شاعر المعاجم عالية الرنين
حاوره من المغرب: سامي دقاقي*
شاعر ما إن تتلبّسك نصوصه حتّى تبتعث في ذهنك الربيع بفتنة "نرسيس"، وألق "تموز"، وبهاء "أدونيس"، ورغبة "أفروديت".. لا يمكن أن تقرأه إلاّ برغبة الغابات في الامتداد، وشهوة الأرض في الاختيال. يبدو أن قصيدته تتخلّق لتبقى شابّة، ناهدًا كـ"دم الغزال"!
محمد حلمي الريشة، هذا الشاعر الفلسطيني العربي الذي آثر الالتفات إلى الجمال المسكوت عنه، والعشق اللامفكّر فيه، يأبى إلاّ أن يوقّع فرحه ودهشته على أوتار تنزّ تارةً نثرًا وأخرى شعرًا، وبين هذا وذاك يمرق عنه قلمه ليقتطع من الحياة/ الكتابة أشكالاً نصيّةً تتوزع بين المقالة المكثفة، والدراسة العميقة، والبحث الرصين.
بعيدًا عن جغرافيتنا، قريبًا من نقطة القلب، كقطفٍ دانٍ يتنضّح قصيده حبًّا ورقّة، كان لنا مع الشاعر الألق محمّد حلمي الرّيشة، الحوار التالي:
* بداية أستاذ محمد حلمي الرّيشة، أين ومتى عثر أو تعثّر بك الشعر؟
- كأنه من زمن بعيد جدًا .. ربما زمن الإنسان الذي خط أول قصيدة له رسمًا على جدار كهفه إمّا تدريبًا على الصيد أو لفشل في إنجازه.. لا أدري لِمَ أشعُرني الآن هكذا بعد تعثّرتُ بسؤالك؟! كأني وقعتُ على قطن روحي الشائك والمبلّل بعصير الماء.. لكن، لن أعدمك جواباً عمره ناهز ربع القرن ويزيد.. كان ثمّة مراهقة تنتقي حلوَ وعتبَ معجم الحبّ الأول والمفاجئ في آن.. لمْ تكن تعلم عيناي عن عثرة الشعر المفخخة في رسالة الحبّ، بل كنت أرتّب الكلمات بشكل الشعر الظاهري بتفعيلته الواحدة كي لا تفضحني.. آنذاك، بلغني من كاتبٍ ومحررٍ لصفحة "ركن الطالب"، وقد كنت أرسلتها للصفحة ذاتها لتقرأها عيونها، إذ لا بريد آخر كالذي يسبح في فضائنا اليوم، أن كتب في كلمة الصفحة مقالةً معجَباً ومتعجّباً من التلميذ (الشاعر) صاحب (القصيدة)! هي هكذا كانت العثرة الجميلة حينها، والنكديّة مذ حينها حتى آخر نصٍّ لم يكتبني بعد!
* هل يمكن أن نتحدث عن علامات فارقة في حياة محمّد حلمي الرّيشة الإبداعية؟ وأين يتموقع الشاعر منها؟
- لم أحاول، ذات مرّة، أن أنبش شِعري كما لو أنه خصلات شعر امرأة بحثًا في مسامات رأسها عن منابت الشَّعر فيه.. أميل دائمًا للبكورة أن تحتفظ بعذريتها حتى بعد التزاوج.. البحث في المنابع يعكّر صفاءها أو براءتها.. يكفيني أن أراها تضجّ فائرة الرغبة والحنين.. ليس جميلاً أن نزيح أوراق الوردة بحثًا عن مصدر رائحتها.. هكذا أراني في شِعري.. ربما العلامة الفارقة التي اشتغلت عليها، بدايةً، دون وعي (عنوان مجموعتي الأولى "الخيل والأنثى"، 1980م)، ومن ثم بوعي متشاسع بعدها (عنوان مجموعتي الشعرية الأخيرة ذات الرقم 12 هو "معجمٌ بكِ") هي التأنيث؛ هذه بؤرة مداري الشعري الذي أتموقع في فضائها حدّ الغرق الشفيف!
