كما هو في* تاريخيته،* في* مضمونه* .. في* كل ما* يمكن التعرف عليه* فيه.
الاستفهام الإنكاري تأكيد للمسؤول عنه
* س: في* تقديم الكتاب،* طرحتم ثلاثة أسئلة هي*: هل* يمكن فصل الدعوة المحمدية عن السياسة والتاريخ؟ هل* يمكن الفصل في* القرآن بين الدين والدنيا؟ وهل* يمكن إصلاح الحاضر بدون إصلاح الماضي؟ وكيف تجيبون على هذه الأسئلة إذا طرحت عليكم الآن*؟
* ج: هذه الأسئلة طرحتها في* شكل استفهامات استنكارية،* بمعنى أنني* حين أتساءل*: هل* يمكن فصل الدعوة المحمدية عن السياسة والتاريخ؟ فإنني* أعني* أنه لا* يمكن*.
* س: بمعنى أن الأسئلة تحمل إجابات ...
* ج: في* سياقها اللغوي، الأمر واضح* فلا* يمكن فصل الدعوة المحمدية عن السياسة والتاريخ كما لا* يمكن الفصل في* القرآن بين الدين والدنيا،* كما لا* يمكن إصلاح الحاضر بدون "إصلاح الماضي" أعني فهمنا له*.
فبدل أن أقول إنه "لا* يمكن"، الشيء الذي قد يصدم القارئ،* تعمدت أن أطرح السؤال على نفس القارئ ليفكر فيه، هو، أما الجواب فهو مضمن في* السؤال نفسه*.
القرآن معاصر لنفسه معاصر لنا
* س: المتتبع لمشروع الجابري* من*"نحن والتراث"* إلى الكتاب موضوع نقاشنا اليوم،* يلاحظ أن هاجس الجابري* الأول هو ما تسميه بـ*"جعل المقروء معاصرا لنفسه ومعاصرا لنا".
السؤال هو حول كيفية تعامل الجابري* مع القرآن كمقروء لجعله معاصرا لنفسه ومعاصرا لنا؟
* ج: جعل القرآن معاصر لنفسه يعني* أولا اتباع ترتيب النزول،* لأن القرآن مطروح ومدروس ومتحدث عنه هنا على أساس أسئلة الكون والتكوين كما أشرت*. القرآن على هذا المستوى معاصر لنفسه،* كل آية فيه إلا ولها علاقة بالواقع، أي* أنني* لا أفسر آية من القرآن بحادثة جرت اليوم أو أمس،* بل بما جرى زمن نزوله، وحسب ما كان يفهمه الناس منه في* ذلك الوقت.* وهذا يجعله معاصر لنفسه*.. لكن أسلوب العرض وطريقة التبليغ* والأسئلة التي* نطرحها نحن وأشياء أخرى مما يشغل عقولنا،* يجعل القرآن معاصرا لنا،* يجعلنا ندرس أو نقرأ شيئا ليس* غريبا عنا،* ولا نجد أنفسنا* غرباء عنه*.
إذا أخذت أي* كتاب في* التفسير،* تفسير الرازي* مثلا أو القرطبي* أو الزمخشري* أو الطبري،* فستجد أن بينك وبينه مسافة طويلة،* ستجد مسافة مع اهتماماته،* ومع شروحاته،* وإن كنتُ أنا استعمل هذه الشروح كروايات،* لكن السياق والبناء* يختلف. وبعبارة *أبسط،* يمكن أن أشبه الأمر بأننا، نحن والقدماء، إزاء مواد للبناء هي* نفسها،* لكن كل واحد منا* يشيد بيته على الطريقة التي تناسب عصره*.
هذا ما* يتعلق بجعل المقروء معاصرا لنا ولنفسه في* هذا الجزء من الكتاب،* أما في* الجزء الثاني* الذي* سيتناول موضوعات العقيدة والشريعة والأخلاق،* فسيكون* معاصرا لنا أكثر،* لأنني* سأتناول فيه موضوعات من وجهة نظرنا الآن،* وليس من وجهة نظر المفسرين القدماء*.
هناك الكثير من الآيات التي* فسرها القدماء،* حسب ظروفهم،* يمكن اليوم أن نفسرها بشكل آخر،* ومن قرأ منكم ما كتبته مؤخرا عن الحجاب والردة،* فسيجد أنه معاصر لنا أكثر*.
