قابلته في ميناء خابور، عرفني بنفسه على أنه تاجر يدعى صياد ابن الحداد، مقيم هنا ويبحث عن بحار مؤتمن ليدفع إليه بصندوق مغلق يوصله لأهله في بغداد، وقد سره أن يكون هذا البحار هو السندباد نفسه..
قلت له بعد أن تعانقنا عناقاً حاراً قاتلاً :
ـ سأقوم بهذا بدون مقابل.
حاول أن يحلف فقلت له أن كلانا من بغداد.. هذا سبب وجيه كي لا أقبل أي مقابل.. الشهاب اتسعت عيناه وحاول أن يغمزني كي آخذ منه المال لكنني كنت مصمماً..
أشرت لسبع البحار كي يحضر الصندوق إلى الخاتون الراسية في الميناء وقبل أن أنصرف استحلفني الرجل :
ـ لا تفتح الصندوق مهما حصل حتى تسلمه إلى أهلي.
قلت له برنة غضب :
ـ ليس هذا من شيمتي..
اعتذر لي بشدة وأعطاني عنوان بيته في بغداد، ثم صافحني بحرارة لكنني أبيت إلا أن أعانقه مرة أخرى.. كنت أشتم فيه رائحة شوارع بغداد.. وتركته لينصرف قبل أفقد أعصابي و أنفجر باكياً..
قال لي حميد وهو يتأمل الصندوق والبحارة ينقلونه إلى القاع:
ـ يبدو لي أنك وثقت في هذا التاجر أكثر مما وثق هو فيك..
قلت :
ـ لا طبعاً.. تصور ما يمكن أن يحوي هذا الصندوق؟
فكر قليلاً ثم قال:
ـ أكيد ذهب وياقوت..
قلت بلهجة حالمة :
ـ أرأيت.. إنها ثقة لا يوجد مثلها في هذا الزمان يا صديقي..
ثم ملت عليه هامساً :
ـ وإنها أمانة ثقيلة كذلك لذا لن يفارق هذا الصندوق قمرتي.. معنا بحارة مستجدين قد تزوغ أعينهم على ما في هذا الصندوق.
ـ هذا أفضل فلن يجرؤ أحدهم على التسلل إلى قمرتك الخاصة..
رفعنا الهلب.. وفردنا الأشرعة وبدأت الخاتون تتمايل..
سرنا في الماء ليلة كاملة بلا مشاكل.. ثم بدأت المشاكل حينما
جاء الليل وأويت إلى فراشي المتأرجح بعد أن ألقيت نظرة مطمئنة على الصندوق القابع تحته ..
بعد قليل بدأت أسمع تلك الأصوات..
***
إنه صوت يشبه صوت الفئران التي تعبث في قبو الخاتون لكنه يصدر من الصندوق.. هل أعطاني صياد صندوق محمل بالفئران؟!..
هبطت من فوق فراشي وتأملت الصندوق.. ملت عليه منصتاً.. أبعدت أذني وقد اقشعر بدني من هذا الصوت الممجوج..
وتذكرت ما قاله لي الرجل :
ـ لا تفتح الصندوق مهما حصل حتى تسلمه إلى أهلي.
صعدت إلى الفراش وقلت لنفسي :
علي أن أهدأ.. إنه ذلك الهراء المعتاد في عرض البحر.. لا يوجد صندوق مغلق إلا وفيه ألف عفريت حبيس.. لم أقابل بعد ذلك الصندوق الذي يحترم نفسه ويكف عن تلك الأشياء الصبيانية التي تفزع البحارة ليلاً..
قلت كلاماً نحو ذلك لحميد في الصباح فقال لي بقلق :
ـ أنا لست مرتاحاً لهذا الصندوق ولا لهذا التاجر.
قلت في بشر :
ـ مرحا.. هذا يعني أننا مقبلين على مغامرة جديدة..
ـ سندباد أنا لا أمزح.. تقول الصندوق يصدر أصوات كأن هناك شيء ما يتحرك بداخله.. هذا الشيء قد يكون خطراً.. قد يغادر الصندوق و..
