العقل السليم والفكر السليم والفطرة الإنسانية السليمة هي التي لديها قابلية التطوير , ولا سيما في مجال الفنون والآداب . وكل الذين يرفضون التطوير ما هم إلا كسالى مستسلمين للقيود , غير قادرين على التعايش مع حركة الزمن المتجددة .
لهذا يلجأ بعض المتنفذين إلى تعميم شعر الفوضى كشعر المديح بشقيه :
الشق الأول وهو شعر المديح الواضح المباشر المليئ بالكذب والدجل سواء بالنسبة للقارئ والمادح والممدوح .
والشق الثاني وهو شعر مدح الذات , أو الانكفاء النفسي على الذات . فهؤلاء الشعراء لا همّ لهم إلا مدح أنفسهم والتغني بخصالهم الحميدة وسماتهم الفريدة , وكأنهم اكتشفوا أمرًا عظيمًا ذا قيمة فنية . وهؤلاء ليس بمقدورهم تقديم شعر جيد , لهذا نظروا لأنفسهم فعكسوا ما بها من سذاجة .
إننا نعيش في ظروف استثنائية . وفي الظروف الاستثنائية تظهر ( الفقاقيع الصابونية ) التي تطفو على سطح الماء , لتشكل لنا ماهيّة الواقع الهش .
يجب تغيير مفهوم الشعر وطريقته في التعامل مع العالم من حوله ... قد يبدو في هذا الكلام نوعًا من التجديف أو المغامرة أو الحلم ... لكن لا يهمّ ... فكل الاكتشافات الجغرافية الهائلة كانت في بدايتها مغامرة ... وكل الأعمال والاختراعات والانجازات البشرية العظيمة كانت مجرد أحلام تلوح في مخيلة أصحابها... ولا يهمّ أن لا يقتنع بهذا الكلام كل القراء أو بعضهم ... يكفينا القليل بل أقلّ من القليل , فكل الذين قلبوا الموازين كانوا أفرادًا لا جماعات ... والشخص العظيم هو الذي يصنع الأمة العظيمة .
أصحاب الفكر النمطي لن يروق لهم هذا الكلام , ولن يقتنعوا به , لأنهم لا يحبذون التطوّر , وكل شيئ جاء إليهم من الماضي مقدس . وما علينا إلا احترام هذا القادم , والتسليم له , والإذعان بقدسيته الساحقة وسلطانه على النفوس .
أمام هذا التخبط صرنا نتعايش , وبشكل قسري مع نوعين من الشعر ... وهما الشعر المسموع ... والشعر المكتوب .
الشعر المكتوب ... وهو الشعر المقروء ... وهو الأجمل والأصدق والأقوى والأعمق تأثيرًا والأبقى أثرًا .
إنه الشعر القادم إلينا بلا أصباغ ولا مؤثرات صوتية
والشعر المسموع ... وهو الأكثر تداولا ... له تأثيره , وله إدهاشه ... ولكن تأثيره محدود آنيّ , وإدهاشه لا يتعدى حدود طبلة الأذن .
والفرق بين الشعر المسموع والشعر المكتوب ... أن الأول بغية المستهلك بينما الثاني بغية المتابع المتذوق .
نعم ... لقد سقط في اختبار الشعر المسموع شعراء مبدعون ورائعون كسعد الحريّص ومهدي بن سعيد . بينما نجح فيه شعراء أقل موهبة وإبداعًَا . والسبب أن كلا الرجلين ( مهدي وسعد ) لا يجيدان شعر ( الهياط ) واللعب على الجمهور بالصراخ وإثارة الغرائز , بينما نجح في هذا المجال شعراء أقل منهما بكثير , حيث حققوا للجمهور المستهلك ما يريده من وجبات شعرية سريعة ينتهي مفعولها قبل أن يغادر المستمعون القاعة .
إن انتشار مثل هذا النوع من الشعر عائد إلى غياب الوعي والضمير الشعري المسؤول , فلو كانت هناك نخبة من المتنفذين لديهم حس شعري صادق ومسؤولية أخلاقية أدبية لمَا أمكن هؤلاء الشعراء من الظهور .
أمام هذا الركود الشعري المخيف , والضبابية الخانقة , لا بد من الوقوف عدة وقفات حتى نستجلي الموضوع .
1- إن اللوم ينصب على الجمهور , فهو جمهور " سمعي " غير قارئ , معجب بأقزام الشعراء ولا يتحمس لفهد عافت أو مسفر الدوسري أو الحميدي الثقفي أو مساعد الرشيدي إلا من منطلقات قبائلية ليست لها علاقة بالشعر أو احترام تجربة الشاعر وموهبته .
2- إحساس الإعلام الشعبي بالإفلاس , فهو لم يصنع بدر بن عبد المحسن أو مسفر الدوسري على سبيل المثال ... بل هم الذين أعطوا الإعلام الشعبي بطاقة المرور إلى جمهور الشعر الحقيقيين , لهذا ظل يجري وراء البدائل الشابة ويدفعها إلى المقدمة كما كانت تفعل بعض المجلات الشعبية الفاعلة والمتنفذة في هذا المجال , لا من أجل إبراز إبداع شعراء البدائل بل للتأكيد على مدى مقدرتها على تمرير الأشياء الخاطئة .
3- والنقطة الأخيرة تتعلق بالشعراء المبدعين الرائعين , وأن بعضهم وصل درجة الإفلاس أو النضوب الشعري , حيث وصل بعضهم نقطة يصعب تجاوزها أو المحافظة عليها كنايف صقر ومساعد الرشيدي على سبيل المثال لا الحصر, أو لعل بعضهم استنزف موهبته الشعرية كما حدث لنزار قباني في العقدين الأخيرين من حياته , وهذه الحالة واضحة وضوح الشمس مع سليمان المانع الذي ملأ الدنيا وشغل الناس فترة من الزمن ولكنه غاب كنجم تهاوى على سواحل قرية منسية .... فها نحن لم نسمع سليمان المانع يغرد كما عهدناه يفعل .... وكذلك لم نشاهد مساعد الرشيدي ونايف صقر وعمري الرحيل يحلقون منذ زمن كالطيور المهاجرة ... وإلى الآن لا ندري لماذا هجر صالح الظفيري منصة العزف على أوتار الخليل ؟؟!!
.... يجب عليّ أن ألومهم .... ويجب عليهم أن يتحملوا عتابي .... فإذا خلت الساحة منهم ومن أمثالهم ... فلمن تكون ؟؟!!
أمام هذا الركود والعبث المتصاعد , يلزم كل من يملك قلبًا واعيًا وضميرًا حيًّا وذائقة سليمة وقلمًا قادرًا على الحياة والحركة ألا يقف موقف المحايد مما يجري من فوضى وعبث باسم الشعر وأهله .
إن الحياد في مثل هذه الظروف انهزامية ... والانهزامية وجه آخر لخيانة الأمانة والضمير .