الموضوعية * شرط البحث العلمي
* س: في* مشروع "نقد العقل العربي"* قلتم إنكم انحزتم صراحة للديمقراطية والعقلانية، الآن،* وأنتم بصدد هذا المشروع، بعد نهاية الجزء الأول وفي* انتظار الجزء الثاني،* إلى ماذا تنحازون*؟
* ج: الموضوعية تبقى دائما هي* شرط البحث العلمي،* الموضوعية تعني* عدم الانسياق مع الميولات الشخصية الذاتية*.
بالنسبة لي* مثلا،* ولو أنني* في* بيئة سنية أو من أهل السنة،* أو لنقل إنه* يصعب علي* أن أكون شيعيا أو خارجيا،* فإنني* مع ذلك أتعامل مع ما قاله الشيعة وما قاله الخوارج بكيفية أكون فيها محايدا،* أي* لا* يدخل انتمائي* الديني* أو الإيديولوجي* في* فهمي* للنص القرآني،* وبالتالي* فأنا أتعامل بموضوعية*.
وأنا أكرر دائما أن أفضل ما* يجب اعتماده في فهم القرآن هو المبدأ القائل: *"القرآن* يفسر بعضه بعضا"،* وأنه* يجب أن نترك الكلمة للقرآن لأنه أفضل من* يعبر عن نفسه، وتنوع عبارته أحسن من كل التأويلات*.
من* يقرأ التراث،* سيجد تأويلات متعددة للقرآن،* مثل تأويلات الإسماعيلية،* وهي تأويلات لا حدود لها ولا معنى لها ولا علاقة لها بنا اليوم،* ولكنها كانت تأويلات تخدم قضيتهم،* ومن الناحية الموضوعية لابد من الوقوف عندها لأن هذا شرط أساسي* للموضوعية*.
ببساطة،* الموضوع هو الذي* يفرض نفسه على الذوات كلها حتى تصبح الذوات كلها ترى فيه شيئا واحدا أو متقاربا.* وهذه هي* الموضوعية،* أي* إذا جاء السني* أو الشيعي* أو من شئت* فلن* يمكنه أن* يطعن فيَّ* من الناحية العلمية ذلك لأنه لو فكر مثلي بموضوعية سيصل إلى نفس الفهم، وكذلك الشأن في* كل بحث علمي*.
طبعا، الديمقراطية أنحاز لها دائما،* هذا الجزء من الكتاب ليس هو المضمون الذي* سأتناوله في* الجزء الثاني،* عندما سأتناول المضمون الأخلاقي،* والمضمون العقدي* والمضمون التشريعي* فسنصادف آيات كثيرة ومواقف متعددة، * فيها جانب يخدم الديمقراطية سنبرزها بما* يتناسب والموضوعية دائما*.
باختصار،* يبقى انحيازي* للديمقراطية والعقلانية أمراً* ثابتاً*.
الأحداث التاريخية والتضخيم الإعلامي
* س: ما قصدناه بالسؤال،* هو أنكم في "نقد العقل العربي"* الذي* جاء في* سياق ما بعد النكسة* … كان مشروعكم هو الانتصار للديمقراطية والعقلانية بوعي. الآن هناك سياق آخر لـ"أسباب نزول" المشروع الجديد،* أي* عالم ما بعد* 11* شتنبر و 16* ماي* بالمغرب وما تلاه*..
* ج: أولا قضية* 11* شتنبر و 16* ماي* وغيرها* ..حوادث تاريخية تقع محدودة في* ظرفها*، وهناك في* التاريخ الإسلامي وفي التاريخ العام* حوادث قتل أكثر وأقوى من هذه. فلو وقع ما وقع في* 11* شتنبر* 2001* منذ* 150* سنة مثلا فإنه لم* يكن ليصلنا بهذه القوة*.. الفرق هو أن شعور الناس بالحدث،* اليوم،* أصبح مختلفا نظرا لسرعة الاتصال،* أما الحدث في* قيمته فهو نسبي*.
