
فَرَانْسِيس بِيَكُون
يعتبر فرانسيس بيكون Francis Bacon 22 يناير 1561 - 9 أبريل 1626) فيلسوف ورجل دولة وكاتب إنجليزي ، معروف بقيادته للثورة العلمية عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على " الملاحظة والتجريب " . من الرواد الذين إنتبهوا إلى غياب جدوى المنطق الأرسطي الذي يعتمد على القياس.
المنهج التجريبي لدى فرانسيس بيكون: ( لو بدأ الإنسان من المؤكدات انتهى إلى الشك، ولكنه لو اكتفى بالبدء في الشك، لانتهى إلى المؤكدات) فرانسيس بيكون
شهد القرن السابع عشر تغييرات هامة في طريقة تفكير الكثيرين جعلته بمثابة ثورة إلا أنها لم تكن بالغة الأثر وذلك راجع إلى الضغوط القوية المستحدثة التي أثرت على بناء الفكر وتلاحمه، وقد جاءت الضغوط من عدة اتجاهات أهمها الأفكار العلمية التي فجرها جاليليو ونيوتن، عصر النهضة بإعادة إحياء معرفة الشكاك القدامى، عصر الإصلاح الديني الذي تحدى السلطات التقليدية وكذلك الحروب الدينية والثورة الصناعية والتوسع وراء البحار مما كشف الأوروبيين على حضارات أجنبية جديدة.
هذه العوامل أثرت في طريقة التفكير ولم يكن أمام الفلسفة خيار سوى الاستجابة واستيعاب أكثر قدر من الأفكار والمعلومات والحقائق الجديدة. ولهذا الغرض ابتدأت بالشك، لأن التفكير العلمي الفعال يبدأ من الشك لا من الإيمان. ويعتبر بيكون من أوائل الذين دعوا إلى تحرير الفكر والاصطباغ بالروح العلمية في العصور الحديثة في كل أوروبا.
يقول بيكون: إن إفساح المجال أمام الشك له فائدتان، الأولى تكون كالدرع الواقي للفلسفة من الأخطاء والثانية تكون كحافز للاستزادة من المعرفة.
ولد فرانسيس بيكون في مدينة لندن في الثاني والعشرين من شهر يناير من عام 1561، التحق بجامعة كامبريدج ومن ثم رحل إلى فرنسا واشتغل مدة في السفارة الإنجليزية بباريس ثم ما لبث أن عاد إلى وطنه وشغل مستشارا للملكة إليزابيث.
فَلْسَفَة بِيْكُون
يعتبر بيكون هو حلقة الاتصال بين القديم والحديث، وذلك لأنه يرى أن الفلسفة قد ركدت ريحها، واعتراها الخمود في حين أن الفنون الآلية كانت تنمو وتتكامل وتزداد قوة ونشاطا على مر الزمن.أدرك بيكون أن انحطاط الفلسفة يرجع إلى عدة عوامل: خلفت النهضة روحا أدبية جعلت الناس يهتمون بالأساليب والكلمات ويهملون المعاني. اختلاط الدين بالفلسفة، واعتماد الناس في أحكامهم على الأدلة النقلية وأخذهم بأقوال السالفين دو نظر في صحتها من عدمه. لرجال الفلسفة أثر في انحطاط الفلسفة، إذ خرجوا بها عن موضوعها واعتمدوا فيها على الثرثرة الكاذبة. تعصب الناس وتمسكهم بالعادات القديمة والعقائد الموروثة. عدم التثبت في دراسة الأمثلة والطفرة في الوصول إلى نتائج.