رتبت على عاتقه قائلاً :
ـ سيسعدني أن يحدث ذلك جداً.. لأنني لن أجسر على فتح الصندوق لو كنت تفكر في هذا..
لوح بذراعه قائلاً :
ـ لا تقل لي أنك ستحتفظ بوعدك لذلك التاجر الغامض..
ـ ليس لدي شيء أخر.. كما أن لدي هذا التاجر عائلة في بلادنا.
ـ وذلك الكيان العجيب الراقد في الصندوق..
ـ لقد حكمت عليه أنه كيان وعجيب.. لقد طلب مني التاجر توصيله لأهل بيته.. ماذا تتوقع أن يكون في صندوق يرسله رجل لأهله؟.. وحش من إياهم..
ظهر على وجهه عدم الاقتناع بكلامي.. لكنني صرفت الحديث إلى أشياء اخرى بعيدة عن الصندوق.. وفي الليلة التالية أويت لفراشي منهكاً حتى لم ألتفت لأصوات الصندوق التي صارت تساعدني على النوم .. وبعد ساعة أو أكثر استيقظت على صوت ارتطام..
قفزت من فوق الأرجوحة مسدداً لكمات وركلات لذلك اللص الجبان الذي..
ثم أفقت أخيراً لأجد تحت قدمي جثة ممدة بجوار الصندوق..
***
تأملنا الجثة الشاخصة والممددة بجوار الصندوق..
إنها لإحدى البحارة المستجدين.. كما توقعت لقد زاغت عينه وحاول فتح الصندوق أثناء نومي.. لكن أنا لم ألمسه.. لقد كنت أضرب الفراغ وهو قد سقط قبل أن أفيق من نومي.. فمن الذي قتل هذا اللص إذن؟..
قال رشيد وهو يتفحص الجثة :
ـ هذا الرجل لم يقتل؟..
نظرت للجثة متفحصاً.. فعلاً لا يوجد أي علامة على القتل.. مجرد جثة شاخصة بلا أي أثر لاعتداء..
اعتدل رشيد قائلاً :
ـ هذا الرجل مات موتة طبيعية..
قال حميد وهو يشير لمطرقة ملقاة بجوار الجثة باشمئزاز :
ـ ربما كانت وفاته طبيعية.. لكن وجوده هنا لم يكن أبداً طبيعياً..
طبعاً كان يحاول فتح الصندوق بهذه الأداة.. لكن الموت داهمه.. شعرت برجفة في أوصالي من هول تلك النهاية.. أن تنتهي حياتك وأنت تسرق.. شيء فظيع فعلاً..
هكذا حملنا الجثة وقمنا بعمل ما ينبغي معه..
صلينا عليه ثم ألقينا جثته في الماء.. دعوت له بصدق أن يغفر الله له.
ذلك الأحمق الذي اختار أسوأ وقت ليخالف فيه ضميره..
لكن حتى ذلك الوقت لم نربط بين وفاة البحار المستجد الذي حاول فتح الصندوق وبين الصندوق نفسه.. إنها وفاة طبيعية لا شك فيها..
لكن الحالة الثانية جعلتنا نتوقف.. ونبدأ في النظر لهذا الصندوق بنظرة مختلفة.. والثالثة أطارت النوم من عيني..
***
أنظر لحميد فأجده ينظر لي بنفس الطريقة..
حسناً.. لم يعد هناك بحارة مستجدين.. لقد ماتوا واحداً تلو الأخر..
اتخيل سمك البحر الآن وهو يتبعنا بانتظار الجثة التالية..
القاع صار مكاناً محرماً.. صار البحارة يخشون الدخول إلى قمرتي..
حتى من أراد شيئاً يقف بالخارج ويناديني بصوت مرتجف.. وموضوع الجثث والأصوات إياها حولت الصندوق إلى قبر مفتوح يقول للعابر هل من مزيد..
كان هذا جيداً من جهة.. فلن أتكلف عناء تعيين حراسة للقاع.. لقد صار الصندوق يحمي نفسه بنفسه..
إنه يقتل من يحاول المساس به.. لا أدري كيف لكن هل لديكم احتمال أخر؟..
