كيف لنا أن نرقى بمجتمعنا ونجعل منه ذلك المجتمع المتقدم المتمدن الحضاري المتماسك القادر على تحقيق رسالة الإنسانية؟ كيف لنا أن نبنى الإنسان الذي يرقى بهذا المجتمع ويسمو به نحو العلا؟ كيف لنا أن نُعيد تشكيلَ منظومةِ الأخلاقِ ونضعُ أجيالنا على الطريق الصحيح ؟ كيف لنا أن نُّنشئ ذلك الجيلَ المدركَ لواجباته, العارفَ لحقوقه, الواعي لواقعه, القابض على مفاتيح المستقبل المشرق؟
كيف لنا أن نحقق كل ما ذكرنا دون مشروع تربوي وطني متكامل لا يهمل أي طرف من أطراف العملية التربوية ولا ينسى دور كل مؤسسات المجتمع وفعاليته في إنجاز هذا المشروع؟
كيف لنا أن نصل ونحن لا ندري إلى أين نسير؟
يُقال أن الأطفال في كل المجتمعات هم نتاج ثلاث مؤسسات ( مؤسسة البيت – مؤسسة المدرسة – ومؤسسة السلطة التي تحكم ).
قد تلتقي هذه المؤسسات الثلاثة في نقاطٍ كثيرةٍ وتتقاطعُ مع بعضها وتكوّن شراكةً حقيقةً, وأحياناً قد تتنافرُ هذه المؤسساتُ الثلاثةُ لتغدو كلُّ واحدة منهما على الطرف المغاير, إذ أنَّ لكل مؤسسة مشروعها الخاص الذي قد يتعارض أو يتفق جزئياً أو كلياً مع مشروع المؤسسات الأخرى. ففي حالة التوافق بين المؤسسات الثلاثة على مشروع تربوي واحد وهذا نادر الحدوث يمكن أن ننتج شخصاً متوازناً نوعاً ما, ولكن حين يتعارض مشروع مؤسسة البيت التربوي مع مشروع السلطة تكون المدرسة ساحةَ صراعٍ عنيفٍ بين مجموعة المعارف والقيم والنظم التي تدفع بها الأسرة بقوة لتكون المحور الرئيسي في تشكيل شخصية طفلها المستقبلية, وبين مجموعة المعارف والقيم التي تريد هذه السلطة أو تلك تكريسها وجعلها المنهج التربوي الوحيد الذي يُشكِّل هذه الشخصية المنشود تشكيلها.
يرى بعضهم أن مؤسسة المدرسة ينبغي أن تكون ساحةً محايدةً تعلِّم قيماً ومعارفَ مطلقةً بعيدةً عن إيِّ تأثيرٍ يشدُّ بهذه الشخصية نحو أحد الأطراف ساحباً إياها عن الخط المعتدل الذي يوازن بين هذين المتنافرين أو المختلفين تجاه قضية ما.
وأي من هذه المؤسسات الثلاثة يقع على عاتقها إدراكُ واقعها ومفرداتِ عملها وأدواتِ تحقيقِ رسالتها وهذا الإدراكُ يجعلُ من هذه المؤسسةِ أو تلك جهةً ذات فاعلية قوية مؤثرة له الدور الرئيسي بل والوحيد في أغلب الأحيان في تكوين شخص المستقبل الذي تصبو إليه. ولعل معظم مجتمعاتنا العربية فقدت القيم الحقيقية لهذه المؤسسات الثلاثة حين انتصرت مؤسسة السلطة على المؤسستين الباقيتين فغدت الساحة خالية لها تماماً وخاصة بعد الانزياح الخطير الذي طرأ على المنظومة الأخلاقية لمؤسسة البيت فغدت مهمشة ومعطلة إلى حدٍ بعيد مما جعلها غائبة عن ساحتها الحقيقة وذلك نتيجة لانشغال البيت بتغذية الجسد وتكوين العضلات تاركة القسم العلوي للمؤسسة الأقوى. في حين ظلت مؤسسة المدرسة في الأقبية السفلية للعملية التربوية لتصبح رسولاً خائناً للرسالة السامية التي أوكلت إليها, بل صارت حارساً أميناً لرسالة الفكر المهيمن على هذه السلطة في هذا المجتمع أو ذاك.
ومن أركان العملية التربوية المهمة المعلم الذي هو المحرك الأساسي لهذا العمل الضخم, هذا العمل الذي أوشك أن يغيّب تماماً ويغدو مجرد إكسسوار يمكن الاستغناء عنه في التربية والاستغناء بالمعنى السلبي وليس بالمعنى الإيجابي الذي يجعل من المعلم يقف مراقباً لاكتساب المعرفة موجهاً لهذه المهمة الإنسانية الكبرى. لقد تم تشويه الصورة المثالية للمعلم والمربي بل وتحطيمها.
المعلم الذي كان في أعلى السلم الاجتماعي أنهار به السلم ليضيع بين درجات هذه السلم فراح يبحث عن موقعه الطبيعي غير أنه لم يفلح لأن المكان الذي كان يشغله هذا المربي الهرم راح لغيره.
نعم لقد أرغم المعلم على التخلي عن دوره ليلعب أدوراً ثانوياً بل غدا كومبارساً في معظم الأحيان.