وقد أدرك بيكون بأن العيب الأساسي في طريقة التفكير لدى فلاسفة اليونان والعصور الوسطى إذ ساد الاعتقاد بأن العقل النظري وحده كفيل بالوصول إلى العلم، ورأى أن الداء كله يكمن في طرق الاستنتاج القديم التي لا يمكن أن تؤدي إلى حقائق جديدة، فالنتيجة متضمنة في المقدمات. فثار ضد تراث أفلاطون وأرسطو بأسره وظهر له بأن الفلسفة المدرسية شيء مليء بالثرثرة، غير واقعي وممل للغاية، كما أنها لم تؤد إلى نتائج، وليس هناك أمل في تقدم العلوم خطوة واحدة إلا باستخدام طريقة جديدة تؤدى إلى الكشف عن الجديد وتساعد على الابتكار لما فيه خير الإنسانية. وقد حمل الفلسفة التقليدية وزر الجمود العلمي والقحط العقلي ويستغرب عجزها عن الإسهام الفاعل في رفاهية الإنسان وتقدمه وسعادته. وقد اعتقد بيكون أنه قد وجد الطريقة الصحيحة في الصيغة الجديدة التي وضعها للاستقراء، ويقصد به منهج استخراج القاعدة العامة (النظرية العلمية) أو القانون العلمي من مفردات الوقائع استنادا إلى الملاحظة والتجربة.
أَهَمِّيَّة الْعِلْم عِنْد بِيْكُون
آمن بيكون إيمانا مطلقا بالعلم وبقدرته على تحسين أحوال البشر فجعل العلم أداة في يد الإنسان، تعينه على فهم الطبيعة وبالتالي السيطرة عليها. يؤمن بيكون بأنه كانت للإنسان سيادة على المخلوقات جميعا ثم أدى فساد العلم إلى فقدان هذه السيطرة ومن هنا كانت غايته مساعدة الإنسان على استعادة سيطرته على العالم.أراد بيكون أن يعلم الإنسان كيف ينظر إلى الطبيعة، فالأشياء تظهر لنا أولا في الضباب وما نسميه في أغلب الأحيان مبادئ هو مجرد مخططات عملية تحجب عنا حقيقة الأشياء وعمقها.ورأى أنه يجب أن تكون للإنسان عقلية عملية جديدة، يكون سبيلها المنهج الاستقرائي الذي يكون الهدف منه ليس الحكمة أو القضايا النظرية بل الأعمال، والاستفادة من إدراك الحقائق والنظريات بالنهوض في حياة الإنسان وهذا ما عبر عنه بقوله: "المعرفة هي القوة". ففلسفته محاولة لكشف القيم الجديدة التي تتضمن الحضارة العلمية الحديثة في أول عهودها، واستخلاص المضمونات الفكرية لعصر الكشوف العلمية والجغرافية والتعبير بصورة عقلية عن التغيير الذي تستلزمه النظرة الجديدة إلى الحياة تتجلى فكرة بيكون في مقولته بأن المعرفة ينبغى أن تثمر في أعمال وان العلم ينبغي أن يكون قابلا للتطبيق في الصناعة، وأن على الناس أن يرتبوا أمورهم بحيث يجعلون من تحسين ظروف الحياة وتغييرها واجبا مقدسا عليهم.التجديد الذي قدمه بيكون هو قدرته على أن يثمر أعمالا.. فالعلم في رأيه هو ذلك الذي يمكن أن يثمر أعمالا ويؤدي إلى تغيير حقيقي في حياة الناس. وهذا يعني أن العلم الذي يُدرس في معاهد العلم الموجودة ليس علما، وأنه لا بد من حدوث ثورة شاملة في نظرة الناس إلى العلم، والى وظيفته والى طريقة تحصيله. وهكذا اتجهت دعوة بيكون إلى القيام بأنواع جديدة من الدراسات العلمية التي ترتبط بحياة الإنسان ارتباطا وثيقا، بحيث يكون هذا العلم أساسا متينا تبنى عليه الفلسفة الجديدة بدلا من الأساس الواهي القديم وهو التجريدات اللفظية الخاوية وقد صنف بيكون العلوم وكان هدفه منها ترتيب العلوم القائمة وخاصة الدالة على العلوم التي ينبغي أن توجد في المستقبل وهو يرتبها بحسب قوانا الإدراكية ويحصرها في ثلاث:
•الذاكرة وموضوعها التاريخ.
•المخيلة وموضوعها الشعر.
•العقل وموضوعه الفلسفة.
