؛
؛
تَخَاطُرُ الأرْوَاح .
لم تسمع صوتي منذ سنوات، هل ستعرفني؟؟
وما..ماذا ؟ ماذا أفعل إذا عرفتني، ثم تظاهرت بأنها تجهل من أكون؟ يا إلهي ، يا إلهي !
كمْ عانيتُ في تلك اللحظاتِ وأنا الذي يستميتُ شوقاً لقاء نظرةٍ مِن عينيها الدافقتينِ بماءِ الحنان.
أكرهَُ الإنتظار، بل إخالُهُ شبحاً يتعملقُ كلما زحف الوقتُ وتمدَّد، نَقراتي على الطّاولةِ بأصابِعي أو أرضاً بحذائي باتتْ تستفِزُّ مَن حولي ، حتى النادِلُ لم ينجُ، إذ يبدو لي أنه قد تعِبَ مِن حَمْلِ فناجينِ القهوةِ الفارغة.
نُودِيتُ مِن مكانٍ عميقٍ في بَهوِ الذاكرة ، أطرقتُ، فتجلَّت ليَ تلك الصُور المؤلمة؛ طفولتي، يُتْمِي، احتياجي، جُوعي و بُكائي ، حتى الأصوات، باتَ رجعُها يُدوِّي في مَسْمعي، نحيبُها في الليالِ، صلواتُها ودعاؤها بأنْ إمّا يأخذ اللهُ بيدِها أو رُوحُهَا ، لتتخلص من ظلم أبي ومِن ذاك البؤس الذي كان يُحِيطُ بها ، تلك النظرةُ الأخيرةُ التي رمقتني بِها بعينيها المُترعتين بالدموعِ ، تطلب الغُفران قبل أن تُفلت يدي يدُها و قبل أن تخرُج مِن البيت، حيثُ خُروجها الأخير .أجل، لقد ذهبت أمي وبقيتُ يتيم الأُمِّ وأنا ابنُ سبعةِ أعوام ، حتَّمتْ عليَّ الحياةُ أن أقضيَ عمري حنيناً لحضنها ورائحةِ خُبزِها ، أُجْبِرَتْ على تركِ قطعةٍ مِن فؤادها ولم تهتزَّ شعرةٌ مِن شعر أبي إزاءَ توسُّلاتِها تحت قدميهِ ، طردها وأقفل الباب خلفها ثم أردفَ بنبرةٍ حانِقة (انسَ أنّ لكَ أم ) ! سقطت عليَّ جُملتهُ تلك كالصاعقة، خُيِّل لي بأني بلا وزن، بل شعرتُ بأنّي أطفو في فراغٍ مُعتمٍ يُقبِلُ عليَّ كموجٍ عاتٍ .
توالت عليَّ الأيامُ باردةً خاليةً مِن البهجةِ والنَّكهة. كبُرتُ شاحباً و نحيلاً، غير أن شيئاً واحداً لم أستطع إدراك كُنْهَهُ،أهو إحساسٌ و شُعور أم هي فِعلاً نِداءاتٌ خفيّةٌ ؟ ، أكادُ أجزِمُ بأنّها تتساقطُ على مَسْمَعِي. كُلُّ ما أُدرِكُهُ حقاً شُعورًا وحيدًا كان يلفُّني مِن جهاتيَ الأربع، يُهدهِدُ عليَّ فيهدأُ رَوعُ فقدي ، فإحِنُّ وأسكُنُ ويلفني الشجن .
على هذا المِنوالِ مضت سنينُ عمري، و على الرغم من ذلك، لم أتوانَ يوماً عن البحثِ عنها، أو عن أيِّ خيطٍ يقودُني إليها ، كل ما علِمتُهُ أنها سافرت لديارِ أهلها، وقد حرص أبي نِكايةً بِها على تغيير عنواننا فانتقلنا إلى مدينةٍ أخرى، وهذا كان يعني طمسُ سُبُل الوصول .
لم يعلم أبي أو قد نسِي أن يقطع عُرى التخاطُرِ الفطريِّ بين الأم وابنها!
كُنّا نعيش في مدينةٍ نائية تفتقِدُ لوسائل الاتصالات، إلّا ماندر. كبِرتُ ووعَيتُ وتعلمتُ،فكنتُ كثيرَ التردُدِ على مقهىً للإنترنت، وشيئاً فشيئا شعُرتُ ببصيصِ أملٍ يُشرِقُ في يبابِ روحي، كنتُ كثير التعارف والتحدُّثِ في عدّة مواقع وأُحاوِلُ سرد تفاصيل قصتي في سبيلِ الوصولِ لبابٍ مَا.
كنتُ أبحثُ عن اسم عائلتها والدولة والمدينة التي تقطُنُ فيها، معتمداً على بعض المعلوماتِ الفقيرة التي كانت بحوزتي ولكن دون جدوى !
صاحبُ المقهى كان شيخاً ورِعاً وكان يرأفُ بحالي "ويطبطِبُ "على كتِفي دوماً وهو يُومِىءُ بعينيهِ الدافئتين أن لا تيأس.
أييهٍ يا أمي لقد شارف صبري على النَّفاد متى ، متى لقد مضى الكثيرُ ، هاقد جاوزتُ السابعةَ والثلاثين، وقاربتُ الأربعين !
حتّى جاءتني البُشرى، في ذاك اليوم الأبيض، قصدتُ المقهى فاستقبلني العمّ صالح بوجهٍ باشٍّ، فغمرني دون أن ينبسَّ بكلمةٍ ولكني أدركتُ، بادرتهُ بلهفةٍ؛ إذًا سأقِفِ بين يديِّ الطاهرة؟ سأحتضِنُها؟ هزَّ رأسهُ والدموعُ تغسِلُ لحيتهُ؛ أجل يا بُنيّ ، أجل !!
يا الله لا يُسعِفُني الكلام فقط كُلِّي يلهجُ بالحمد، بالشكر الجزيل ! زوَّدني العمُّ صالح برقم خالي وبعنوانه، هاتفتُه وكم كانت سعادتهُ غامرةً وحين سألتهُ عن أمي وعن أحوالها وصحتها، سكت هُنيهةً واختفى صوتهُ حتى ظننتُ بأن الخطُ أُغلِقَ، حين ألححتُ بالسؤال أجابني بنبرةٍ يَشُوبُها الحزن بأنها بخير ، ورحَّب بزيارتي واتفقنا على موعدِ اللقاء .
رتّبتُ أمور سفري وحزمتُ حقيبتي وهولُ المفاجأةِ صيَّرني في شتات !
وها أنذا ، أنتظِرُ بكُلِّي وكلِّي عيونٌ تلمع
عند بهَوِ الفندق، نبَّهني رنينُ الهاتف وقبل أن أَرُدَ، إذا بهِ يقِفُ مُسْتَشْرِفاً البابَ وتُطوِّقُ ذراعهُ ذراع إمرأة بدتْ طاعنةً في السِّن.
اقترب نحوي احتضنني وربَّت على ظهري طويلاً ثم سحبَ كرسياً مُقابلِي ، أَوْمأَ لهَا بالجلوس ثم استأذن ليذهب !
كانت شاردةُ النظراتِ تتأمّلُ كُلَّ ماحولها إلَّايَ! لا يستقِّرُ بصرُهَا والّلهفةُ تغمُرُني.
إنها أمي، ياإلهي !،إنها أمي.
انتظرت أن تُبادِرَ، أن تبوح أن .. أن..
بعد دقائقَ خِلتُها سنوات،سألتني :
مَن أنت !!