* لا بدّ لقارئ محمّد حلمي الرّيشة أن يخرج مملوءًا بمعجم خاصٍّ وثريِّ، الأمر الذي يشي بقدرتكم العالية على التوليد والتخييل.. هل لهذا علاقة بمشروع شعري واضح ومحدّد؟
- أنا مريض بلغتي العربية حدَّ هوس الاشتهاء.. أجد متعةً عاليةً جدًا في ترديد كلمة ما بنبرات مختلفة حين تشدني من رغبتي.. ثمة، في اللغة، حبيبات تلقيح تخصّب النص الأدبي؛ الشعري خصوصًا.. لذا أجدني، بعد الخروج من فسحة لاوعي الكتابة (ثمة أمران لا ثالث لهما تُدخل الإنسان في غيبوبة لذيذة لا تشبهها أية غيبوبة: كتابة الشعر وممارسة الحب، بتعبير الشاعر أوكتافيو باث)، أحاول أن أستولد المزيد من سحرية اللغة الشاعرة، وبأقصى مدًى ممكن، كي تتسع مساحة التخييل، ما شاءت لي، في تشكيل الصور الشعرية، أضف إليها ما تحتويه اللغة من إيقاع الكلام، والذي أجده يواقع النفس القارئة، كما هو البديل الجميل للأوزان الضيقة (أذكر هنا صرخة الشاعر أبي العتاهية: "أنا أكبر من العروض"). بخصوص مشروعٍ شعريٍّ، أنا لم أشتغل عليه بهذا المعنى، أو أفكّر به.. مصطلح المشروع يعني، من رؤيتي، أنه متعلّق بسياقات وحسابات وأطر محددة.. الشعر خارجٌ دائمًا عن كل سياقات التأطير لأنه يحاصره ويقصف أجنحته.. الشعر كأنه طائرٌ حرٌّ في فضاء مملكة لا حدود لحدودها، وإن هبط كي يستقي لقلبه وروحه، فإنه يحبُّ أن يهبط في محمية طبيعية، فهو يراها أجمل من حديقة مشذَّبة.
* على ذكر المعجم، تعدّ مجموعتكم الشعرية الأخيرة "معجمٌ بكِ" رقصة على حبالٍ عالية التوتر، و"لعبة للاحتراق الجميل" كما وصفها الشاعر والناقد اللبناني سامح كعوش.. تُرى كيف استطعتم ابتناء عوالم هذه المجموعة على شعريّة التناقض، دون إرباك القارئ وإشعاره بعمق المفارقة أحيانًا؟ هل يتعلّق الأمر بوصفة كيميائية لا يجيد أسرارها غير محمّد حلمي الرّيشة، أم ماذا؟
- للشاعر المبدع مَخبَره الخاص، بل الخاص جدًّا، وشاعريته الإبداعية هي التي تعمل معه على انتقاء عناصره اللغوية الكيميائية.. لهذا نجد فروقًا في مستوى التجارب ناتجة عن عملية الانتقاء بثنائية الشاعر وشاعريته، فثمة من يصل به النص الشعريّ أقصى درجات المفارقة والتناقض، وثمة من يصل به إلى ما أبعد من هذا وهو الصدمة المرعشة اللذيذة للدهشة.. الشاعر نفسه قد تعتريه هذه بعد أن يتحوّل إلى قارئٍ خلاّق لنصّه.