الْمَنْهَج الْجَدِيْد
كان بيكون يرى أن المعرفة تبدأ بالتجربة الحسية التي تعمل على إثرائها بالملاحظات الدقيقة والتجارب العملية، ثم يأتي دور استخراج النتائج منها بحذر وعلى مهل ولا يكفي عدد قليل من الملاحظات لإصدار الأحكام، وكذلك عدم الاكتفاء بدراسة الأمثلة المتشابهة بل تجب دراسة الشواذ من الأمور الجوهرية في الوصول إلى قانون عام موثوق به يقول بيكون: إن الاستنباط الذي يقوم على استقراء أمثلة من طراز واحد لا يعتد به وإنما هو ضرب من التخمين، وما الذي يدلنا على استقصاء البحث وعموم القانون وقد تكون هناك أمثلة لا تشترك مع البقية في الخصائص، وهذه لا بد من دراستها؟ وقد دفع به هذا الموقف إلى نقد المدرسيين والقدماء لاكتفائهم بالتأمل النظري حول الطبيعة دون أن يعنوا بملاحظة ظواهرها. ومن ثم فإن الفلسفة الحقة – في نظره- يجب أن تقوم على أساس من العلم وتستمد نتائجه القائمة على الملاحظة والتجربة. فيجب على العلم الطبيعي إذن احترام الواقع الحسي إلى جانب الذهن في تخطيطه للطبيعة. وهذه هي أسس النظرية المنطقية الجديدة، التي استند إليها بيكون في دعوته إلى ضرورة إصلاح المنطق الصوري الأرسطي وتعديله والاستعاضة عنه بمنطق جديد يمهد السبيل أمام الإنسان لكي يستطيع بواسطته الكشف عن ظواهر الطبيعة والسيطرة عليها، أي انه يريد استبدال منهج البرهان القياسي بمنهج الكشف الاستقرائي.يرى بيكون أنه إذا أردنا الوصول إلى الهدف المنشود فلا بد من مراعاة شرطين أساسيين وهما:
•شرط ذاتي يتمثل في تطهير العقل من كل الأحكام السابقة والأوهام والأخطاء التي انحدرت إليه من الاجيال السالفة
•شرط موضوعي ويتمثل في رد العلوم إلى الخبرة والتجربة وهذا يتطلب معرفة المنهج القويم للفكر والبحث، وهو ليس إلا منهج الاستقراء.وليس المنهج هدفا في حد ذاته بل وسيلة للوصول إلى المعرفة العلمية الصحيحة، إذ أنه - كما يقول بيكون - بمثابة من يقوم بإشعال الشمعة أولا ثم بضوء هذه الشمعة ينكشف لنا الطريق الذي علينا أن نسلكه حتى النهاية.
قواعد منهج الاستقراء
•جمع الأمثلة قدر المستطاع.
•تنظيم الأمثلة وتبويبها وتحليلها وإبعاد ما يظهر منها انه ليس له بالظاهرة المبحوثة علاقة عله ومعلول.
وهكذا يصل إلى صورة الظاهرة والتي تعني عند بيكون: قانونها أساس طريقة الاستقراء لدى بيكون هي أن يتجرد الإنسان من عقائده وآرائه الخاصة، ويطرق باب البحث مستقلا، ويتلمس الحكمة أنى وجدها ويتذرع بجميل الصبر وطول الأناة حتى يأمن العثار. ويتمثل في الكشف عن المنهج العلمي القويم وتطبيقه وإخضاع كل قول مهما كان مصدره للملاحظة والتجربة، فالإنسان لن يستطيع أن يفهم الطبيعة ويتصدى لتفسير ظواهرها إلا بملاحظة أحداثها بحواسه وفكره
فَرَانْسِيس بِيَكُون ابْن الْقَرْن الْخَامِس عَشَر وَضْع مَنْهَج الْمَنْطِق الْعِلْمِي الْحَدِيْث
عصر التغييرات إن المعرفة التجريبية هي عصب الحضارة الغربية، فهي التي أدت إلى نشوء العلوم التطبيقية والى توالي الاختراعات والاكتشافات الهائلة التي لا تزال تتسع حتى الآن، ولكن الغرب لم يصل الى هذا النوع من المعرفة الا بعد صراعات عنيفة متنوعة، سواء كانت هذه اجتماعية أو دينية أو فلسفية.
