بعض البشر كاليد المعطرة التي تعبق كل يد تصافحها ..
بعض البشر كصدفه البحر حينما تتألم وتبكي لاتخلف وراءها سوى حبات اللؤلؤ ..
بعض البشر حينما تكشر الدنيا بأنيابها في وجوهم وتهديهم الحزن تلو الحزن .. ثم تبتسم لهم في النهاية ..
يرفضون أن يكونوا أنانيين ويستأثروا بكل هذا الفرح لوحدهم بل بسعون الى نشر الفرح والأمل للناس وللدنيا بكل طيبة ومحبة ومودة .
البارحة كنت أفتش بين أوراقي القديمة عن شئ ما ، فوجدت هذة القصاصة من الورقة التي خبئتها كي أكتب عنها ذات يوم ..
قصاصة كنت قرأتها في جريدة ما في بريد القراء فأستوقفتني بانسانيتها وشدتني بماتحمله من معاني جميلة تدعوا للحب وللتسامح وللأمل ..
لن أزيد في الكلام الاستهلاكي وسأترككم مع صاحبه الرسالة كما كتبتها هي دون زيادة أو نقصان ... :
" كنت قد نويت أن أكتب لك منذ زمن بعيد ، لكن ظروفي حالت دون ذلك والآن فإنني أشعر بأنه قد آن الآوان لكي أطلعك أنت وقراء هذا الباب على تجربتي مع الحياة .
فأنا سيدة في الثامنة والثلاثين من العمر نشأت في أسرة ميسورة الحال ، عشت في كنفها حياة هادئة الى أن تخرجت من الجامعة .. وعقب التخرج التحقت بعمل ممتاز يدر علي دخلا كبيرا .. وأحببت عملي كثيرا وأعطيته كل اهتمامي ، وتقدمت سريعا حتى تخطيت كثيرين من زملائي .
وكنت خلال مرحلة الجامعة قد ارتديت الحجاب بإرادتي واختياري ، وبدأ الخطاب يتقدمون الي ، لكنني لم أجد في أحدهم مايدفعني للارتباط به ، ثم جرفني العمل والانشغال به كل شئ آخر حتى بلغت سن الرابعة والثلاثين ، وبدأت أعاني النظرات المتسائلة عن سبب عدم زواجي حتى هذا السن ، وتقدم لي شاب من معارفنا يكبرني بعامين .. وكان قد أقام عقب تخرجه عدة مشروعات صغيرة باءت بالفشل .. ولم يحقق أي نجاح مادي ، وكان بالنسبة لي محدود الدخل ، لكنني تجاوزت هذة النقطة ورضيت به وقررت أنني بدخلي الخاص ، سوف أعوض كل مايعجز هو بامكاناته المحدودة عنه .. وستكون لنا حياة ميسورة باذن الله .
وقد ساعدني على اتخاذ هذا القرار أنني كنت قد بدأت أحبه .. وأنه قد أيقظ مارد الحب النائم في أعماقي ، والذي شغلت عنه طيلة السنوات الماضية بطموحي في العمل ، كما أنه كان من هؤلاء البشر الذين يجيدون حلو الكلام ، وقد روى بكلامه العذب ظمأ حياتي .. وبدأنا نعد لعقد القران وطلب مني خطيبي صورة من بطاقتي الشخصية ليستعين بها في ترتيب القران .. ولم أفهم في ذلك الوقت مدى حاجته لهذة الصورة لكني أعطيتها له .
وفي اليوم التالي فوجئت بوالدته تتصل بي تليفونيا ، وتطلب مني بلهجة مقتضبة مقابلتها على الفور .. زتوجست خيفة من لهجتها المتجهمة ، وأسرعت الى مقابلتها ، فإذا بها تخرج لي صورة بطاقتي الشخصية وتسألني هل تاريخ ميلادي المدون بها صحيح ؟
وأجبتها بالإيجاي وأنا أزداد توجسا وقلقلا ، ففوجئت بها تقول لي : إذن فإن عمرك يقترب الآن من الأربعين .
وابتلعت ريقي بصعوبة ثم قلت لها بصوت خفيض إن عمري 34 عاما .
فقالت إن الأمر لا يختلف كثيرا لأن الفتاة بعد سن الثلاثين تقل خصوبتها كثيرا ، وهي تريد أن ترى أحفاد لها من ابنها .. لا أن تراه يطوف بزوجته على الأطباء جريا وراء الأمل المستحيل في الإنجاب منها .