ماذا* يشكل حدث* 11* شتنبر أمام ضرب الكعبة بالمجانيق من قبل* يزيد بن معاوية وجنوده؟ ما وقع في* 11* شتنبر وغيره هو لا شيء بالنسبة لما كان* يقع!* فإلى أوائل القرن الماضي،* كانت رؤوس الثوار والمتمردين والمخالفين للسلطان عندنا تعلق على* جدران فاس ومراكش والرباط وقد حدث مثل ذلك مدن أخرى بالعالم العربي كما حدث في أوربا خلال القرون الوسطى!* ما حدث وما* يحدث الآن في* العراق هو بكل فظاعاته،* وبكل الصراعات* الواقعة فيه،* هو أقل مما حدث في* الفترة الانتقالية بين عهد الأمين وعهد المأمون فترة4* سنوات من الفوضى التي لا مثيل لها، وفي الطبري صورة "كتابية" عنها.
وهكذا فكما* يسلب التلفزيون أبصرنا بالإعلانات والإشهار ويفقدنا الإحساس بالفارق وبالزمن،* كذلك يمارس نوعا من التضخيم للأحداث* لأغراض سياسية*. أحداث* 11* شتنبر وغيرها،* هي* حوادث مؤلمة، هي في* النهاية* من حماقات الإنسان. لكن حماقات الإنسان أبدية،* وما إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما إلا واحدة منها...
شعارات غير بريئة
* س: لكن هذه الحماقات انتجت ما* يمكن أن نسميه نوعا آخر من المعرفة.* أتحدث عما* يقوله *"هانتنجتون"* عن *"صراع الحضارات"* وغيرها.* وهنا أود أن أسألك عن فكرة طرحتها في* تقديم الكتاب وصفت فيها "صراع الحضارات"* و"حوار الثقافات"* و"حوار الديانات"* بـ*"الشعارات* غير البريئة"*.
* ج: نعم هي* غير بريئة،* فهانتنجتون مثلا طرح "صراع الحضارات"* قبل أحداث* 11* شتنبر*2001* . وأنا أحكي* لك الآن وقائع* .. فعندما كتب أول مقال له في هذا الشأن في* مجلة "شؤون خارجية" الأمريكية وبعدها بشهرين، دعيت إلى ندوة في*"برينستون"*" بالولايات المتحدة،*،* مثلت فيها* العالم العربي وكانت تضم*50* مفكرا مفكرين من باقي* دول العالم* .. وأثناء الندوة،* أعاد* "هانتنجتون*" طرح أفكاره و"برنارد لويس*" إلى جانبه. وعقب المحاضرة والمناقشة قال لي أحد الحاضرين من الأمريكيين المطلعين إن ما كتبه هانتنجتون كان الهدف منه هو* حمل مجلس الشيوخ على*الموافقة على ميزانية وزارة الدفاع *.. لا أقل ولا أكثر*.
أقول إن الحوادث في* حقيقتها شيء،* لكن ما يعرضه الإعلام شيء آخر،* وعندما* يعتاد الإنسان على البحث العلمي،* تصبح هذه العوامل الإيديولوجية والإعلامية وما يصاحبها من الإثارة * غير ذي* أهمية*.
الإسلام والمسيحية
* س: في* نفس الاتجاه،* أقصد الحديث حول صراع الحضارات وحوار الأديان،* كتبت في*"مدخل إلى القرآن الكريم"* أن العلاقة بين الإسلام والمسيحية واليهودية هي* علاقة تحكمها شجرة نسب ...
* ج: من الناحية العلمية،* ومن الناحية القرآنية كذلك، *الديانات الثلاث شيء واحد* .. التوراة والإنجيل والقرآن*.
ما وقع هو أنه بالنسبة لليهود وتاريخهم ومشاكلهم اقتضى الأمر أن تعدهم التوراة بالأرض،* ولكن في* نفس الوقت،* وعدتهم بـ* "مسيح" منقذ، أي* أن عليهم أن ينتظروا رسولا آت، فلما جاء عيسى وكان منهم،* انقسموا،* فذهب فريق معه ورفضه فريق آخر،* وهذا وارد في* القرآن،* وهو أمر تاريخي* وقع فعلا*.