* العشق والمرأة؛ موضوعان أساسيّان في مجموعتكم "معجمٌ بكِ" كما في كل أعمالكم تقريبًا، بمعنى أن الشاعر محمّد حلمي الرّيشة واقعيّ إلى درجة "الجسد" طبعًا، وهنا يحضرني قول عبد الوهاب البياتي: "الشاعر إنسان مثلي ومثلك، لا تاريخ له إلاّ تاريخ الرّوح".. هل فعلاً يستطيع شاعر هذا الزمن، وكل الأزمان، الحياة بإيقاع واحد؟
- لا أعتقد أن مقولة الشاعر البياتي التي أوردتها لها المعنى المقابل لما ورد في نهاية سؤالك.. لكن؛ هناك مَن عاش ويعيش الحياة بالشكل الموصوف بسؤالك.. الشاعر المبدع لا يستطيع هذا؛ لا يستطيع أو يحتمل أيّ إيقاع واحد لأنه سيتحول إلى ثبات ورتابة، حتى إيقاع الإبداع الواحد سيدخل في نمطية تراوح مكانها حدَّ نفرة القلب. أعود إلى بداية سؤالك.. صحيح أنهما موضوعان أساسان، لكن ما كان هذا في كل أعمالي الشعرية.. ثمة نصوص فيها مواضيع أخرى تتداخل داخل بعض المجموعات، لكني، ومنذ مجموعتي "كتاب المنادَى، 1998م"، أشعرني وكأنني صحوت على غيبوبة ما كانتني قبل هذه المجموعة.. ليس للهمِّ الوطني فقط، بل لاكتشاف أبعاد أخرى في حالات العشق حتى الجسديّ منه، لهذا ففي مجموعتي "هاوياتٌ مخصبَّة، 2003م"، قصيدة "سيميثا.. حنينٌ كاسدٌ على أريكة" (شاب وفتاة قرّرا بدءَ الحب بالتواصل الجسدي قبل التواصل العاطفي)، كانت عن العشق الحسّي، أي على عكس الحب العذري المعروف عربيًا.. هل هي لكسر الإيقاع الواحد؟ ربما، فلاوعي الشاعر المبدع دغلٌ واسعٌ بحجم قلبه الطريِّ مثل وجنة طفلٍ خرج للتوِّ من رحمِ أمّه.
* يقول عزرا باوند: "يجب أن أعتذر لأني اعتقدت أن في إمكاني بناء فردوس على الأرض".. هل تَرون أن هذا هو، فعلاً، دور الشاعر عمومًا؟
- تلك حكاية ضالّة مضلّة رغم نُشدان تحقيقها من كل مبدع؛ كم كنت أقرأ سابقًا أن كل كاتب وغَيره "يرغب بتغيير العالم".. ذلك حلمٌ جميل، لكن أنَّى لهذا العالم أن تغيّره قوة الشعر مثلاً، مقابل قوة الكائن اليشبُه الإنسان شكلاً، فقط، والذي يدمّر في الإنسان حقوق الجسد وفراشة القلب ورعشة الروح، بل أكثر حين يمحو الجمال في الفردوس الأرضي.. لم يزل أكثر من "قابيل" يقتل أكثر من "هابيل" كل رمشة عين، ولم يزل يقتل أكثر من "غراب"؛ ليس كي لا يدلّه على إخفاء جريمته، فهو يستمتع بقوة الفضيحة أيضًا، إنما لأن القتل، بطرائقه المختلفة، بات شرعته الألذّ من نشوته مع امرأة يستعبدها أيضًا.
* ما الذي يمكن أن يعتذر عنه محمّد حلمي الرّيشة مثلاً؟
- لقارئي الذي أَشعُرني بأني مقصّرٌ نحو ذائقته الجديدة العالية وأُريد أن أفيض عليه بأكثر مما أفضت.. للقصيدة التي حضرتني ولم أكن متوهّجًا لاستقبالها.. لأناي التي أتعبتها شعرًا منذ مراهقة القلب ولم أزل.. وقبلاً لدموع حبيبتي السريعة التّراذذ، حين لم تجد نفسها في قصيدةٍ قبل أن تعرف أنها القصيدة!