***
قال الشهاب :
ـ البحارة يريدون إلقاء الصندوق في الماء.
تركت قمرتي وصعدنا السطح.. وجدت البحارة متجمهرين كالعادة في مثل تلك المصائب.. قلت لهم ببراءة مفزعة أن هذا الصندوق أمانة وهو لا يؤذي إلا من يحاول فتحه.. هكذا طمأنتهم كما ترون.
قال حميد وقد جاء :
ـ ما الذي يضمن لهم أنه لن يغير طباعه.. ثم ما الذي يحملنا على نقل صندوق خطر كهذا أصلاً..
التفت إليه وقد أثار غيظي أنه يقف في الجانب الأخر.. قلت بحدة:
ـ الذي يحملنا على ذلك الأمانة..
ـ ونحن أيضاً أمانة في عنقك..
ـ لن يتعرض أحد لأذى.. فقط دعونا نصل لبغداد لنؤدي الأمانة إلى أهلها..
ـ ومن أدارك أننا لا نستغل في أمر شرير..
فكرت قليلاً ثم قلت لهم بابتسامة شريرة :
ـ حسناً.. ليس لدي مانع أبداً.. يمكنكم أن تذهبوا وتلقوا بالصندوق في الماء لكنني لا أضمن ما سيحدث لكم بعدها..
رأيت وجوههم تمتقع وقد أدركوا الفخ الذي أوقعتهم فيه..
الصندوق لن يترككم يا حمقى لتتخلصوا منه..
الحقيقة أنني لم أختبر ذلك.. لكنني توقعته.. من يحاول فتح الصندوق يموت فما بالكم بمن يشرع في التخلص منه.. لكن تبين لي خطا تلك الفرضية فيما بعد..
المهم انتهى الموقف عند ذلك الحد.. وعادت الأمور إلى مجاريها مجرد أصوات خرفشة بالليل لكن بلا جثث والحمد لله.. إن بحارتي والحق يقال لأمناء!
حتى جاء اليوم الذي وصلنا فيه لبغداد..
***
بغداد.. حاضرة الخلافة..
أخذنا نسأل عن بيت تاجر يدعى صياد ابن الحداد..
لكننا اكتشفنا أنه لا أحد في بغداد يعرف رجلاً بهذا الاسم من الأساس..
أحد الظرفاء علق على الاسم قائلاً بسخرية :
ـ صياد وابن حداد كيف يجتمعان؟..
ماذا لو عرف هذا الوغد اسم المدينة التي جئنا منها أيضاً؟..
لكن بالفعل هذا التاجر يبدو اسمه ملفقاً.. كيف لم أنتبه لهذا ونحن في خابور ؟.. ثقة الرجل في وكونه من بغداد جعلتني أتجاهل تلك التفاصيل الصغيرة.
بدأت أدرك حجم المقلب الذي شربته حتى الثمالة.. معنا صندوق قاتل ليس له صاحب.. قال لي الشهاب :
ـ لقد أراد الرجل الخلاص من لعنة ذلك الصندوق.. وقد وجد الزبون المناسب..
احمرت أذناي لسماع التبكيت.. كنا واقفين أنا وحميد والشهاب وسبع البحار وسط حواري بغداد.. متحلقين حول ذلك الصندوق الوغد الذي وقف شامخاً كأنه يتحدانا أن نجد وسيلة للخلاص منه.
ـ سنحفر له حفرة عميقة و..
قاطعني حميد قائلاً :
ـ لا شك أن هذا الاقتراح لم يفت على صياد..
نظرت له بغل وتساءلت من بين أسناني :
ـ يعني؟...
أومأ برأسه قائلاً :
ـ هذا الصندوق لا يمكنك التخلص منه إلا بإعطائه لأحمق أخر.
كورت قبضتي فتراجع مختبئاً خلف الشهاب الذي تمطى قائلاً:
ـ كلام فارغ.. إنه صندوق مثل أي صندوق.. لا أظن أنه سيغادر حفرة عميقة بمفرده.. الأمور الخارقة لا تكون بهذه الفجاجة..
صحت وقد سرني كلام الشهاب :
ـ لنبدأ في الحفر .
