تحت عُنوان :
[ تفاحة نيوتن ومستويات العـقـل ]
كَتَب : سعود حامد الصاعدي بصحيفة عكاظ يوم الجمعة 7 / 5 / 2009 م
يأخذ المخ شكل نصف دائرة فوق الرأس، وهو يشبه، إلى حد كبير، شكل الجنين داخل الرحم.في داخله تبدو دهاليز متعرجة تأخذ شكل لعبة المتاهة، وهي ما تسمى بالخلايا . أسميها مجازا حجرات معتمة تبحث عن ضوء. وبقدر ما تضيء هذه الحجرات الصغيرة في أعلى الرأس يمكن تصنيف العقل إلى ثلاثة مستويات: مستوى العقل الذاتي، وهذا هو أدنى مستويات العقل؛ إذ إن التفكير الذاتي الذي يخدم مصالح الذات لا يحتاج أكثر من ثلاث أو أربع حجرات مضيئة، بمعنى أن أي إنسان قادر على اكتساب التجربة البسيطة من الحياة، أو المعلومة القريبة، التي يضمن بها إضاءة هذا المستوى من التفكير. ليس هذا فحسب، بل إن البهائم تستطيع إضاءة هذا المستوى بمجرد أن تمر بتجربة عابرة، وعلى ذلك يمكن القول: إن هذا المستوى من التفكير مشترك، وإن البهائم تملك هذا المستوى من العقل، لأنها تعقل وتفهم ما يراد بها، وتدرك إن كانت تساق إلى الموت، أو حتى إلى غابة خضراء وارفة الظلال.
ومن هنا يمكن أن ندرك، أيضا، حقيقة أخرى، هي أن هذا المستوى الذاتي غالبا ما يتصف بالأنانية والأثرة، حتى على مستوى المعرفة، فالطفل ـ مثلا ـ بحكم بدء تكوينه العقلي دائما ما يكون ذاتيا في التفكير، تتغلب عليه صفات حب التملك، والرغبة في معرفة ما حوله، إلى أن ينضج فينتقل بعد ذلك إلى المستوى الثاني، ولكنه انتقال تدرجي، ومقبول في حقّه، بحكم أن تشكل العقل ونموه يسير وفقا لما يتلقّاه من تجارب ومعارف، وهو، في مثل عمره، مؤشر صحي ينبئ بطفل نابه، خلافا لذلك عندما تكون هذه الصفات في رجل مكتمل العمر، يفترض فيه أن يكون قد تجاوز مستوى العقل الذاتي، وهو الجزء الأول المضيء من العقل.
المستوى الثاني: مستوى العقل الموضوعي، وفي هذا المستوى تتجه بقعة الضوء فتضيء مساحة أكبر من عدد الحجرات، ليصبح العقل مضيئا بنسبة ثلثين من مساحته، وفي هذا المستوى ينتقل العقل إلى التفكير المنطقي، والحكم على الأشياء بموضوعية، وتختفي نزعة حب التملك والأنانية المفرطة، والتعلق بالأشياء التافهة، وغالبا ما يكون هذا المستوى من التفكير في مرحلة النضج، بحيث يصبح الإنسان إنسانا كاملا، قد تفرد بخصائصه.
وفي هذا المستوى من العقل يمكن ملاحظة أن الإنسان يبدو أكثر توهجا ونشاطا، وميلا إلى الحديث عن العقل، والرغبة في التفكير بحرية، بعيدا عن الإملاءات، وهو مستوى عال من الإدراك، لكنه يحتاج إلى زاد معرفي يحقّق للعقل رغباته، ويجعله يوازن بين ما تلقاه من تجارب حياتية وما يتلقاه من معارف علمية في مستقبله.
المستوى الثالث: مستوى العقل الابتكاري، وفي هذا المستوى تتسع مساحة العقل، وتكاد تضيء جميع حجراته، فيستحيل إلى قنديل مضيء داخل الجمجمة، وهنا يصل الضوء إلى الحجرات القصية من العقل تلك التي لا يصلها الضوء إلا بعد مسافة عمرية طويلة من الخبرات والتجارب والمعارف، لتتحول، فيما بعد، إلى أدوات للإنتاج، فلا يرضى العقل بمستوى التفكير الإدراكي، ولا مستوى التفكير الاتباعي، وإنما ينتقل إلى مستوى التفكير الإبداعي، يحاول أن يحلل الأشياء من حوله ويؤلف منها شيئا جديدا، أو يركب من المختلفات شيئا مؤتلفا، فيتدسس في الأماكن المخبوءة من الكون ليكتشف ويبتكر. وفي هذا المستوى من التفكير يتجرد العقل من الجسد، ويركل الرغبات الأرضية، ويصبح أكثر إيثارا، وتبدو كل الأشياء من حوله أدوات للإنتاج، وتستحيل المعرفة بالنسبة إليه إلى زاد ضروري، وإلى بهجة حقيقية ينسى معها كل مشكلات الحياة، فلا تبقى فيه مساحة للتفكير في الماديات بسبب انعتاقه من الرغبات الأرضية وتطلعه الدائم إلى التجدد، والبحث في داخله عن حجرات جديدة لم يصلها الضوء بعد.
ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا يتهافت الفلاسفة حين يتعرضون للغيبيات بالعقل وحده ؟؛ ذلك أن العقل المجرد لا يستطيع مهما سطع ضوؤه أن يتجاوز مداره الكوني إلى ما وراء حجب الغيب، وإنما قصاراه أن يتخذ المشَاهد المحسوس طريقا إلى الماورائيات عن طريق الاستدلال والبرهان، فإذا تجاوز ذلك إلى تفسير الغيب تفسيرا عقليا مجردا كان ذلك أشبه ما يكون بإيصال مصباح في تيار كهربائي تتجاوز طاقته الطاقة المطلوبة لإضاءة المصباح، فيحدث إثر ذلك انطفاء اضطراري بسبب الإحتراق، فيعود العقل، حينها، إلى سيرته الأولى، ويرتد إلى طفولته المعرفية، وربما عاد إلى درجة الصفر !
وبالعودة إلى مستويات العقل الثلاثة يمكن أن نفهم مغزى القصة الرمزية لاكتشاف الجاذبية، سواء صحت هذه القصة أم لم تصح، لتصبح التفاحة التي سقطت على رأس نيوتن منطلق التفكير حسب مستوياته الثلاثة، ففي المستوى الأول، مستوى العقل الذاتي، سيكون مصير التفاحة الأكل، وفي المستوى الثاني، مستوى التفكير الموضوعي، سيقسم نيوتن التفاحة نصفين، نصف للأكل، والنصف الآخر سيحتفظ به للزمن، أو لمن يشاركه الأكل، أما في المستوى الثالث فلن يلتفت نيوتن إلى التفاحة، وإنما سيكون تفكيره في المسافة التي بين التفاحة والأرض لحظة السقوط.