* يقول سميح القاسم: "مولاي.. أرضك طيّبة/ وبذور زرعك طيّبة/ مولاي.. لكنّ الرسالة متعبة".. يستحثنا هذا المقطع الشعري الجميل على الحديث عن رسالة الشاعر: هل وظيفة الشاعر التغيير عن طريق المشاركة الميدانية الفاعلة، أم فقط عليه "أن يدلّ على الطريق" بتعبير فيكتور هيغو؟
- وظيفة الشاعر الأولى هي في العبارة الثانية، ومن ثم العبارة الأولى.. لكن كلمة التغيير المنسوبة للشاعر، حسب سؤالك، أو للمبدع في إبحاراته، باتت باهتةً لأنها أُوقفت في المنطقة الرّماد.. كانت، بالأمس القريب، قصيدةٌ واحدة تكفي الشاعر كي يُخرج الشارع.. الآن، وفي ظل القطب الأوحد الذي يمارس "ديمقراطية" الترغيب والترهيب حتى ضدّ مريديه من القادة، وهم بالتالي يعكسون سياسة الترهيب، فقط، حسب تعاليم ذلك القطب، فإن الشاعر يبدو عاجزًا عن إيصال الرسالة، إذ ثمة من يستطيع، بحُكم موقعه، أن يفضّه قبلها.. وظيفة الشاعر الآن، رغم مقولة "هيغو" القديمة، ليست في "أن يدلّ على الطريق" فقط، بل بطرح الأسئلة بمختلف موضوعاتها.. ما يتعلّق بالتغيير أصبح بطيئًا جدًا، لأن استقبال الإبداع بات بطيئًا وأكثر.. المسألة متعلقة بالوعي والإدراك مقابل الكم الهائل من الرسائل المشبوهة والمشوّهة التي، رغم أننا نعرف مصدرها وخفاياها ونوايا مرسليها، إلا أننا لا نردّها من حيث أتت.. تلك مأساة الولاة والرعيّة معًا.
* في السياق نفسه يقول عبد الرحمن منيف في روايته "حين تركنا الجسر": "ليس الشعر الذي يهزم البشر، البشر يهزمون الشعر عندما يتركونه وحده يحارب، لو حاربوا مع الشعر لانتصروا".. ما تعليقكم أستاذ محمّد حلمي الرّيشة؟
- كل الخسارات التي استمرأت روحنا حدّ السذاجة هي لأننا نريد أن ينوب عنا الآخر، أيّ آخر، للقيام بما هو ملزمٌ لنا قبل التزامنا به.. قد يكون جسرٌ فاصلاً بين الحقيقة والوهم.. بين الحرية والاستبداد.. بين الضوء والعتمة.. وأيضًا؛ بين الحب والجسد.. بين العقل والقلب.. بين الروح والنفس، بل بين أي شيء ونقيضه، أو أي شيء وتوأمه.. كيف يمكننا أن نشعر الحياةَ إذًا؟ موفقٌ جدًا كان "منيف" في تحديد مفردة الشعر للقياس على الأشياء الأخرى.. قد يذهب الشعر، مجاز أي شيء أراه في معنى المقولة، ليحارب وحده مُلزمًا حيث تطلّع للخلف فلم يجد أحدًا.. قد لا ينتصر، لكنه لا ينهزم من خارجه.. هو ينكسر مرآةً حين يجدهم ينتظرونه فيها، لأنهم تعوّدوا على تجرّع الهزيمة خمرَ وخدرَ يأس.
* فلسطين؛ هذا الحزن الأكبر، و"الحزن الأكبر ليس يُقال" بتعبير شاعر إفريقيا محمد الفيتوري.. ماذا يمكن للشاعر محمّد حلمي الرّيشة أن يقول عنها، لكن بصيغة الفرح والأمل هذه المرة؟
- لست يائسًا لكني حزين.. لست مهزومًا لكني أنزف.. لست غائبًا لكني ضائع.. لست مستسلمًا لكني تعب.. ثم؛ لست شاعرًا لأن فلسطين هي الشعر والشاعر معًا.. أليس هذا الأمل والفرح بأكثر حالات الحزن جنونًا؟! فلسطين ليست الحزن الأكبر؛ هذا تعبير ترفضه هي.. فلسطين لا يمكن أن تعادل الحزن الأكبر ولا الأصغر ولا الحزن ذاته، بل تعادل الجريمة المستمرة التي شاركنا ونشارك جميعًا صياغةَ شكل جروحها الناتئة، وكمّ الذباب الأزرق الذي لا نهشّه عنها ولو بيدٍ كسولة.