الطائفة التي* قبلت بالمسيح تتمثل في* الحواريين* الذين نصروه فسموا "النصارى"*،* أما الآخرون فبقوا على رفضهم له. وكان من بينهم يهودي* إسمه شاؤول* وكان من أكبر أعداء المسيح*.. وفجأة قرر الدخول في المسيحية،* فاتهمه البعض أنه فعل ذلك لتخريب المسيحية من الداخل،* وليؤكد لهم أنه لا نية له في* التخريب،* بدأ بالدعوة للمسيحية خارج المجتمع اليهودي أي في البلدان التي يدين أهلها بالوثنية * فاكتسب أنصارا وسمي بـ* "بولس الرسول*". وأثناء قيامه بالدعوة احتك بالفلسفة اليونانية،* وكان من المشاكل التي كان الفلاسفة الأفلاطونيون المحدثون مشغولين بها مسألة: كيف صدر العالم وهو كثرة عن الله وهو واحد. كيف صدرت الكثرة عن الواحد؟ قال بعض هؤلاء الفلاسفة بنظرية الفيض: تصورا الإله الواحد عقلا* تعقل نفسه ففاض عنه عقل آخر هو العقل الكلي* الذي* خرجت منه النفس الكلية ومنهما خرج الإنسان والكائنات ...
ذلك ما فتح الباب أمام نظرية التثليث التي بنى عليه بولس فهمه للمسيحية : العقل الكلي صار هو* عيسى والنفس الكلية هي مريم* فأصبحت العقيدة المسيحية ثلاثة أقانيم: واحد في ثلاثة، الأب، والابن، وروح القدس وهذا يوازي جبريل في العقيدة الإسلامية. والملاحظ أن القرآن لا يستعمل لفظ "المسيحيين" لا مفردا ولا جمعا وإنما يستعمل لفظ "النصارى" من جهة، وعبارة "الذي قالوا إن الله ثالث ثلاثة" من جهة أخرى. والنصارى هم أولئك الذين ناصروا عيسى وهذا التيار قد وجد امتداهده في * الأريوسية، وفي الحنفاء ثم في القرآن الذي يطلب من الذين آمنوا أن يكونوا أنصار الله : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (الصف 14).*
الإسلام في* سياقه التاريخي* امتداد لأنصار عيسى،* أما الباقي* فهي* مسيحية صنعت من طرف بولس ورجال الكنيسة الذي حددوا "قانون الإيمان"، أي العقيدة المسيحية. والقرآن يؤكد سبع مرات أنه جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل. والمقصود العقيدة التي جاء بها موسى وعيسى.
لا* يتخاصم* إلا الإخوة، والحوار بين الأديان حوار طرش
* س: سؤالي* السابق كان في* اتجاه محاولة مقاربة أو فهم الصراع الموجود بين الديانات الثلاثة* هل هو صراع أبدي؟
* ج: هو اختلاف أبدي بنص القرآن فالله لم يجعل البشر كلهم أمة واحدة، ولكن الاختلاف لا يعني بالضرورة الصراع. والاختلاف في الدين والمذاهب والإيديولوجيات شأنه هذا الشأن، ولا* أعتقد أنه سيأتي يوم يتفق فيه الكاثوليك مع البروتستانت أو الشيعة وأهل السنة. كل ما هناك،* أننا* يمكن أن نتحدث عن الوحدة التاريخية،* أي* أن* يصل الجميع مسلمين ومسيحيين ويهود إلى هذا النوع من الفهم الذي* أتحدث عنه،* أي* أن الديانات الثلاثة متشابهة وهي* من مصدر واحد* .. والاختلاف بينها موجود،* وأن على الجميع* احترام خصوصيات الآخرين،* ولكن عليهم أن* يعرفوا أنهم جميعا* يشتركون في* الأصل*.
* س: هذا ما شرحته في* الكتاب بالمثل المغربي* الذي* يقول إنه* "لا* يتخاصم* إلا الإخوة"؟
* ج: طبعا لأن الإخوة لا* يتخاصمون إلا مع بعضهم بعضا، فنحن مثلا لن* "نتخاصم" مع البوذيين لأنه ليس هناك شيء مشترك بيننا وبينهم، أما مع اليهود والنصارى فنحن وإياهم أبناء * إبراهيم، يجمع بيننا الأصل ولكن يفرق بيننا التناسل.
* س: هذا رد ضمني* على دعوات حوار الأديان؟
* ج: نعم،* أقول إنه ليس هناك حوار حقيقي بين الأديان*، حوار الأديان حوار طرش. وقد تبين لي هذا عندما دعيت إلى ندوة حضرها الحاخام الأكبر لإسرائيل وممثل الفاتيكان (الكاثوليك) وممثل عن العرب المسيحيين من القدس، وقد انعقدت هذه الندوة يوم 16/02/1998 *بإحدى قاعات وزارة الخارجية بالرباط بمبادرة من المدير العام لليونسكو وتحت رعاية المرحوم الملك الحسن الثاني.
