إِلى الصَّباحِ , وَجهِ أُمي وَ صَلاةِ أَبي ! إِلى " العَصافِير " الصَّغيرَةِ ، وَعقَارِب السَّاعَة !
وَأخِيرَاً .. إِليكَ !!
لَم أكُن أتَوقعُ أَن نوباتِ غيابكَ و التي تَجتاحُني بشَكلٍ دَوري غَير مُنتظِم ، تِلكَ التي تقلِّص رِئتَيَّ حَد الاكتِفاءِ بِأكسجِيناتِ التنفسِ دُون الاستِرخاءِ وَتمارِس انقِباضَاتٍ مُخيفَةً بِقلبِي ، فتَفر الهَواجِس لِرأسِي وَتبدَأ المَخاوِفُ بِالإِمطَار !! لَم يكُن مِن الجَميلِ أَن تَكونَ كُل تِلك الأَهوالِ المُصاحبَة لِنوبةِ غيابٍ واحدَة ، مُجردَ درسٍ تَدريبي عَابر ، قَبلَ تَطبيقٍ طَويلٍ / أَبدِي !! أَودُّ أَن أُخبركَ وَلا أَدرِي لِما الآن لَكنِي لا أُحبُّ الدُّروسَ التَّدريبية كَما لا أُحب دُروسَ الغِيابِ لَكن إِن كَان لابد فَكانَ خَيراً لَو أَنكَ بَدأتَ بالتطبِيق فَوراً ! فَتلك الدُّروسُ التَّدرِيبية لَم تَفعَل شَيئاً سِوى أَنهَا عَلمتنِي كَيفَ أَحزَنَ كُلَّ مَرةٍ بِطرِيقَةٍ مُختَلفةٍ ! وَهل تَجرُّع نَكهَاتٍ مُختَلفةٍ مِن الحُزنِ أَمرٌ جَيد يَآعزِيزِي !
لطَالما كَان غِيابكَ يُضايِقنِي بِشكلٍ مُزعِج ! مُملٌ هُوَ ، يُظهِركَ بَليداً بَارداً ، يَعبثُ بِصوتِكَ وَابتِسامَتكَ وَحضُوركَ ! كَكراتِ الصُّوفِ لآتَملِكُ إِلا أَن تَبتَعدَ وَحتَّى إِن حَاولنَا إِعادةَ جَمعِها وَاحتِضانَها ، لَن تَعودَ كمَا كَانت !! فَهي إِما سَتضِيقُ كَثيرَاً أَو تَتسِع جِداً ! الآنَ وَبعدَ أَن كُنت أَحفل بِوصَال يَتيمٍ مِنكَ ، كُل صَباحٍ ، أَو قَابَ قَوسَينِ مِن مُنتصَف الليلِ !
بُترَ حَبلُ الحَكايَا ، وَتبخَرت قَطراتُ السُّقيَا ، وَولَى الوِصالُ ! نَعم ، كُنا حِكايةً يَاعزِيزِي لَكنَّها لَم تَكتَمِل أَو لَربَّما أَنا مَن اِختَارت اللاشَيء عَلى النِّهاياتِ التَّعيسَة ! لَطالَما كُنتُ أَحلُم أَن أُصبِح صَبيةَ أَساطِير ، أَحظَى بِصدِيقة جِنيةٍ ، وَتفَاجِؤنِي " عُقلةُ إِصبَعٍ " جَميلَةٍ فِي ثُقبٍ جِدارِي أَسفَل سَريرِي ! رُبمَا لِفرطِ أَحلامِي وَادمَانِي الأَساطِير ، لَم أَستَسغ فِكرَة النِّهايَاتِ التَّعيسَة !!
نَعم ، نِهايَة كَهذهِ كَانَت وَابلاً مِن التَّعاسَة أَكبرَ مِن أَن يَستَعوبَه قَلبٌ إِمتَلأَ بِالأَحلامِ وَالأَلوانِ وَبِكَ ! كَان عَليكَ الرَّحيلُ يَاعزِيزِي لَم أَعلم إِن كَان لِزامَاً أَم خَياراً ، لَكن مآ أُؤمِن بِه أَنهُ كَان عَلي الاِنتظَار ! رُبما المُعضِلةُ فِي الانتِظارِ وَأن الحَكايَا حِينَ يَجتَاحُها الاِنتظَار فَإنَّ النِّهاياتِ السعِيدةَ تُجهضُ مِنهَا !! وَتنتَهي بِصورَة تَعاسةٍ مُبتسِمة !
أَتمنَى لَو أَستَطيعُ التَّفكِيرَ فِي أَي الأَمرينِ أَكثَر فَضاعةً ، أَلماً ، وَغصَّة ! فُقدَانُكَ مَع الانتِظَار ، أَم فُقدَانكَ أَبداً بَعد كُل ذَلكَ الانتِظارِ !!