ولم أجد ما أقوله لها لكني شعرت بغصة شديدة في حلقي .. وأنتهت المقابلة وعدت الى بيتي مكتئبة .. ومنذ تلك اللحظة لم تهدأ والدة خطيبي ، حتى تم فسخ الخطبة بيني وبينه ، وأصابني ذلك بصدمة شديدة ، لأنني كنت قد أحببت خطيبي وتعلقت بأمل السعادة معه .. لكنه لم ينقطع عني بالرغم من فسخ الخطبه ، وراح يعدني بأنه سيبذل كل جهده لإقناع والدته بالموافقة على زواجنا .. واستمر يتصل بي لمدة عام كامل دون أي جديد .. ووجدت أنني في حاجة الة وقفة مع النفس ومراجعة الموقف كله ..
وانتهيت من ذلك الى قرار ألا أمتهن نفسي أكثر من ذلك ، وأن أقطع هذة العلاقة نهائيا .. وفعلت ذلك ورفضت الرد على اتصالات خطيبي السابق .
ومرت ستة أشهر عصيبة في حياتي .. ثم أتيحت لي فرصة السفر لأداء العمرة فسافرت لكي أغسل أحزاني في بيت الله الحرام .. وأديت مناسك العمرة .. ولذت بالبيت العتيق وبكيت طويلا ، ودعوت الله أن يهيئ لي من أمري رشدا ، وفي أحد الأيام كنت أصلي في الحرم وانتهيت من صلاتي وجلست أتأمل الحياة في سكون ، فوجن سيدة الى جواري تقرأ في مصحفها بصوت جميل .. وسمعتها تردد الآية الكريمة " وكان فضل الله عليك عظيما " فوجدت دموعي تسيل رغما عني بغزارة ، والتفتت الي هذة السيدة وجذبتني اليها ، وراحت تربت على ظهري بحنان ، وهي تقرأ لي سورة الضحى الى أن بلغت الاية الكريمة " ولسوف يعطيك ربك فترضى " فخيل الي أنني أسمعها لأول مرة في حياتي ، مع أني قد رددتها مرارا من قبل في صلاتي .. وهدأت نفسي .
وسألتني السيدة الطيبة عن سبب بكائي فرويت لها كل شئ بلا حرج فقالت إن الله قد يجعل بين كل يسرين عسرا ، وإنني الآن في العسر الذي سوف يليه يسر بإذن الله .. وإن ماحدث لي كان فضلا من الله لأن كل بلية نعمة خفية كما يقول العارفون ، وشكرتها بشدة على كلماتها الطيبة ودعوت لها بالستر في الدنيا والآخرة .
وغادرت الحرم عائدة الى فندقي وأنا أحسن حالا ، وانتهت فترة العمرو وجاء موعد الرحيل ، وركبت الطائرة عائدة الى القاهرة فجاءت جلستي الى جوار شاب هادئ الملامح وسمح الوجه ، وتبادلنا كلمات التعارف التقليدية . فوجدتني أستريح إليه واتصل الحديث بيننا طوال الرحلة الى أن وصلنا الى القاهرة ، وانصرف كل منا الى حال سبيله ، وأنهيت إجراءاتي في المطار ، وخرجت فوجدت زوج أقرب صديقاتي اليٌ في صالة الانتظار ، فهنأني بسلامة العودة وسألته عما جاء به للمطار ، فأجابني بأنه في إنتظار صديق عائد على نفس الطائرة التي جئت بها ، ولم تمض لحظات إلا وجاءهذا الصديق ، فإذا به هو نفسه جاري في مقعد الطائرة وتبادلنا التحية ، ثم غادرت المكان بصحبة والدي .
وما أن وصلت الى البيت وبدلت ملابسي واسترحت بعض الوقت حتى وجدت زوج صديقتي يتصل بي ، ويقول لي إن صديقه معجب بي بشدة ، ويرغب في أن يراني في بيت صديقتي في نفس الليلة لأن خير البر عاجله ، ثم يسهب بعد ذلك في مدح صديقه والإشادة بفضائله ، ويقول لي عنه إنه رجل أعمال شاب من أسرة معروفة وعلى خلق ودين ، وريتمنى لي من هو أفضل منه لكى يرشحه للارتباط بي .
وخفق قلبي لهذة المفاجأة غير المتوقعة .. واستشرت أبي فيما قاله زوج صديقتي فشجعني على زيارة صديقتي لعل الله جعل لي فرجا .