كانت لي مداخلة خلال هذه الندوة التي انعقدت تحت عنوان "القيم المشتركة بين الإسلام والمسيحية واليهودية والتي تساهم في إرساء ثقافة الإسلام" (في هذا الحوار تحدثت لجريدة "الأيام" من الذاكرة عن مضمون مداخلتي. أما هنا فسأورد ملخصا للنص كما نشرته مجلة "فكر ونقد" مستخلصا من شريط التسجيل بعد أن كنت تحدثت في الندوة ارتجالا ). قلت:
من أجل ثقافة السلام ... الضرورات الخمس
سأنطلق في هذه المقاربة الأولية الهادفة إلى رسم معالم القيم المشتركة بين الأديان السماوية الثلاثة والتي من شأنها أن تساهم في إرساء ثقافة السلام في عالمنا المعاصر الذي يواجه الإنسان فيه تحديات شتى، سأنطلق من قضية أصولية، قضية تنتمي إلى علم أصول الدين في الإسلام: علم التوحيد أو أصول العقيدة. يتعلق الأمر بالبحث في مقصد الشرع من إرسال الرسل إلى الناس، والحال أن الله غني عن العالمين.
وبما أن الأمر يتعلق برسل وأنبياء تعاقبوا منذ آدم، وليس برسول واحد، وبما أن الإسلام يدعو إلى الإيمان بجميع الرسل والأنبياء فقد عمد علماء أصول الدين في الإسلام إلى التماس الجواب لا من الدين الإسلامي وحده بل من جميع الأديان السماوية. وهكذا قاموا باستقراء الغايات والأهداف والمقاصد التي تشترك فيها الأديان السماوية والتي تبرر بعثة الرسل، فوجدوها ترجع إلى مبدأ واحد، وهو أن جميع الديانات السماوية إنما تهدف من وراء مختلف تعاليمها، أوامرها ونواهيها، إلى شيء واحد، هو مصلحة الناس، مصلحة البشرية كلها. ومن هنا برز الجواب عن السؤال الذي طرحوه: لماذا بعث الله الرسل؟ بعثهم من أجل أن يبينوا للناس منافعهم في الدنيا والآخرة.
هذا الجواب يطرح سؤالا آخر هو الذي سينطلق بنا مباشرة إلى موضوعنا. هذا السؤال هو: إذا كانت الديانات السماوية إنما جاءت لتقرير مصالح الناس، فما هي المصالح التي تشترك الديانات السماوية في تقريرها والدعوة إلى الحفاظ عليها.
قام علماء أصول الدين إذن باستقراء المصالح التي تشترك الأديان الثلاثة في تقريرها فوجدوها ثلاثة أصناف:
1 - مصالح ضرورية لوجود الإنسان المادي والمعنوي وسموها الضروريات: ضروريات الحياة.
2 - مصالح يحتاج إليها الإنسان لاستقامة حياته ماديا ومعنويا وسموها الحاجيات.
3 - مصالح ترتقي بحياة الإنسان نحو مزيد من السعة والفضل والتحلي بكل ما هو مفيد وحسن، وسموها التحسينات.
هناك فروق واختلافات بين الأديان الثلاثة في تقرير الحاجيات والتحسينات، ولكنها تتفق كلها في تقرير الضروريات، وهذا ما سنركز عليه هنا. وهذه الضروريات خمس وهي: حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال، حفظ الدين. وعليها تبني الحاجيات والتحسينات والتكميليات.