كَان تَواصُلي وَإياكَ مَقصُوراً عَلى الأَحرُف ، بَدأنَا هَكذَا وَاستَمريْنا حَتى انتَيهنَا ! رَسائِل تَذهَبُ وَتعُود وَرسَائِل تَذهبُ لَاتعُود هِي وَلا حتَّى صَدى لَها ! مَاذا أَكانَ ثَمة غُرابُ يَشتهِي رَسائِلي الفَقيرَة دُوناً عَن بَاقي الكَون فَيبتَلعَها ! فَيحرمَنِي مِن أَن تُجيبَ عَلى صَباحِي بـ " صباح النور " وتتبَع مَسائِي بـ " مساء الخير " ، أَن تُجيبنِي حِين أَسألكَ كَيفَ أَنتَ بـ " الحمد لله بخير " ، صَدقنِي كَلها كَانت سَتكاثِر الفَرحةَ بِداخِلي بِوفرَة مُتنَاهِية ! أَم عَساكَ تُعاقِبنِي عَلى إِصرارِي الطُّفولِي بِأن تَكونَ قَريبَاً قَريبَاً !! كُل شَيءٍ حِينَها كَان يُغرِينِي لِأن تُصبحَ عَالمِي لَكن حِينَ أَدركتُ أَنكَ لَاتُحبُّ الاِنتِشَارَ ، الاِحتِواءَ ، وَملئَ كُل شَيء فِي آنٍ ! صُرتُ أُملِينِي بِالقَليلِ وَشيئَاً فشَيئاً ، خُذلانَاّ فَبعَاداً فَمسَافاتٍ ، صَار يُرضِينِي أَني وَأنتَ نَعرفُ عَن بَعضِنا بِضعَ بَعضِ الشَّيءِ !!
كَانَ مِن الصَّعبِ وَمهمَا بَلغتُ أَنا مِن قَناعَة أَن أَرضَى بِأن أُحبَكَ فَقط ! فُكل شَيءٍ بِكَ كَان يَدعُونِي لِأن أَتمرَّد لِما هُو أَكبرُ ، أَكثرُ أَعمقُ مِن الحُب ! شَخصٌ كَأنتَ تَفلسَفت فِيهِ مَعانِي النُّور ، وَتبَلورَت بِهِ الأَحلامُ ، وَنُفثَت فِيهِ أَروَاحُ الأَمانِي لَامحَالةَ سَأتَنفَسهُ لِمسَافاتٍ أَصفَى مِن حُب ! ..
يَنتَابُني شَعورٌ بِأني أُكررُ ذُات العِبارَاتِ التِّي بَعثرتُها هُنا وَهناكَ فِي مُناسَبات شَتى عَابِره وَعمِيقةٍ عَني وَعنكَ لأشَكلَ بِها نَصاً ، كُل شَيء يَبدُو مَؤلُوفاً ، أَلأنَه عَنكَ دَخلٌ بِهذَا أَم هُو مَحضُ شُعورٍ غَريبٌ سُرعانَ مَايتَلملَم وَيولِي ! حِين أَصفُ الأُلفَة تِجاهَكَ بِأنهَا شُعورٌ غرِيب لَا لشَيء إِلا لأَني لَم أَعد أَجد مَايغرِينِي لِترتِيبِ أَصابِعي وَقرَاءَة كَفي ، وَتتبُع عِطركَ !
خِلالَ الخَمسِ سَنوات أَنجبَت عَمتِي وَأخِيراً طِفلةً بَعدَ اِنتظَارٍ دَامَ عَشرَ سَنواتٍ ، هَاهيَ الآنَ " رَيّومِي " تَنصِب الثَّلاثَ أَصابِع حِينَ تُسأَل عَن عُمرِها ، وَتبتَسم لِأمهَا ! أَيضَاً عَمو زَكي صَاحِب البِقالةِ الصَّغيرَة التِّي تَقطُن فِي آخِر الشَّارع سَمحَ لِابنِه بِمشَاطَرتهِ البَيعَ وَلم يَتوَانَا الأَخيرُ عَن إِحدَاثِ ثَورَة شَبابِية لِجذبِ المُراهِقينَ ، حَتى صَار آخِر الشَّارعِ يَضج بِأصوَاتِ الضَّحكِ وَحماسِ المُشجِعينَ ! صَديقَتِي ، رَحلَ جَدهَا بَعدَ أَن سَكنَ قَلبُه فِي خُفوتِ الفَجرِ ! كَانت تَبكِي كَثيرَاً فَآخرُ لِقاءٍ جَمعَها بِهِ عَاتبَته قَائلَة " إنتَ ليش ماتحبني ! " فَقط لِأن السُّكرِي مَنعَه مِن تَناوِل حَلوَى عِيد مِيلادِهَا ! جَارتُنا ، هَاهِي تَتشَاغل عَن التَّذمرِ مِن بَاقِي زَوجَات أَبنائِها بِالعَروسِ الجَديدَة التِّي زُفت لِابنِها بَعدَ خِطبَة دَامَت لِثلاثِ سَنواتٍ !!