ـ لا تتحركوا.
التفنا لمصدر الصوت فرأينا تلك الوجوه الصارمة والأزياء المميزة لرجال الشرطة.. بجوارهم كانت جارية تشير إلينا وهي تقول بحماس:
ـ لقد أثاروا شكوك الحي بأكمله بهذا الصندوق الذي يلفون به ويدورون على البيوت.
قال كبيرهم وهو يفتل شاربه بلهجة خبيرة :
ـ لقد أحسنت صنعاً بتبليغنا.. اقبضوا عليهم..
قلت لمقدمهم منذراً :
ـ مهلاً يا سيدي.. هذا الصندوق فيه شر مستطير.. إننا كنا نزمع الخلاص منه حتى لا يؤذي أحداً..
نظر لي مقدمهم وابتسم مكشراً عن أنيابه..
ـ أها.. من حسن الحظ أن البيمارستان قريب من هنا..
واصطحبونا جميعاً إلى مقر الشرطة وتحفظوا على الصندوق..
قلت لنفسي.. هم جلبوه لأنفسهم..
وهناك أمر مقدمهم أحد رجاله بفتح الصندوق.. صحت محذراً إياهم فرماني بنظرة نارية وقال بغلظة :
ـ أنت هنا لست في سفينتك.. لا أريد أن أسمع صوتك.
ابتلعت ريقي وتبادلت النظرات الممتقعة مع حميد والشهاب وسبع البحار..
اقترب الشرطي من الصندوق وتفحصه ثم مد يده إلى قفله وبدا يعالجه.. هنا رأيناه يشهق.. يمسك صدره.. ثم يهوي تحت أقادمنا..
انقلب مقر الشرطة رأساً على عقب.. كانت لحظات عصيبة بالفعل فقد فقدوا أحدهم في ثوان..
قلت لمقدم الشرطة :
ـ لقد أنذرتك لكنك لم تستمع إلي..
أمر المقدم رجاله بالابتعاد عن الصندوق ثم التفت إلي قائلاً وهو يلهث من رهبة الموقف :
ـ ما حكاية هذا الصندوق؟..
حكيت له قصتنا معه فلم يزدد إلا دهشة واضطراباً.. ولما تمالك زمام نفسه كان قراره أن يتم التخلص من ذلك الصندوق بدفنه..
وعدنا من حيث بدأنا..
أمر المقدم بعض رجاله بالتوجه إلى الصحراء ليحفروا حفرة عميقة ويقوموا بدس ذلك الصندوق فيها..
وجلسنا ننتظر الخبر السعيد في مقر الشرطة حيث بدأت معاملة المقدم لنا تتغير.. سمح لنا بالجلوس وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث في أشياء بعيدة كل البعد عن الصندوق.. بدأت أحكي له بعض مغامراتي حتى تحلق من حولي كل رجال الشرط وكأن على رؤسهم الطير من شدة الإنصات..حتى عاد رجال المقدم الذين أرسلهم للتخلص من الصندوق وقد اصفرت وجوههم..
لقد عادوا بالصندوق كما هو طبعاً..
وقبل أن يفتح أحدنا فيه معترضاً قالوا بسرعة وبكلمات مبعثرة أنهم حفروا له عدة مرات ودفنوه وفي كل مرة يخرج لهم من الحفرة كأنه مدفوع من قبل شيطان مريد..
هنا التفت المقدم إلي وقال بصرامة مشيراً إلى الصندوق :
ـ أيها البحار.. لا تؤذينا ولا نؤذيك.. خذ صندوقك هذا وغادر المخفر.. بل غادر بغداد كلها..
***
وهكذا عدنا للخاتون بالصندوق الحبيب من جديد.. طبعاً ثار البحارة ورفضوا الإقلاع بالسفينة ما دام هذا الصندوق اللعين فيها..
قلت لهم أننا سنرميه في البحر.. طبعاً لم يقترب منه أحد غيري أنا وحميد وسبع البحار..
لذا حينما صرنا في عرض البحر قمنا بربطه بثقل وحملناه بحرص إلى الحافة أمام أعين البحارة المترقبة..