أعتقد أن من جملة الموضوعات التي يمكن أن يهتم بها الحوار بين الديانات السماوية الثلاث من أجل بناء تصور مشترك لثقافة السلام موضوع الضرورات الخمس المذكورة. ذلك لأن هذه الضرورات، أعني حفظ النفس والعقل والنسل والمال والدين هي أساس كل سلام وبدونها لا يتحقق السلام، لا السلام مع النفس ولا السلام مع الجار ولا السلام بين الأمم. وفي هذا الصدد أرى أنه بالإمكان تأسيس رؤية جديدة سلمية وسليمة للمشاكل والتحديات التي يواجهها الضمير الديني والأخلاقي في عصرنا، وذلك بالارتكاز على هذه الضرورات الخمس. وفيما يلي أمثلة:
1 - ففي مجال حفظ النفس يمكن بناء تصور جديد لمفهوم "الحفظ" يستجيب لمتطلبات عصرنا. إن الأصل في مفهوم "حفظ النفس" هو كف الأذى عنها مهما كان نوعه، والإذاية التي تلحق النفس البشرية تمتد على مسافة واسعة، لا نهائية الصغر ولا نهائية الكبر معا: من الخبر المشؤوم والمنظر القبيح والكلمة غير الطيبة والتمييز بجميع أشكاله، العرقي والديني والاجتماعي والاقتصادي والحقوقي الخ… إلى التعذيب والقتل الفردي والإفناء الجماعي الخ… لقد شرع الله في الديانات الثلاث أن النفس بالنفس، ولكن ليس انتقاما ولا ثأرا، بل كبحا للميول العدوانية وردعا لها. فليس القصد الإلهي من "النفس بالنفس" أن القاتل يجب أن يقتل انتقاما أو ثأرا، بل إن القصد الإلهي أسمى من ذلك. إنه تنبيه للناس إلى أن الذي يقتل غيره أو يهم بقتله هو كمن يقتل نفسه أو يهم بقتلها. ولذلك قرر الشرع "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ" (النساء: 92).
يدور الحديث اليوم حول "أسلحة الدمار الشامل". ولكن ما هو "الدمار الشامل"؟ هل هو الذي تقوم به القنبلة الذرية وحدها كتلك التي ألقيت على هيروشيما ونكازاكي مثلا، أم أنه القتل الجماعي سواء كان بقنبلة تلقى باليد أو تطلق من الطائرة أو من الصواريخ الموجهة البعيدة المدى التي تقلق من البواخر الحربية أو كان بالغاز أو بالجراثيم الخ… إن حفظ النفس يجب أن يشمل ليس فقط نفس الفرد البشري من القتل الذي من هذا النوع الفردي والجماعي بل يجب أن يشمل كذلك، في نظرنا، توقيف العمل بعقوبة الإعدام، وهي عقوبة صار من الممكن الآن أداء القصد منها بالسجن المؤبد. فالسجن المؤبد لم يكن ممكنا في الأزمنة القديمة ولا في جميع المجتمعات، لأنه يتطلب وجود دولة تتصف بالاستمرارية في مؤسساتها وقوانينها مما يجعل من عقوبة السجن المؤبد حكما بالإعدام مؤجل التنفيذ إلى حين حلول الأجل المحتوم. ويجب أن يشمل مفهوم حفظ النفس ليس فقط نفس الفرد البشري الواحد، بل أيضا نفوس الجماعات والشعوب والأمم. ومن هنا ضرورة منع الأسلحة التي تؤدي إلى القتل الجماعي مهما كان مستواها ونوعها.
باختصار تقرر الديانات السماوية الثلاث أن "الله خلق الإنسان على صورته". وحفظ النفس يجب أن يرقى إلى مستوى حفظ صورة الله، حفظها في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم.
2 - هذا النوع من الفهم لـ"حفظ النفس" يتطلب عقلا سليما، عقلا يعقل، يكبح ويحبس، الميول العدوانية في الناس مهما كان نوعها. ومن هنا ضرورة بناء فهم جديد لـ"حفظ العقل".
العقل في أصل معناه هو القدرة التي تمكن الإنسان من التمييز بين الأشياء، بين الخير والشر، بين الحسن والقبح، بين الصواب والخطأ. وكلمة "عقل" في اللغة العربية، كما في لغات أخرى، تفيد الكبح والتقييد، وعندما يوصف بها الإنسان فالمعنى ينصرف إلى أنه قوة كابحة للميول العدوانية مقيدة للشهوات الخ… بعبارة قصيرة العقل معيار يمكن الإنسان من التمييز بين الصواب والخطأ على صعيد المعرفة، وبين الخير والشر على صعيد الأخلاق، وبين الحسن والقبح على صعيد الفن والجمال.
ومن خلال التمييز بين الصدق والكذب أو الصواب والخطأ، وبين الخير والشر، وبين الحسن والقبح تبرز وظيفة أخرى للعقل تأتي في الحقيقة كنتيجة، وظيفة التمييز بين النافع وغير النافع، بين المفيد وغير المفيد، بين ما يؤدي إلى النجاح وبين ما ينتهي إلى غير نجاح. وهكذا فالنافع في الأصل هو المبني على الصواب والصحة والخير والحسن. وغير النافع هو المبني على عكس هذه. ذلك هو العقل المعياري، العقل كما يذكره الدين ويمجده وتتحدث عنه الأخلاق وتشيد به، وهو الذي كانت له القيمة الأسمى في العصور الماضية.
