فقط أنتِ
الفاصلةُ الأُولى:
ثلاثُ زوايا حادَّة، والرَّابعةُ: امرأةٌ قائمةٌ، ومرآةٌ قاتمةٌ، وقافيةٌ طاعنةٌ في البكاءِ. في حُجْرَةٍ مُستديرةٍ من الحيرة، تتوسَّطها طريقٌ وخريطةٌ وخطوةٌ يُجَلِّلُهَا الرَّجاءُ.
- من أين يبدأُ الكلامُ؟ وإلى أين يمضي؟
سألتُهَا؛ فأجابتْ:
- من القلب، وإلى القلب.
ثمَّ حَزَمَتْ حقائبَ القول إلى ظهرها، وجَذَبَتْ فكرتها العذراء إلى صدرها، ومَضَتْ دون أنْ تَلْتَفِتَ إلى الوراء.
- إلى أين؟
- إلى قلبه... إلى قلبي.
الفاصلةُ الثانيةُ:
بين وجهين نَحَتَتِ الغربةُ ملامحهما؛ حتَّى صارا أشبهَ بالحزن، وحزنهما أقربُ إلى الشَّجن، وشجنهما يُشَذِّبُهُ الْعِتَابُ، ويَشُوْبُهُ الْعَجَبُ –عينٌ تُرتِّلُ شوقها، وريشةٌ تخطُّ دمعها.
- من عجيبِ ما رأيتُ: شجرةً جَرْدَاءَ تحتضنُ عُصفوراً وحيداً في صحراءَ قَاحِلَةٍ، بَصُرَتْ بهما غيمةٌ هائمةٌ، فأمطرتهما محبَّةً؛ حتَّى اخْضَلَّتِ الصَّحراءُ باللُّغةِ، وتَخَضَّبَتْ بالحروفِ الخضراء الشَّجرةُ، وبالأنغام الغنَّاء تَضَمَّخَ العصفورُ؛ فانتشى، ثمَّ شدا. فبدا المشهدُ كلُّه كما لو كان كتاباً يضمُّ لوحةً، وفي اللَّوحةِ: قيثارةٌ، وامرأةٌ!.
- جميلةٌ أنتِ!
- وحزينةٌ!
- تُحبِّينه؟
- ويُحبُّني!
- إذن؟
- نبقى معاً، ونبقى غرباء، لا نفترقُ، لا نلتقي.
الفاصلةُ الأَخيرةُ:
في حَنْجَرَةٍ مُغلقةٍ ومُعلَّقةٍ في سقفِ صدرٍ ينتظرُ: وترٌ يحاورُ صَدَاهُ، وكلَّما تَلَعْثَمَ قَلَبَ النَّغمةَ أو غَيَّرَ الـ آه.
- أترينَهُ باباً أَمْ جداراً؟
- هذا الَّذي أمامنا؟
- يصدُّ آمالنا، ويُعيقُ أحلامنا عن التَّوغُّلِ في الوجود!
- أراهُ سماءً وجناحاً، وأرانا في فضاءِ المجدِ نُحلِّقُ عالياً، ثمَّ لا نموت.
- كالرَّايةِ لا تسقطُ، وإنْ سقطتْ يدُ فارسها!
- ولا تُرْهِبُهَا الْجَعْجَعَةُ، ولا تعجزُ -وإنْ طحنوا سنابلَ محبَّتها- عن التَّسامي في الخلود.
- أنتِ أنا، وأنا أنتِ.
- نطرحُ منَّا "الألفَ" و"التَّاءَ"، ونستبعدُ "وَاوَ" العطفِ، وبالضَّمِّ نُسْقِطُ الفاصلةَ وباللَّثْمِ.
- ثمَّ نربطُ بين "النُّونين" بـ "حاء"، "حاء" الحُبِّ.
- فنصيرُ "نحن".
- وهذه الـ "نحن" أجمل ما فينا!
- وأقربنا إلينا!
- تُحبِّينني؟
- أكثر ممَّا تُحبُّني!
- مع أنَّكِ لستِ لي.
- ولستُ لكَ.
- فقط، هذه الـ "نحن" الَّتي تجمعنا.. لنا.
