اللؤلؤ المنثور . الجزء الرابع

[سلمان ملوح]

أما الأدب فلا أعلم شيئاً أحب منه إليّ , ولا شيئاً جنا علي حبه مثل جنايته عليّ! وما شأني وشأنه إلا كما قال شوقي :

مولاي وروحي في يده ... قد ضيعها سلمت يدهُ

ولستُ والله أدّعي أنني أديب أو شاعر ؛ فتلك صفتان لهما أهلهما من أمثال أستاذي الفاضل , بل كل ما في الأمر أنني محب للأدب والشعر , وأتعاطاهما بين الحين والآخر , وليس كل من نظم شعراً أصبح شاعراً ؛ فالشعر كما يقول ابن الأثير ( ليس أكثر من معنى شريف يُودع في لفظ لطيف ) ا.هـ وربما اتفق هذا لأي إنسان يعرف الأوزان فيقول الشعر وإن لم يكن شاعراً ! على أنّ مما عظمت به البلوى في هذا الزمان أقوام يقولون كلاماً أشبه ما يكون بالهراء , ويسمونه شعراً والشعر منه براء ! وإنهم لأعظم إساءة للأذواق من النظامين الذين ضرع إليهم المنفلوطي ليسكتوا ويريحوا الناس من نظمهم ؛ لأن النظامين وإن أساؤوا في اللفظ والمعنى قد جروا في كلامهم على أوزان الشعر , بينما هؤلاء المعاصرون لا لفظ ولا معنى ولا وزن ! ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولا ينبغي لأحد أن يتصدى للشعر حتى تجتمع له ثلاث :
الأولى/ معرفة بأوزان الشعر وعلله .
الثانية / معرفة من النحو بما يقيم لسانه ويعصمه من اللحن .
الثالثة / حفظ شيئ غير قليل من عيون الشعر العربي .
وأظن كثيراً من أصحاب الكلام المسمى بالشعر الحر لا يتقنون إلا قليلاً من هذه الأمور؛ لذلك قال لهم الأديب غازي القصيبي ( قبل أن تقول الشعر الحر عليك أن تثبت لنا قدرتك في الشعر الموزون ) ا.هـ
أما الأولى ؛ وهي المعرفة بأوزان الشعر وعلله , فمسلك طويل ضلّيل ؛ لا يمكن للطالب إتقانه بالحفظ وحده , حتى يشفعه بالمران والممارسة على تقطيع التفعيلات , سواء أقطعها بالحركة والسكون أم ب (لا) و(نعم) , وليس الطالب ملزماً بمعرفة جميع البحور وعللها ؛ فحسبه أن يعرف منها خمسة جرت عليها عيون الشعر العربي وهي الطويل والكامل والبسيط والخفيف والوافر , وما يلحق بها من علل .
والثانية ؛ وهي معرفة من النحو بما يقيم لسانه ويعصمه من اللحن , فلا أرى للطالب أحسن من الشروح الميسرة على ألفية ابن مالك كشرح ابن هاشم وابن عقيل
والثالثة ؛ وهي حفظ شيئ غير قليل من عيون الشعر العربي , فلا أرى للطالب أفضل من مختارات المنفلوطي , وأستحب له كذلك أن يقرأ ويحفظ كثيرا من زهر الآداب والعقد الفريد ويتيمة الدهر والمطرب في أشعار أهل المغرب ومقامات الحريري وغيرها من الكتب التي اجتمع أهل الصناعة على تفضيلها واستحسانها , وعليه ألا يتعب نفسه باستقصاء جميع ما كتبه شاعر واحد ؛ إلا أن يكون باحثاً يريد إعداد دراسة عنه ؛ بل يكفيه أن يحفظ عن كل شاعر أجود قصائده ؛ فيحفظ ـ مثلاً ـ عن أبي المعري قصائده ذات المطالع التالية :

ــ يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعواناً على السهر
ــ غير مجد في ملتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنم شادي
ــ ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل ... عفاف وإقدام وحزم ونائل
ــ لأمواه الشبيبة كيف غضنه ... وروضات الصبا كاليبس إضنه
ــ تهاون بالظنون وما حدسنه ... ولا تخش الظباء متى كنسنه

فإذا حفظ الطالب ووعى هذه القصائد , فقد أصاب من شيخ المعرة وسائط القلائد .