حسب ما أفهم سيغوص هذا الصندوق في الماء للأبد..
لو حدث العكس فسيكون هذا الصندوق رفيقنا حتى نعود به لصاحبه في خابور..
طبعاً لم يخيب الصندوق ظننا..
عاد يطفو على سطح الماء وقد تخلص من الأثقال التي ربطناه بها
كأنه أحد الحواة المهرة.. طبعاً لن نتركه ليحصل عليه أحمق جديد..
سحبناه مرة أخرى وجلسنا بجواره نضرب أخماس في أسداس..
طبعاً لن نعود لخابور لنسأل عن تاجر يدعى صياد لأننا لن نجده.. ولن نجد من يعرفه..
هذا أمر أوضح من فلق الصبح..
الآن فهمت سر تسمية تلك المدينة بخابور!..
بالنسبة إلينا فنحن متأكدين أننا قابلنا رجلاً يدعى صياد وأخذنا منه صندوقاً لعيناً.. هذا الوغد يعرف سر الصندوق وأراد أن يتخلص منه.. لكن لماذا أنا بالذات؟.. هناك بحارة غيري كثيرين.. هل في الأمر انتقام؟.. لم ألتق بهذا الرجل من قبل حتى تكون بيني وبينه ثارات..
كما أنه حذرني من فتح الصندوق.. هل كان ناصحاً أم هو يريد أن يتأكد من وصول الصندوق إلى بغداد....
هل كان الانتقام موجهاً لبغداد نفسها.. هو يريد أن ينتقل ذلك الكابوس إلى عاصمة الخلافة ذاتها.. ربما يكون الرجل أعجمياً من أعداء الخلافة المتربصين.. أو حتى شيطاناً مريدا..
كل هذا محتمل.. لكنه لن يفيد في الخلاص من هذا الصندوق..
وفي ليلية مرحة من ليالي الخاتون الساهرة وقفنا نحتفل بالصندوق
اللعين الذي انضم إلينا مؤخراً وصار فرداً من أفراد بحارتي الاعزاء.. إنه وسيلة فعالة للتخلص من الأعداء.. ربما استخدمناه لصالحنا في مواجهاتنا المستقبلية.. من يدري؟
صب الطاهي المزيد من بربور البحر للبحارة فطلبت منه أن يصب كوب خاص للصندوق.. ضحك البحارة لدعابتي لكن الطاهي قام فعلاً بصب كوب للصندوق وهو يقهقه.. تناولته منه وقمت بسكبه فوق الصندوق قائلاً بابتسامة يائسة :
ـ أشرب كوبك يا رفيق..
هنا رأيت دخان أخضر يتصاعد من الصندوق فتراجعت في وجل.. تصايح البحارة في ذعر.. ويحي ماذا صنعت؟.. بل ماذا صنع بربور البحر؟..
لم نعد نرى الصندوق تقريباً.. فقط ذلك الدخان الأخضر كريه الرائحة يتصاعد ويفعم أنوفنا.. هنا خيل إلي أنني أرى شبح شخص مألوف كأنه يغادر الصندوق وسط الأدخنة يلوح بقبضته كأنه يتوعدنا بالشر.. قبل أن يتلاشى رويداً رويداً ويمتزج مع الدخان.. لقد حلف لي بعض البحارة فيما بعد أنه شبح ذلك التاجر صياد.. لا أستطيع أن أجزم هل كان ما رأيناه حقيقي أم مجرد خيال تخيلناه.. المهم أننا ظللنا نسعل ونبصق في وجوه بعضنا البعض بسبب رائحة الدخان الكريهة.. وحينما انقشع أخيراً لم نجد أثر لذلك الصندوق.. لقد اختفى تماماً بلا أثر..
نظرنا لبعضنا البعض في ذهول وقد احتبست الكلمات في حلوقنا.. تمتم حميد مبهوراً:
ـ لقد تخلصنا من الصندوق أخيراً..
ـ لا لم نتخلص منه..
هكذا صحت فالتفتوا إلي مذعورين.. هنا أردفت ملوحاً بالكوب في يدي:
ـ بل بربور البحر هو الذي فعلها..
***
تمت