.
" التخيل التاريخي في السرد العراقي "
يخبرنا السيد: حسين سرمك
وها هو الآن يفتح ملفاته الضخمة المتراكبة ، والتي دوّن فيها ملاحظات كان جزئها الأكبر يعود إلى " بدر فرهود الطارش "
مسؤول متحف مدينة الأسلاف والثري المقعد المشلول نصفياً بفعل جلطة دماغية الذي عاصر الإحتلال البريطاني الأول للعراق عام 1917م
والتحوّلات العاصفة التي تبعته .
* سيكون بدر الشاهد على الإحتلال الأول ، ممثلّاً لـ [ الذاكرة ] البعيدة .. للوثيقة
ولأرشيف مكتبته الهائلة .. وللمتحف إذا جاز الوصف .
* في حين سيكون الراوي الكاتب شاهداً على الإحتلال الثاني
الأمريكي المتحالف مع البريطاني الآن كذيل وليس كقوّة مستقلّة كما في الإحتلال الأول ، وممثلاً [ للعين ] الفاحصة المسجّلة للذاكرة القريبة
* وفي لقائهما على محور الزمان يمثلان لقاء الماضي بالحاضر ..
عمل المؤرّخ يُتمثّل في عمل السارد حيث يصبح التاريخ سرداً ، والسرد تاريخاً حسب تعبير: " بول ريكور " وهو ما وضعه الفيلسوف والمؤرّخ:
" روبن جورج كولنغوود " تحت مسمّى الأواليّة التي ابتكرها في النصف الأول من القرن العشرين وسمّاها :
" التخيّل التاريخي _ Historical Imagination ".
الذي يعدّه الكثيرون الآن الآلية المُثلى التي يُبنى وفقها معيار " الروايات التاريخية – Historical Novels "
بالرغم من المحاذير التي قد تنجم عنه .
* ومن المهم أن يضع السيّد القارئ في حسبانه أن التخيّل التاريخي آليّة عمل في السرد للتعامل مع وقائع التاريخ
وليس جنسا إبداعياً يحل محل جنس الرواية التاريخية .
* كان بدر مصدر إلهام الكاتب في فترة عصيبة من فترات تاريخ بلاده وهي فترة الحصار الرهيب الذي فرضه الأمريكان القتلة على شعبه .
* كان يزوره في مدينته [ الأسلاف ] واسمها يعكس أيضاً بُعدها التاريخي ، فيستقبله بدر
وهو على كرسيّه المتحرّك بمساعدة إبن أخيه [ رياض ] الذي تولّى إدارة متحف المدينة بعد مرض بدر المزمن .
* كانت مكتبة بدر تتكوّن من عشرات الرفوف المُثقلة بآلاف*الكتب والمخطوطات والملفات .
* كان بدر يقول له :
[ ثق يا صديقي بأني خير شاهد على أحداث جسام تتابعت على مدى عقود من الزمن لتنتهي بما نحن عليه الآن من مهانة وقد بلغنا " ... " الختام لا مسكه] .
* وهنا يثير عبد الخالق تساؤلات خطيرة عن الكيفية التي يُكتب بها التاريخ ويُسجّل من قبل المؤرّخ :
_ فهل تتيح نقمة بدر فسحة للحيادية الموضوعية التي تُطلب من المؤرّخ عادة ؟
_ أم أن كون المؤرّخ وحسب أطروحة كولنغوود يتناول أفكار البشر الفاعلين وليس الظروف الخارجية فقط وهذا يتطلّب منه :
( التعاطف – Empathy) ؟ .
_ ألا يؤثر العامل الذاتي لبدر كونه [ فاعلاً ] ، وليس [ موضوعاً ] فقط في الصورة التي " يسرد " بها الأحداث على الكاتب ؟ .
_ ثم وهذا أخطر*كيف ستصبح " استحالات " الحقائق وهي تنتقل من:
{ سارد } رئيسي هو بدر إلى { سارد } رئيسي آخر هو الراوي ؟.
* إنّ رواية عبد الخالق هذه هي الأنموذج التطبيقي الحي على كل ذلك.
