شيءٌ ما سيضرب في فؤادك وأنت تضع حقائبك على أرض هذه القرية
ستمكث طويلاً وأنت تبحث عن سرّ هذا الانقباض الذي ولج صدرك وأنت تقطع
بخطوتك الأوّلى والثّقيلة دروب هذه القرية المعلّقة على حدود الأناضول
لعله مقبض الباب الصدئ، ربّما البغل النّافق في مدخلها الجنوبيّ
ربّما لحن الرّيح الموحش وربّما خلو الدّرب من صبية يتراكضون على وجه
الأرض الّتي ما غيّب أسفلت الحضارة فطرتها
ولا استفز الضّجيج العالق بأقدامك
المتعثرة فوق وعورة الطّريق هدأة الظهيرة بأحضان هذا المكان
ولا استجلبت رائحة المدينة على قميصك الأزرق المتحضّر همس
وأبصار العاكفات - في خدورهن عن وقاحة السابلة وبريق العابرين -
من خلف كلّ هذه الأبواب المؤصدة في وجهك الغريب
الذي لم تتفحصه عين رقيب حتّى الآن !
ها أنت تنفضّ عن حجرة الغائبين غُبرة حدادها
تعلن أنّك الغائب الجديد الذي سيدوّن على أركانها فصلاً آخراً
أوسع برداً وغياباً وآكــد حزناً ..
هذه الحجرة الأرملة التي قتلت من قبلك عاشقاً
وضيّعت غريباً كـ أنت ، قضى في الدّروب بحثاً عن قلب أمّ
تلك الضيقة الشّاسعة التي ضمت نهرين طوليين من قبلك
حتّى القت بهما أقدارُ الله إلى ما وراء الجبل العتيق جدولين يابسين ..
ها أنت .. ترجع معدماً تغادر عروش غرفتك الزّهرية المترفة التي لا يجيد
إحكام نوافذها المُشرعة منذ ألف دويّ وحقد فاقع سواك
ولا يعرف كيف تُرتّب أحزانها المبعثرة بترف مجنون بعدك ..
ها أنت تنصهر في هذه المهجورة الباردة
المعوزة التي تغازل أوتاد الله من قبل أن تولد أنت وتقضم قلبك قواطع الغواية
كلّما ألقت مصائدها القلوب على دروب صباك فتنة وقصائد !
ستدرك على أكتاف تلك القرية الصهباء المتصوّفة
أن هذا العالم الكثير الواسع المخيف بسعته صار أضيق من صدر مريض
مصاب بورم خبيث في رأسه حتّى ما عاد يطيق صوتك المنخفض
الخجول الذي لطالما وبخك أبوك بسببه لأنه لا يصل لأبعد من أذن قلبك
ستعرف أنّه أمسى طفلاً أنانياً أفسدته رغباته المتاحة حتّى طفق يرفض
كلّ عبء تحاول أن تضعه على أكتافه !
ها أنت أيّها المستبعد أيّها المرميّ غريباً تراك ضئيلاً
تراك لاشيء وهم يخلعونك منك، يطردونك من وجودك
فتركض هارباً ككلب مذعور خائف من حجر الضّر الذي يلوّحون لك به
تنسى في غمرة لهاثك أيها المهزوم في نفسك
أن حجر الضّر لا يمسكه إلا الله
لا ترتدِ الأسباب فوق فراسة هذه القرية المؤمنة
ثوب الأسباب أضيق من أن تُغطي به عُري إيمانك ..
تتراءى لي وأنت جالس في عرائك الجديد
لحد حريتك المزخرف ، منفاك اللائق بفرارك المشين
وحشتك المتحضرّة الباذخة المتراكمة بإسراف
أمام جمود ترابك وصقيع خطاك فوق دمك الحار حدّ اللّعنة !
ستلوك نصف رغيف بارد دون أن تعرف مذاقه وأنت تقلّب في رأسك كلّ الصور
المنتصبة في ذاكرتك منذ ميلادها ،تمرّ بطفولة هذا البلد وصبا الفراتين
وأعمدة شارع الرّشيد المتعبة والثمل المنسكب من كورنيش أبو نواس
ورائحة السّمك المشوي في أُمسياته ستمرّ بنصب الشّهيد والقبة الفلكيّة
وثانوية العقيدة للبنات وكلية الهندسة في جامعة بغداد التي تيمم وجهها صوب دجلة
الذي يحيط بها كحضن أُمّ قلقة وستمرّ بالكرخ في ليلة أربعاء تجتمع فيها النسوة
على ضفاف النهر - عند مقام للخضر - يمررن أُمنياتهن شموعاً عائمة على وجه النهر
وسترى نفسك هناك طفلاً يتساءل
هل يحدّث هذا النّهر ربّه ؟ ويرسل أُمنيات النسوة إليه ؟
هل يمرّ الخضر من هنا كل ليلة أربعاء ؟
أيجمع هذه الأحزان المشتعلة ويصعد بها إلى السّماء ؟
ثم تجيب ساخراً أو يحتاج الله لشمعة ونهر وعبد صالح ليسمع أُمنياتهن ؟
وستذكّر أنه كان عليّك أن تشعل شمعة الأمنيات لكن على دجلة مصلّاك
قبل أن تجفّ عين الإنابة في قلبك وتجفّ معها دجلة عبّاد النّهر والشموع
وتسيل فوق يباسها وخرافة الجاهلات كلّ هذه الدّماء
ولكنّك رغم ضلالك تعرف أن الله آكد سمعاً وأصدق تلبية من الخضر ومن النّهر
ومن ذلك الغريب الذي يموت عنك صوته كلّما احتجت إليه !