أما اليوم فنحن نشاهد العقل يتحول من معيار منطقي وأخلاقي إلى مجرد أداة حتى أصبح يوصف بالعقل الأداتي: مهمته تحقيق النجاح بدون اعتبار لأي شيء آخر، فأصبح النافع هو الحق وليس العكس. وبعبارة أخرى تعرفون مرجعيتها الفلسفية: العقل الأداتي هو العقل الذي يربط الحق والخير والحسن بالمنفعة والنجاح، شعاره كل ما يحقق النجاح فهو حق وصواب وجميل. ومن الطبيعي أن ينساق هذا "العقل الأداتي" مع شعار "الغاية تبرر الوسيلة".
حفظ العقل عملية يجب أن ترمي إلى إعادة الاعتبار للعقل المعياري الذي شعاره: الحق هو النافع وليس العكس.
الإنسان حيوان عاقل، بالعقل ينفصل عن الحيوان، ولكن في أي مجال؟ هل في مجال العمليات الحسابية الراقية وحدها التي يعجز الحيوان عن القيام بها، وقد أصبح الحاسوب يقوم بها؟ هل في المهارات اليدوية التي تبتدئ من الأكل باليد والفرشاة بدل تناول الطعام بالفم كما يفعل الحيوان؟ الروبوات تفعل ذلك وأكثر.
3 - أعتقد أن أول واقعة سلوكية يتحقق بها انفصال الإنسان عن الحيوان هي الواقعة الطبيعية الأولى المعبر عنها بـ"حفظ النسل". الإنسان وحده يميز بين أولاده وإخوته وآبائه وبين غيرهم. الإنسان وحده يقال عنه إنه ابن فلان. إذن يمكن القول: الإنسان حيوان له نسب. أجل على الإنسان وحده تصدق العبارة التالية "النسب" "الأرحام" "الوالدين" "الحفدة" الخ… والإنسان وحده يبني لنفسه "مدينة" فهو حيوان مدني، اجتماعي، سياسي. كل ذلك يدخل في مجال الضرورة الثالثة ضرورة "حفظ النسل". ولكي ندرك أهمية هذه الضرورة في عالمنا المعاصر قد يكفي أن نتصور ما أصبح بإمكان التقدم العلمي القيام به في مجال البيولوجيا والطب، من أطفال الأنابيب إلى التدخل في الهندسة الوراثية إلى ما يعرف اليوم بالاستنساخ. ومنذ سنين ارتفعت أصوات بضرورة وضع أخلاقيات للبيولوجيا والطب، وأعتقد أن ضرورة "حفظ النسل" تتطلب فعلا وضع أخلاقيات في هذا المجال مجال حفظ النسل.
4 - حفظ المال، والمقصود: الخيرات المادية بمختلف أنواعها والتي هي ضرورية لحياة الإنسان. وحفظها يعني حمايتها من الضياع والتبذير والاحتكار وسوء الاستعمال الخ.. لقد سنت الديانات السماوية قوانين لذلك بعضها على سبيل الأمر الملزم، وبعضها على سبيل الحث والندب والترغيب. ومعلوم أن الديانات السماوية تقرر أن المال مال الله، باعتبار أنه وحده خالق كل شيء ومالك كل شيء. وغني عن البيان القول إن الحث على التوزيع العادل للثروة أمر تشترك فيه الديانات السماوية، وقد شرعت لتطبيقه بأساليب متنوعة ومرنة بحيث يمكن تطبيقها في كل عصر حسب معطياته الخاصة.
وما يتحدى عصرنا اليوم، على صعيد المال والاقتصاد، هو هذه الظاهرة التي يكثر عنها الكلام الآن، ظاهرة العولمة. العولمة ظاهرة حضارية جديدة، وهي كجميع الظواهر الحضارية لها إيجابيات ولها سلبيات. وأخطر سلبياتها في نظرنا هو ذلك المبدأ الاقتصادي الذي تقوم عليه والذي يتلخص في الشعار التالي: "أكثر ما يمكن من الربح بأقل ما يمكن من العمال". ومن هنا ظاهرتان خطيرتان: "تسريح العمال وانتشار البطالة من جهة، وتشغيل الأطفال والنساء" بأقل أجر من جهة أخرى.
تابع