ولعل ما لا يقلّ أهمّية فيها هو أنها تؤشّر وبصورة مباشرة التقصير الفادح الذي اقترفه الروائيون العراقيون
في استثمار وقائع تاريخ بلادهم ، وانشغلوا بعد الإحتلال خصوصا في التنفيس عن:
[ الثأر السياسي ] من المرحلة الطغيانية السابقة ، الذي بالرغم من أهميّته إلّا انه لا يسهم في تعزيز :
( الشخصية السردية ) للشعب أولاً ، ولا في الحفاظ على ديمومة التاريخ وسيرورته " محكيّاً " ليترسّخ في ذاكرة أفراد الجماعة ثانياً .
* كان بدر يلح على الراوي بضرورة استثمار مخزون ذاكرته في كتابة روايته .
* كان يستشرف الخراب المقبل ، ليس على المستوى السياسي:
[ الأمريكيون قادمون لا محالة .. نعم سيحتلون بلادنا ، ولكن ليس الآن ، بل حين تسنح الفرصة الملائمة لهم .. استوعبوا درس هزيمتهم في فيتنام ..
سيتجملون بالصبر تاركين لهذا الحصار البربري ، الذي فرضوه علينا بأداتهم المتمثلة بالأمم المتحدة ، أن يفعل فعله على مهل
معوّلين على فرق التفتيش الدولية في تجريد الجيش العراقي من أصناف الأسلحة التي قد تشكل خطرا عليهم ..
وعندها فقط سيضربون ضربتهم وقد أوشكت الثمرة أن تسقط بين أيديهم من تلقاء نفسها ] .
* لم يعِ الروائيون العراقيون التأثيرات الخطيرة لتأخرّهم في التصدّي لتجسيد المتغيرات التاريخية الهائلة التي عصفت ببلادهم .
* جعل هذا التأخّر الزمني القاريء العراقي يشعر بأنه (يعرف) ما تتحدّث عنه الشخصيات مثل بدر الآن منذ زمان طويل .
* صحيحٌ أنّ الإختمار الذي تحدّث عنه الكاتب هو مرحلة ضرورية من مراحل الإبداع وتحويل المادة الواقعية الخام إلى { تخييل سردي } .
لكنها طالت كما أعلن الكاتب نفسه تحت ذريعة انتظار " الومضة " في حين أن البلاد تشتعل والناس تموت بصورة تفوق ما وصف به :
{ هاينه } الحال في كوليرا باريس :[ الأشجار تخضرّ ، والناس تزرقّ ].
* لقد انشغل الروائيون العراقيون بموضوعات كثيرة لا يمكن نكران أهميّتها ، لكنهم أهملوا حقلاً أكثر أهمية وإلحاحاً وهو التاريخ .
* أين هي الروايات التاريخية في الفن الروائي العراقي التي تتناول قرن التحوّلات العاصفة ؛ القرن العشرين عموما
وعقد الخراب النهائي ؛ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين خصوصاً ؟ .
* إنّ عدم اكتمال القدرة البحثية لدى الروائي سيوصلنا إلى حالة من التلاعب بالذاكرة خصوصاً أن رسوخ المعلومة التاريخية
التي تُقدّم برداء فني سردي لغوي أو صوري ، يكون أكثر قوّة في ذهن المتلقي من معلومة المؤرّخ الحجرية الجافة حتى لو كانت أكثر دقّة.
خطيرة الرواية حين تتصاعد الدعوات لجعلها " ديوان العرب " كما هو الحال فعلاً الآن ، فالرواية قادرة على تأسيس ذاكرة جديدة لدى الجماعة المتلقية ..
وهذا امتياز خطير وخطير جدا .
وهذا ما كان يؤكّد عليه بدر لعبد الخالق قائلاً :
[ الذاكرة .. عليك بتشغيل ذاكرتك فيما بعد لأرشفة ما ستكون بك حاجة إليه . ألستَ روائياً ؟
حسن .. وهل الروائي سوى ذاكرة جبّارة قادرة على تلقّف كل ما يخطر في البال وما لا يخطر ؟ ].
* تنبع هذه الخطورة من أن الروائي سيتصدّى لإعادة صياغة الذكريات و" تصويرها " ، إنّ عمله لا يتم إذا لم " يتلاعب " بها .
* وهذا أمر مطلوب بل هو جوهر عملية " التخيل التاريخي – Historical Imagination".
التي يتحوّل فيها التاريخ إلى قصّ ، ويصبح فيه القصّ تاريخاً . وهو ما تصدّى له عبد الخالق الركابي بامتياز في مسيرة الرواية العراقية .
* ولعل هذا من امتيازات { عبد الخالق الركابي } روائياً.
,