تصطك واجماً كمنضدة صيفيّة مرّ بها شتاء ماكر
لم يُبقِ على صدرها بريقاً تستعطي به شهوة أكتاف جائعة
لمتكئ ودفء !
تذوي خائباً كمحراثٍ صدئ ما عاد يغري شبق الأرض
ساكناً كساعة عتيقة يظلّلها عنكبوت نائم عاجز عن استبدال
قلبها المعطوب بآخر نابض وشقي ..
ها أنا أراك منزوياً في حجرة قصيّة
لا يُزاحم قِدمها سوى ثمانينيّ تِعب يُحدّثك - بلغةٍ تفهمها
ولا تُحسن النّطق بها - عن شجرة الجوز المنتصبة أمامك
المغروسة في ذاكرتك مذ تعلّمت الخطو تحت سقفها الأخضر
الوارفة الّتي ما زالت تظلّل حكاية عشقه الأوّلى ونكبته الأخيرة
تلك الهرمة المثمرة الّتي مازالت تبكي ثائراً كان قلبه يحتضر
مواويلاً تحت لوائها ودموعها الثّمار الّتي داس قدسيتها العابرون على
ألم ذلك الثائر الجريح الذي خلّف لك بعد رحيله
قصيدة تحفر في صدرك - حتى الآن -
وجع الحبّ الذي ينمو ويموت بين بلدين غريبين !
أكاد أسمعه وهو يحدّثك عن راعٍ مضى ذات صباح ورعي إلى الوادي
الذي ما عاد منه منذ ثلاثين عاماً وسؤالاً
يقسم لك أنّ أهل القرية ما زالوا في كلّ ليلة مُقمرة يسمعون أنين نايه
الذي يطرق شباك حجرتك الجديدة كلّ مساء
فتعرف أنه عليك منذ هذه اللحظة التّجهّز لأشباح الجبل القادمين
إلى غربتك وشحوبك عند ناشئة الليل وثورة الوادي
سيحدّثك طويلاً دون أن تصغي إليه وأنت تدفع عنك سحائب الضّجر
الزاحفة إلى صدرك وأنت تتذكّر دفترك الذي نسيت أن توقظه ،
سرّك الأزرق الذي تخشى أن تطاله أصابع الصّغاروألسنة الفّضول
الّتي لن تردعها مهمّا استطالتْ دمعة مالحة تنطلق كسيف نار من عين أُمّك
الذائدة عن قلبك الذي تركته نائماً تحت الوسادة ومضيت !
جاء ليلك الآن أيّها المنفيّ كقطعة آثاث مرهونة
ستقاضيك جدران هذه الغرفة المتصوفة وتسألك بأيّ حقّ قطعت عليها تسبيحها
بخوفك البغداديّ المرير الذي حملته معك إليها وأنت تحتضن في طريقك القديم الجديد
" مدارج السّالكين " عشقك الجديد الذي تخشى أن تقرأه فتعرف أنّك مازلت خارج المدارج
ولا تشبه أحداً من السّالكين حتّى المُتأخّرين منهم ..
تسأل قلبك إلى أيّ الدروب سيفضي بك وأنت تغفو عن مراتب الهداية وتسأله وتسأله
فيلمع في شباكك دفء سماويّ يخبرك أنّ الرّاعي قد استفاق من غفوة الوادي
فيمرّ إلى قلبك ضوء يطرق الرّاعي به ليلك وليل النّائمين على حزن وضلال
يغسل صدور السّاهرين بشجن ناي عتيق وصوت مبلول
كغُصّة ولدت للتوّ بحنجرة تائب منيب
تفتحُ شباكك تُفتّش في ليلك الحالك عن وجهه القنديل
عن أغنامه وثوبه الممزّق منذ ثلاثين غياب وأُغنية شوق
فيلوّح لك من بعيد كقمرٍ يسير على وجه النّهر بلا قدمين
يُملي عليك أن نمْ نمْ ما استطعت
فأنت ذلك الأحمق الذي سيموت وحيداً
تصرخ عالياً تخبره أنّه خرف وأنّ ذئاب الوادي أكلت رأسه
وما تبقى في قلبه من رحمة ينفقها على عابر سبيل ينام على أكتاف
هذه القرية حتّى يستفيق الضّوء في شوارع مدينته ويعود
فيضحك من قولك ينظر إليك بحدقةٍ مُشفقة وأُخرى تنزّ عتباً رطِباً
ويمضي إلى الوادي بخشوع تتبعه أغنامه وأُغنية الهزيع المقدّس
وتبقى أنت كما أنت
لا وادٍ يصنع منك أسطورة ليل
ولا أغنام تتبعك
ولا عصا تهشّ بها على وسن / وجع قلبك !
بلى، ستستفيق عطِشاً
حين يمسح على قلبك مؤذّن القرية بصوت من نور
يجرك من سريرك بكفّ خفيّة يضعك قبالة الشّباك الذي
أحكمتَ إغلاقه قبل أن تتعثر بحلمك البائس وأنت تصعد بأمانيك على مدارج السّالكين
حتّى هويت ظامئا مبلل الرأس بعرق الخوف الذي مرّ على قلبك للتوّ
يخبرك أنك الذي ينتصر ويخسر ويموت مجاهداً على ضفاف الحلم فقط
تشرّع نافذتك ، تتنفس ملء صدرك " حيّ على الصّلاة "
تضرب على صدرك بقبضة باكية
لتوقظ ذلك الهائم النّائم منذ ألف ألف " الله أكبر " !