* هل يمكن الحديث عن استمرار فاعلية شعر المقاومة في ظل استفحال الشعر الهروبي، وشعر اللامعنى، والكولاج اللغوي، وفي ظل متغيّرات أخرى ترتبط بالذائقات وانفضاض الجمهور من حول الشاعر المحرّض، وأشياء أخرى؟
- دائمًا، في عالمنا المكبوح الروح والمكبوت الأمل، تجرّ الهزيمة أختها، بل وعائلتها كلها.. المشكلة أننا نُجلس أجسادنا؛ المرهقة منها والمترفة، على أكفنّا التلاصق وجناتنا كل انتصار هزيمة فينا.. لنقل بكل وضوح: ماذا فعل شعر المقاومة حتى قبل استفحال الشعر، والحقيقة اللاشعر، بمسمياته المتعددة؟ كانت له بداية الولادة، لكنه تعب من كثرة ترديده بنا وقلة تأثيره علينا.. كانت فاعليته قليلة الحماسة لا تصل حدّ انفعال العاطفة الثورية فينا، وكثيرة الألم المتدارك بعد نتائج كل جولة حرب وعدوان.. هذا الحال لم يزل دائم الحضور بتواجد ثقيل جدًا، كما لاحظنا في العدوان الصهيو- أمريكي على لبنان وفلسطين.. بالنسبة لي؛ مؤكدة إثارة الحماسة والانفعال حينًا ما، لكن ما يحزنني بقوّة هو تأريخ الهزيمة إلى ما بعد ما يشبه التقديس.. في بعض دول العالم، التي تعرضت للاحتلال الخارجي أو الاستبداد الداخلي، فعلَ شعر المقاومة فِعله المؤثّر رغم بطء تأثيره وحقق ما كان ينادي له وعليه.. عندنا؛ كاد يختفي، ليس من استفحال اللاشعر عندنا وفينا، بل لأن يأسنا المكابِر بات أكبر من وعينا المصادَر.
* ما رأيكم في مسألة تسميات الشعر هاته، من قبيل: شعر المقاومة، الشعر النضالي، القصيدة المثقفة أو العالمة... الخ؟
- لا شك أن هذه التسميات أُطلقت منة قبل نقّاد الشعر أو منظّريه.. أعتقدها تسميات تصنيفية؛ عتبات أولى أمام باب الشعر، تمهيدًا لاكتناه وسبر أغوار النص الشعري.. ثم ثمّة شعراء يستعذبون هذه التسميات لدرجة التنصيب العَرشي.. بالنسبة لي، لا تعنيني تلك المسميّات ولا غيرها لأنها مجرد إضافات لاسمه الحقيقي.. لا بأس.. ليُطلقوا عليه ما شاءوا.. الشعر شعر.. ما يهمّني ويعنيني كشاعر وقارئ كمَّ الشعر في الشعر.. هذا هو المقياس الإبداعي وليس التصنيف الاسمي.