المُصادفةُ الأُولى والأَخيرةُ:
والحياةُ تنتزعُ الحياةَ منَّا؛ فيُعيدها الموتُ إلينا، قسراً يُعيدها، ثمَّ قسراً يستعيدها -أَجْمَعُ الاحتمالاتِ كلَّها، ثم بالْحِيْلَةِ الْحَسَنَةِ أُحِيْلُهَا إلى حُلمٍ يُحْيِيْنَا. لها الشَّهْدُ والسُّكَّرُ، ولنا الْإِبَرُ الْحَنْظَلُ، ولها إنْ شكونا أنْ تزيدنا، ودون سببٍ لها أنْ تزدرينا. وأنا بها فردٌ، وبالحُبِّ اُمَّةٌ، قليلٌ مثل ممحاةٍ، وكثيرٌ مثل دَوَاةٍ، وأنا واحدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، وأنا الواحدُ والْعَشَرَةُ، وطفلي الَّذي ماتَ في الْعَاشِرَةِ، وأبي الَّذي عاشَ سبعينَ دمعة، خاوٍ مثل قَصَبَةٍ، ومُكتظٌّ مثل سُنبلةٍ، وجسورٌ مثل عُصفورٍ، ومذعورٌ مثل فزَّاعةٍ، معي حزنٌ كثيرٌ، وليس في جعبتي ضحكة واحدة، تصفعني الوحدةُ بـ "لا مساس!"، وتصعقني الغربةُ بـ "مَنْ أنتَ؟"، وبالنَّوَايَا الْمُحَرَّفَةِ أُجْلَدُ، وبالتَّرْجَمَةِ الْخَاطِئَةِ أُرْجَمُ؛ فأَتَجَلَّد،ُ وأَتَجَدَّدُ، وبـ "الدَّبْلَجَةِ الْمُؤَدْلَجَةِ" أَتَمَدَّدُ، تبسطني رَحِمٌ، ويطويني لَحْدٌ، وفيما بينهما تنهشني الفكرةُ، وتناوشني الكتابةُ.
الكتابةُ الَّتي قادتني إليكِ؛ وساقتكِ إليَّ، لن تقولي، ولن أقول، ولكنَّه كلامكِ المخبوء في صدركِ... لي، وكلامي المخبوء في صدري... لكِ، فدعينا نتبادلُ الصَّمتَ قليلاً، وقليلاً نبكي على كتفِ أُغنيةٍ، ثمَّ نقتربُ بقلبينا مِنَ النَّافذةِ، لا لشيءٍ، إلَّا لأنَّها النوافذُ مثلنا، تعرفُ معنى الانتظار، وتُلَوِّحُ في سِرِّهَا للغرباء، وتُسَرِّبُ -وإنْ كبَّلوها بالحديدِ وكمَّموها بالنَّار- رسائلَ العشاقِ، وأحلامَ المساكين والفقراء.
لستِ مِنْ هذا الْعَالَم، لكنَّكِ دمعُ غُربائه. ولستُ من هذا الْعَالَم، لكنَّني بكِ أنتمي إليه. والمدنُ التي لا تُحِبُّ الغرباءَ تظلُّ غريبةً. والنَّاياتُ التي تُبْكِي ولا تَبْكِي تظلُّ وحيدةً. وللكلماتِ قلبٌ، وللأنغامِ روحٌ، وكذا الألوانُ، كمانا تتعارفُ، وكمانا تتآلفُ، وكمانا تشتاقُ فتتعانقُ، وأصابعنا الشَّاكيةُ هي النَّشازُ، وأضلاعنا الشَّائكةُ هي الشِّجَارُ.
وها إنَّني في الحُبِّ وترٌ بين أُصْبُعَيْنِ: سَوْطٌ، ومِخْرَز. ينسابُ النَّغمُ من وجعي غُصناً فغُصناً، ومن شجني ينداحُ الشَّدْوُ غابةً والـ آهُ غيمة. يُفكِّرُ قلبي مرَّتين، وفي الثالثةِ يُقرِّرُ: وما حاجتي إلى التفكير! نعم، أُحِبُّهَا.. وجدَّاً! وفي العاشرةِ يُتمتمُ: عليها أنْ تُدركَ أنَّ هذا الحُبَّ لن يموت، وأنَّني به لن أبوح. مَنْ قالَ: إنَّ على الرَّجُلِ أنْ يبدأ! وإنَّها الخطوةُ الأُولى جنسها مُذكَّر! بل مَنْ قالَ –أصلاً-: إنَّ الحبَّ يحتاجُ إلى اعترافٍ! وكلُّنا نعرفُهُ جيِّداً ونعرفُ...!.
قد يَجِيءُ الحُبُّ مُتنكِّراً على هيئةِ مُصادفةٍ عابرة، أو تحيَّةٍ عاجلة، أو كلمةٍ عاديَّة -نتبادلها -دونَ اكتراثٍ- مع غريب، أو نُرَدِّدُهَا –دون وعيٍ- لصديق. ولا أدري إنْ كنَّا نشعرُ به حين يَجِيءُ! ولكنَّه يجدنا، ويجتهدُ كثيراً في تنبيهنا، وكثيراً كثيراً يُحبُّنا! وأظنُّها لا تُعاندنا –في الحُبِّ- عقولنا، وإنَّما تُبصرُ –قَبْلَنَا- حافَّةَ الهاوية؛ فتتوقَّفُ عن مُجاراةِ قلوبنا في اللَّحظةِ الحاسمة، ثمَّ تفجعنا بقراراتها المُفاجئة. وربَّما لهذا أَحببتُكِ بروحي، لا بقلبي، ولا بعقلي. وفي يقيني: أنَّه أوَّلُ رَجُلٍ أَحبَّ امرأةً كان أنا، وأنَّها أولُ امرأةٍ أَحبَّتْ رَجُلاً كانتْ أنتِ، وأنَّه الحُبُّ منَّا ابتدأ، وأنَّنا أوَّلُ العشاقِ وأَنبلهم، وما مِنْ أحدٍ أَحَبَّ مثلنا، ولا بلغَ في الغرام مبلغنا!.
