اتسائل احيانا . ماذا جرى لأمي , فقد كانت حنون وطيبه وحياتها اولادها , ماهذا الإنفصام الذي طال عقلها ؟ لكن من يدقق في امرها يجد ان هذا الإنحراف في سلوكها وعقلها , هو ضعفها ان تحتمل كل ماجرى لها منذ لحظة دخولها السجن الى تلك الليلة التي غادرتنا فيها وجسدها المتناسق يشكو الضرب والكدمات , لكن سٌـنّة الله أن لا يستمر وضع كما هو , بل التغيير والتبديل في الفكر والمسلك مآلــه , لذا لم نفاجأ ذاك المساء عند دخولها علينا قادمة من قريتنا بعد اتصالات مع اخي وترحيبه بقدومها , جائت امي واختي الصغيرة تسير الهوينــا وتقع ثم تعاود المحاولة , بكت امي ذلك المساء وأبكتنا , لعله بكاء الفرح او الملامة والعتاب .
لازمتنا ثلاثة اشهر لم تفارقنا فيها لحظة وايضا لم تجيب عن أي سؤال عمّـا مضى وهي بعيدة , ارادت ان ننسى الماضى ونستشرف المستقبل بأمل وتفاؤل .
أبــي ؟ اين ابي طوال هذه السنين ؟ في يوم صابح مشرق بالسعادة ونحن مجتمعون حول صحاف الإفطار , طلبت أمي من اخي ان يسأل عن أبي ويعرف ماجرى له , فقد انقطعت اخباره عنا , حتى جدي رفض حتى ذكر اسمـه , وافق اخي على مضض , وسافر حيث عمارتنا التي هجرناها , وعــاد في نفس اليوم ليبلغنا خبرا كنا نتوقعه لكن عاطفتنا كانت ترفضه , قال اخي ان أبي توفي بالمشفى بعد إعتلال صحته بسبب الإدمان والإهمــال , فاجأنا الخبر والجمنا لدقائق , سألت امي عن بعض التفاصيل , كيف لم نعلم ولم يخبرنا احد ولماذا قصّـر اهلي في السؤال عنه , قال أخي : لا فائدة ياأمي من إجترار الحزن وتيه الحيرة , ماذا علينا ان نفعل الآن بعد ان عرفنا ؟ قالت امي لا تطلب منا العودة للعيش في تلك البناية , بل علينا ان نقوم بإستخراج حصر الورثة لنتمكن من بيعها , وهذا ماحصل وتـم بيع العمارة بمبلغ محترم , وبناء على مشورة امي , اشترى لنا اخي بيتا جميلا في مدينته التي احببناها , ولماذا لا نحبها وقد عرفنا الأستقرار والأمان والعيش الكريم فيها .
تخرجت من الثانوية بعد لأيِ وتعب وانقطاع وتواصل , واكتفيت بما نهلت من العلم , واقتنعت بما كتبه الله لي , واستطاعت أمي بما حباها الله من وجه مشرق وابتسامة آســره , ولأنها امرأة إجتماعيه طيبة المعشر , استطاعت ان تجمع حولها بعض نساء الجيران وايضا معلمتين ممن احببنني ورغبن معرفة امي بعد زيارتها للمدرسة عدة مرّات كي تطمئن على مسار دراستنا , فكان التزاور والرحلات , لقد تغيرت حياتنا عما مضى كثيرا , احببن الناس والخروج والتعامل مع الجميع , حتى حدث مما ليس منه بٌـدّ , جاءت احدى المعلمات اللائي يزاورننا , وخطبتني من أمي لإبنها , قالت انه على وشك التخرج من الكليه الحربية وهو شاب مستقيم ليس في حياته سوى أهله وكليّته , شاورت امي اخي ثم طرحوا الأمر علي , وقالت امي ان امه تمدحه , لكن عليك بالسؤال عنه في مقر عمله , وبعد السؤال والأخذ والرد , وبعد موافقتي عن قناعة وبعد صلاة استخارة , هبط على قلبي فرح وسعاده , تزوجت وكان حفلا بسيطا جمع العائلتين وبعض الإعزاء , تم ذلك بناء على طلب والد العريس , ولقي هذا الطلب هوى في نفس أمي , ربما كانت تكره الصخب ؟ او خوفها ان الزواج المفتوح للعامة والخاصة ربما يأتي بمن لا ترغبه او يعرف بعضا من ماضينا او ماضيها ... اقول ربمــا كي لا أظلمها .
بعد سنه انجبت طفلة جميلة , أصبحت تسلية العائلتين , كل من رآها خطفها واشبعها قبلات , حتى اصبحت تتململ من كل من يحملها لعله بعض دلع حرمت منه أمها في طفولتها وصباها , وليته حرمان من دلع بل كانت قسوة وضياع وخوف وارتعاب ودمع يسيل .
استقر بأمي واخوتي الحال في البيت الجديد وعرف الجميع طعم النوم وكنت ازاورهم مرة في الأسبوع , انا وزوجي الحنون الذي عوضني بعض قسوة الأيام , ولأن امي اعتادت الحركه والتجوال , فقد صعب عليها الأستقرار ورتابة الأيام , فطلبت من أخي ان يدبّـر لها وظيفه كي تشغل نفسها وتساعد في مصروف البيت , ورغم معارضة اخي في البداية إلا انه وافقها بعد إصرارها , واستطاعت معلمة مادة التاريخ والدة زوجي ان تلحقها للعمل بالمدرسة إداريّـه , خاصة بعد ان علمت انها تجاوزت الابتدائيه في دراستها واستقر تعليمها عند الثاني متوسط وفوق ذلك خطها جميل وحين تبتسم ترغم محدثها على محبتها وسماع رأيها .
أمـا انا فقد اتاحت لي حياتي مع زوجي ان امارس هوايتي التي احببتها منذ الصغر وهي التصميم ورسم الأزياء , واستطعت بفضل الله ثم تشجيع زوجي ان انفذ بعض التصاميم الجيده لبعض دور الأزياء , وذقت طعم المال حين يأتي مقابل جهد شخصي , إنه اثمن واغلا من أي مال يأتي بلا تعب .
هذه هي حياتي والى هنـا وصلت واستقرت , والحمدلله اولا وآخرا لا شك ان بعد العسر يسر وان لكل ضيق فرجا , المهم ان نصبر ولا نجزع وان نعلم يقينا ان لله حكمة تقصر عنها عقول البشر . (( ســلمى ))
انتهت
الرياض في شوال 1441هـ ـــ يونيو / حزيران 2020م