وزرت صديقتي ، وزوجها والتقيت بجاري في الطائرة ، واستكملنا التعارف وتبادلنا الإعجاب .. ولم تمض أيام أخرى حتى كان قد تقدم لي .. ولم يمض شهر ونصف الشهر بعد هذا اللقاء حتى كنا قد نزوجنا ، وقلبي يخفق بالأمل في السعادة ، وحديث السيدة الفاضلة في الحرم عن اليسر بعد العسر يتردد في أعماقي .
وبدأت حياتي الزوجية متفائلة وسعيدة ووجدت في زوجي كل ما تمنيته في الرجل الذي أسكن اليه من حب وحنان وكرم وبر بأهله وبأهلي ، غير أن الشهور مضت ولم تظهر أية علامات للحمل ، وشعرت بالقلق خاصة أنني كنت قد تجاوزت الخامسة والثلاثين ، وطلبت من زوجي أن أجري بعض التحاليل والفحوص خوفا من ألا أستطيع الإنجاب ، فضمني الى صدره وقال لي بحنان غامر انه لايهمه من الدنيا سواي .. وأنه ليس مهما الإنجاب ، لأنه لايتحمل صخب الأطفال وعناءهم ، لكنني أصررت على طلبي .. وذهبنا الى طبيب كبير لأمراض النساء ، وطلب مني إجراء بعض التحاليل ، وجاء موعد تسلم نتيجة أول تحليل منها فوجئت به يقول لي إنه لاداعي لإجراء بقيتها لأنه مبروك يامدام .. أنت حامل ! .
فلاتسل عن فرحتي وفرحة زوجي بهذا النبأ السعيد .. وفي ذلك الوقت كان زوجي يستعد للسفر لأداء فريضة الحج ، فطلبت منه أن يصطحبني معه لأداء الفريضة وأداء واجب الشكر لمن أنعم علي بهذة النعم الجليلة ، ورفض زوجي ذلك بشدة وكذلك طبيبي المعالج لأنني في شهور الحمل الأولى .. لكنني أصررت على مطلبي وقلت لهما إن من خلق هذا الجنين في أحشائي على غير توقع قادر على أن يحفظه من كل سؤ ، وأستجاب زوجي لرغبتي بعد استشارة الطبيب ..
وسافرنا للحج وعدت وأنا أفضل مما كنت قبل السفر .
ومضت شهور الحمل في سلام وإن كنت قد عانيت معاناة زائدة بسبب كبر سني ، ثم جاءت اللحظة السحرية المنتظرة وتمت الولادة وبعد أن أفقت دخل على الطبيب وسألني باسما عن نوع المولود الذي تمنيته لنفسي فأجبته بأنني تمنيت من الله مولودا فقط ولايهمني نوعه بل أنني حرصت على عدم معرفة نوعه أو السؤال عنه أثناء الحمل .. ففوجئت بالطبيب يقول لي : إذن مارأيك في أن يكون لديك الحسن والحسين وفاطمة !
ولم أفهم شيئا وسألته عما يقصده بذلك ، فإذا به يقول لي وهو يطالبني بالهدوء والتحكم في أعصابي إن الله سبحانه وتعالى قد منٌ على بثلاثة توائم ، وكان الله سبحانة وتعالى قد أراد لي أن أنجب خلفة العمر كلها دفعة واحدة رحمة منه بي لكبر سني .
وانفجرت في حالة هستيرية من الضحك والبكاء وترديد عبارات الحمد والشكر لله .. وتذكرت سيدة الحرم الشريف والآية الكريمة " ولسوف يعطيك ربك فترضى "
وهتفت ان الحمد لله .. الذي أرضاني وأسبغ على أكثر مما حلمت به من نعمته .
وانني أكتب اليك رسالتي من أحد الشواطئ ، حيث نقضي إجازة سعيدة أنا وزوجي وأطفالي ، ولكي توجه رسالتي هذه الى كل فتاة ، تأخر بها سن الزواج أو سيدة تأخر عنها الإنجاب وتطالبهن بألا يقنطن من رحمة الله .. وألا يقطعن الرجاء في الخالق العظيم ، فلقد كنت أردد دائما دعائي المفضل :
" ربي إن لم أكن أهلا لبلوغ رحمتك ، فرحمتك أهل لأن تبلغني لأنها فد وسعت كل شئ .
دمتم بود
alshoogaa3@hotmail.com