آممم ، أَتذُكر – بو هاويد – الرَّجلَ الذِّي يَقذِف بِنعلَيهِ ثُم يَلحَقهُما ! يَصرُخ فِي وَجهِ الصِّبيةِ ، يُلوحُ بِغترَتهِ وَهم يَرمُونهُ بعِلبِ البِيبسِي وَيضحَكون !! أَتذُكره ! لا يَزالُ يُخِيفنِي رُغمَ أَني لَم أَعد أَنزِل مِن بَاصِ المَدرَسةِ الأَصفَر وَأعدُو لِبيتِ جَدتِّي هَربَاً مِنه ، كُنتُ دَوماً أَتخَيلهُ يَغضَب مِن الصِّبيَة فَيسرِع للإِمسَاكِ بِنا نَحنُ الفَتيَاتُ الصَّغيرَات مِن حَقائِبنَا كَإنتِقامٍ !
يُخيفُنِي كَثيرَاً عَلى خِلافِ أَحمَد الشَّابِ الصَّامِت الذِّي يَسيرُ وَرأسُه نَحوَ السَّماءِ حَتى يَصلَ لِأطوَلِ شَجرَة فِي الحَي ، فَيقِفَ أَمامَها وَيحرِكَ شَفتَيهِ طَويلاً ! تَمنَيتُ كَثيراً لَو أَقتَربُ مِنه وَأسمَع مَا يَقولُ لِلأشجَار ، كُنتُ أُؤمِن أَنه يَعرِف سِراً وَيتحَدثُ بِلغَة الأَشجَار وَيخبِرهَا إِياه ، كَما أَتصَور أَنه لَيسَ أَخرَساً فَقط يَصمُت عَن البَشرِ وَيحَدثُ الأَشجَار بِنبُوءَة كَبيرَة لِأنَها لَاتُكذِبهُ مِثلَهم ، لَكنِّي كَبرِت وَأنتَ رَحلتَ لَم أَسمَع أَحمَد وَلا أدرِي أَينَ اختَفى وَهل تَحقَقت نُبوءَتُه أَم لَا !
انقَضت هَذهِ الخَمسُ سَنوات فِي أَحدَاث كَثِيرَة كَبِيرَة ، هُناكَ مَن وُلِدَ وَهنَالِك مَن مَات ، مَن رَبحَ وَمن خَسر مَن تَخرجَ وَمن بَدأَ مِشوارَ الدِّراسَة ، لَكني لّم أّتصّور يّومّاً أّن الأّحدّاثَ عِندَكَ أَنتَ مَن تُقاسِي الغُربَة ، وَتُحصِي مَاقطَعتهُ مِن مِشوَار بِالأَيامِ لِيبدُو كَبيرَاً وَمابَقي لَكَ بِالشُّهورِ لِيبدُوا الرَّقمُ صَغيرَاً ؛ أَكبَر ، أَعظَم وَأهوَلَ ! أَتُرانِي أُفخِم الأَمرَ . آممم نَسِيتَنِي ، أَحبَبتَ ، خَطَبتَ ، تَزَوجتَ وَأَنجَبتَ وَتَخَرجتَ فِي خَمسِ سَنوات ! وَعدتَ بِكل هَذهِ المُفاجَآتِ دُفعَة وَاحِدة ، انجَازَاتكَ كَبيرَة يَاعَزِيزِي ، كَبيرَة حَد أَن يَبدُو مَعهَا انتِظارِي هَينَاً ، وَخاتَم خُطوبَتنَا الرَّاقِد فِي إِصبَعِي رَخِيصَاً ، وَأنَا صَالِحة لِذكرَى صَدئَة !
أَتحتَاج أَن تَعرِف مَاكُنتُ أَصنعُ طِيلَة الخَمسِ سَنوات ، أَو مَاحل بِي بَعدَها لِتكتَمل تَفاصِيل الحِكايَةِ فِي جَعبتِكَ ، عَلكَ تَستَطيعُ أَن تَختَلقَ نِهايَة سَعيدَة لَها ، حِين تُفكِّر فِي أَن تُحدثَ شَريكَتكَ أَو طِفلتَكَ بِها ! فَقط لَو أَنكَ دَللتَنِي عَلى مَدينَة تَستَوعبُ حَجمَ صَدمتِي ، وَحقِيبةً تَكفِي لِحزمِ أَحلامِي ، لَكانَ الأَمرُ أَهونَ بِكثير ! جرح وصدمة في مساحات تلد الأحلام ، مميتة جداً ياعزيزي !
تمت *