مِنْ ضلعيَ الأعوجِ خَرَجْتِ؛ فاسْتَقَمْتِ، ثمَّ مِنْ عظامكِ كلِّها اسْتَعَدْتُ ضلعيْ واعوجاجي. وحين يُشَبِّهُكِ أحدُهُم بالبدر في ليلة التَّمام، أو بالشَّمسِ في رابعة النَّهار -أغمضُ عينَيَّ مع أنَّني أعمى ومرآتي مًطْفَأَة! ولو أنَّها المسافةُ بيننا تصيرُ صفراً، والوقتُ الذي يعبرنا يصيرُ وهماً، وتعودين إلى صدري ضلعاً، وإلى حُضنكِ أعودُ حُلماً -لـما افترقنا أبداً ولا هرمنا! وهذا الوترُ المشدودُ بيننا تظنُّه الكلماتُ نهراً؛ فتغتسلُ فيه وتتطهَّرُ، فيصيرُ الحرفُ لحناً، ونصيرُ نحنُ طيفاُ!.
لا يُريدُ الحُبُّ منَّا غيرَ أنْ نكونَ معاُ، وأنْ نكونَ وفي الْبُعْدِ سُعداء. ونُريدُ منه أشياءَ كثيرة، كأنْ نَفْهَمَ –مثلاً- ما الَّذي يحدثُ لنا كلَّما التقينا! وما الَّذي يحدثُ فينا كلَّما افترقنا! وكلَّما ضحكنا ما الذي يتطايرُ منَّا! ويتساقطُ كلَّما بكينا! ونحنُ بالحُبِّ أجمل! ولكنَّنا لا نُرَى، لا يَرَى الآخرون منَّا غيرَ جمال أنفسهم؛ فيُحبُّوننا، ونُحبُّنا، ومَنْ لا يكونُ جميلاً لا يرانا ولا يُحبُّنا!.
كنتُ سأهتدي إليكِ لو كنتُ حيَّا، وأُحبُّكِ لو كان لي قلب، وأنساكِ لو كانتْ لي ذاكرة؛ فتُعاتبينني، وتبكين –كالضوء- على كتفي المُعتم، ولكنَّني مُجرَّدُ كتابٍ بين يديكِ، يحتفظُ برائحتكِ، ويحفظُ –جيِّداً- ملمسَ أصابعكِ ونظراتكِ، ولا يعرفُ شيئاً عنكِ!.
أَمُدُّ إليكِ يدي، لا لآخذكِ؛ وإنَّما لأُبقيها إلى جواركِ، ولتُعيدني -كلَّما ابتعدتُ- إليكِ. أُحبُّكِ بالمعنى الذي يقتله التَّناقضُ ويُحييه، ويُخلِّدُهُ التَّوافقُ ويُفنيه. بالمعنى الذي يُريدُ ولا يُريد، ويُدركُ ولا يُدرك، ويشعرُ ولا يشعر. بالمعنى الَّذي يعشقُ السُّؤالَ أكثرَ من عشقه للإجابة، ويسعى إلى المُحالِ أكثرَ من سعيه إلى المُمكن، ولا ينشدُ الخلودَ ولا الكمالَ؛ وإنِّما يتوقُ إلى الجمال، وكلَّما ضلَّ وأذنبَ أنابَ واستغفر، ثمَّ عادَ فأخطأ. بالمعنى الَّذي يُصيُّرنا خُرافةً، ثمَّ يُقنعنا أنَّنا لا نُؤمنُ بالخرافاتِ، ويحملنا إلى الخيال؛ ثمَّ يسحبُ من تحت أقدامنا البساط. بالمعنى الذي يُؤكِّدُ أنَّه الظِّلُّ مكاننا الأمثل، والانتظارُ زماننا الأكمل، ثمَّ بالشَّوقِ يُحَرِّقُنَا، وينسفنا في اللَّوعةِ نسفاً. بالمعنى الذي يشترطُ علينا أنْ لا نُسْقِطَ "كافَ" الـ "هناك"؛ ليبقى الـ "هناك".. هناك، والـ "هنا".. هنا، ونبقى –على الدَّوام- معاً.
محمد البلوي