* يقول محمود درويش: "قلت له- والمكان يمرّ كإيماءة بيننا-: ما المكان؟ فقال: عثور الحواسّ على موطئ للبديهة".. هل يميل محمّد حلمي الرّيشة إلى "مكان ما" مثلاً؟ وكيف تنظرون إلى المكان في علاقته بالشاعر الذي يتأبّى على "المكانية"، بل و"الزمانية"بمفهومهما الشمولي؟
- ما "المكان" في الشعر؟ وما "الزمان" فيه أيضًا؟ سؤالان شغلاني أكثر من مرّة، بعد أن لفت انتباهي مُحاوري القاص زياد خداش، ذات حوارٍ معه، حين قال لي متسائلاً: "المكان غائب تمامًا في قصيدتك.. لماذا؟".. لم أكن انتبهتُ لهذا من قبل، فأجّلت الإجابة عليه ريثما أعود إلى مجموعاتي الشعرية قارئًا من جديد.. لقد كان محقًا في اكتشافه بعد أن غُصت محللاًّ نصوصي الشعرية.. ما استطعت الوصول إليه آنذاك أن المكان ذائب كيميائياً في النص، بل والزمان أيضًا.. أُضيفُ: في مَخبر الشاعر الشعري تتفاعل العناصر اللغوية وغيرها تفاعلاً كيميائيًا في إناء الشعر وهو القصيدة، يصعب بعد مزجها الإبداعيّ إعادتها إلى عناصرها الأولى الطبيعية.. لقد تأكد لي أن الشعر لا يقبل الأشياء كما هي كي لا تبدو جامدةً صافنةً، لهذا فإن أي نص شعريٍّ لم يدخل مَخبرَ الشاعر تكون فيه الدلالات على حالها حدَّ الزخرفة اللغويّة لا أكثر، لأن الحقيقة التي أراها في كثير من النصوص أن الشاعر هو من يَقود قصيدته لا العكس.. هذه مأساة الشاعر والشعر معاً.. الخلاصة: أرى حقيقةً أن لا مكان للشعر ولا زمان له أيضًا.. هو يُوجدهما ويذيبهما في محلوله السحريّ.
* لو سألت الشاعر محمّد حلمي الرّيشة عن طقوسات فعل الكتابة لديه فماذا يقول؟
- ليس ثمة طقوس معينة أو ثابتة، فالشعر يكاد يكون الإبداع الوحيد الذي ليست له طقوس أو طقوسات خاصة بسبب فجأته اللازمانية واللامكانية.. المهم أن تكون (أنا) الشاعر في حالة تهيّؤ لاحتواء اللحظة/ الومضة/ الإشراقة الأولى، والتي تلمع كبارقة تُرجف روح الشاعر، وإلا فإنها لا تحتمل المكوث أكثر من عمرها البرقيّ.. أحاول سريعاً تسجيلها على أي شيء، فقد تكون قصيدة قادمة من المشتهى البعيد.
* ماذا يمكن للشاعر محمّد حلمي الرّيشة أن يقول في إشارات مركّزة وعجلى عن:
- "الضوء الأزرق" لحسين البرغوثي: كأنك كنت كثيرًا علينا في هذه العتمة الموحلة.
- ناجي العلي: تأخرّت علينا كثيرًا في غيابك ولا عذر لك.
- ياسر عرفات: أنت الذي جرّعوك السم ونحن الذين متنا.
- راشيل كوري: كيف تعلمت "الفلسطينية" التي أنكرها كثيرونا؟!
- محمد الماغوط: خُنت وطنك.. هنيئاً لك بهذا الفرح.
- العالم الجديد: أيها الإنسان الشعر.. أيها الشعر الإنسان.. أين أنت؟
- القصيدة المُجَسْدَنَة": أغطّيك بعريّي لأسترك من نُباح ريحهم.
- راهن الشعر العربي: أيها الحصان الجريح.. لا جواد دون كبوة.
* أخيرًا وليس آخرًا.. كلمة تمتطي صهوة الرّيح؟
اِنْفِرَاجٌ يَتَرَبَّصُ لُعَابَ بَصَرِي ..
اِنْتِشَارٌ يَتَرَيَّضُ بَيْنَ مُمَدَّدَتَيْنِ ..
اِنْفِلاَتُكِ إِلَى كُلِّ الجِهَاتِ ..
.....
أَنَا أُنَاثِرُكِ أَلَمَ لَذَّةٍ
أَنْتِ تُشَاعِرِيْنَ شَهِيَّتِي !