.
مقال:
تمخّضت شجرة التفّاح .. فأنجب نيوتن قانون الجاذبية ، وهوى عباس بن فرناس أرضاً فأقلعت الطائرات ، وأبدع البرت سبير في الهندسة المعمارية فغيّر معالمها صديقه هتلر ، وأضاء أديسون الشوارع فدمّرها نوبل بسلام!
وهكذا هي الحياة .. مجرّد فكرة ..
فمن نعم الله عزّوجل على البشرية أن جعل لهم مشيئةً -من بعد مشيئته- في بعض ما خصّهم به ، وهيأ لهم أسباباً تعينهم على عمار الحياة وإستمراريتها وأسند البعض الآخر لمشيته وحده عزّوجل .. فلا يكون للإنسان سلطانٌ عليه ولا أمرا سوى التسليم لأمره .. فالمطر ينزل والشمس تشرق بأمرٍ غيبيّ لا مشيئة للعبد في ذلك وجعل له مشيئة أن يتعرّض لهما أو ان يحمي نفسه منهما .. وجعل للخير والشر مقاديرا لا يعلمها الا هو سبحانه ، ومن ثم جعل للإنسان مشيئة تعلّمهما حتى يتخذ من كل منهاجٍ مسلك (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) .. وكذلك الحال هو مع التفكير فجعل الخواطر في علم الغيب تهجم على النفس تارةً من غير موعد وتسكن في خُلد القلب تارة ومن ثم تصحو من جديد .. فرحمه وجعل له مشيئة الإستطراق بين الإيجابية والسلبية وأذن له أن يصرفها العبد إن شاء أو يقدم عليها إن شاء ..
فالأفكار والخواطر لا تعترف بزمانٍ أو مكان بل هي وقرٌ في القلب ترضخ لمن وعيَ وتقتل من جهل .. وهي لا تقتصر على أمور الدنيا فحسب بل هي أمرُ متعمقٌ في الدين ايضا سواء كان ذلك بالإيجابية وما تورّثه من يقينٍ وتدبرٍ وفقه أو كان ذلك بالسلبية وما تخلّفه من إلحادٍ وشبهةٍ وعُجب! وقد ذكر الله عزّوجل الفكر والتفكر في القرآن في أكثر من موضع وحث عليه وجعله من أعظم أعمال القلوب .. فحين سئلت أم الدرداء ما كان أفضل عمل أبي الدرداء قالت: التفكّر. والتفكر هنا هو تفكراًَ في عظمة الله وآياته وهو الإستطراق الإيجابي الواجب على المسلم .. بينما نجد في الجهة المقابلة قول الله عزّوجل في الوليد بن المغيرة (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) ما يدلّ على سلبية التفكير وأن النهاية غالباً ما تكون بسبب فكرة! ، وكما نعلم أن إبن آدم قتل أخيه من فكرة ومن ثم واراه من فكرة ايضاً ..
لذلك كان لزاماً علينا مراقبة أفكارنا وما تؤول اليه من علمٍ أو عمل فالمقولة العلمية ( الأفكار تصبح أفعالاً ، والأفعال تصبح عادات ، والعادات تصبح طباعا ، والطباع تحدد مسير حياتك ) هي مقولة واقعية 100% إن إستمر الإنسان وفق طريقة تفكيرٍ واحده من غير أن يغيّرها .. وكما هو معروف بأن التغيير يبدأ من الداخل ، وهذا مما لا شك فيه لا يجعلنا نلغي الفكرة تماماً لأن الجوارح مبنية على أمر العقل والقلب وما يركن اليهما من خاطرة ، أضف الى ذلك أن التخلص منها -الفكرة- قد يكون أمراً مذموما ايضاً كما قال مالك ابن دينار ( القلب إذا لم يكن فيه فكرة خرب ) ولكن المهم هو ما تنتجه الفكرة بعد ذلك من إيجابية أو سلبية وذلك لا يكون الا بالعلم المتمثلُ بقيادة النفس لما هو محمود وردعها عن كل مذموم. فرحم الله إمرئٍ تسلّح بالعلم فغلب صراع نفسه .
أخيراً .. لا أجد ختاماً لهذا الموضوع أجمل من قول إبن القيم رحمه الله حين وصف النفس وما يعتريها من خواطر وأفعال بكلامٍ نفيس فقال: (خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى ، ولاتبقى تلك الرحى معطلة قط ، بل لابد لها من شيء يوضع فيها ، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره وأكثرهم يطحن رملاً وحصاً وتبناً ونحو ذلك! فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه!)
تحياتي
.