ومن أوائل الذين وضعوا أسس هذا النوع الجديد من المعرفة فرانسيس بيكون الذي كون الأسس العامة لفلسفته في نهاية القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر، أي في تلك الفترة الخطيرة من التحولات الدينية والفلسفية التي شهدتها أوروبا، فلقد كان هناك ديكارت في فرنسا وجاليليو في ايطاليا، الى جانب الانفصال الديني في انجلترا عن كنيسة روما وما تبع ذلك من تغييرات اجتماعية واقتصادية.
كانت أوروبا في حاجة الى رؤية جديدة تساعدها على مواجهة التحولات الجغرافية والروحية والعقلية التي نشأت عن اختراع الطباعة والبوصلة واستخدام البارود، فقد مكنت الطباعة رجل الشارع العادي من قراءة تلك الكتب التي كانت قاصرة على رجال الأديرة والرهبان وحكراً غالي الثمن. كما مكنت البوصلة الملاحين من اكتشاف العالم والوصول الى العالم الجديد. وغير البارود التشكيلات العامة للجيوش فوجدت لأول مرة الجيوش العامة التي تختلف اختلافاً كلياً عن ذلك النوع من الجيوش الذي قادت به أوروبا حروبها الصليبية وانتهت بها الى هزائم عديدة، ورغم ذلك ظلت الفلسفة كما هي تدور في فلك ارسطو والمدرسيين، أي الذين اصطلح على تسميتهم بالكلاسيكيين، وهي ما تعنيه كلمة الكلاسيكية حرفياً.
العصر الذي ولد فيه في هذا الجو الخطير ولد فرانسيس بيكون في مطلع عام 1561 وساعدته ظروفه الخاصة على ان يكون قريباً من الاحداث السياسية وما لازمها من انعكاسات فكرية. كان أبوه السير نيكولاس بيكون احد الوزراء في بلاط الملكة اليزابيث الأولى وحامل اختامها الملكية، وكانت أمه ابنة السير انتوني كوك تجيد اللاتينية واليونانية القديمة الى جانب معرفتها الجيدة للغة الفرنسية، لذلك كان طبيعياً ان يتلقى الصبي الصغير تعليمه المبكر في كلية ترينتي الشهيرة بجامعة كامبردج، وقد تعرف في سن مبكرة جداً على أرسطو وبقية اعلام الفلسفة اليونانية الى جانب لاهوت توماس الاكويني. ورغم انه درس بعد ذلك القانون الا ان الفلسفة لم تغادر ذهنه قط.
وليس هناك ما يشير في حياة بيكون إلى انه توفر على كتابة الفلسفة بشكل منقطع رغم انه احدث اخطر اثر فيها حتى ذلك الزمن. والسبب في عدم التفرغ لها هو انشغاله المستمر بالمسائل العامة وحرصه الدائم على تقلد مناصب مهمة، الأمر الذي أوقعه في كثير من المشاكل وجعل منه شخصية يحيط بها كثير من اللغط والخصومة، بل انه يعتبر من اكثر الشخصيات الانجليزية اثارة للاشكالات حوله، رغم اعتراف الدوائر الثقافية بعد ذلك بأهميته وفضله على المؤسسات التعليمية وحركة الفكر في انجلترا.
المتاعب وقد بدأت متاعبه منذ أن كان لا يزال طالباً وقد مات ابوه فاضطر الى الاستدانة لكي يعلم نفسه، وقد لازمته عادة الاستدانة هذه طوال حياته حتى أوقعته في مشكلات عديدة بعد ذلك. وبعد ان انهى دراسته ظل قريباً من القصر عن طريق ايرل اسكس الذي كان صديق الملكة اليزابيث الأولى في أواخر عمرها، وقد ساعده هذا النبيل الانجليزي الشاب على امتلاك مزرعة صغيرة تؤتيه ايراداً يسد حاجياته، الا انه عندما تعقدت ظروف ايرل اسكس في القصر واتهم بخيانة الملكة، كان بيكون من بين الذين شهدوا ضده واثبتوا الخيانة عليه، الأمر الذي أدى الى اعدامه، وقد أوغر هذا التصرف نفوس الكثيرين من حوله حتى ان الملكة نفسها لم تقلده أي منصب، كما أنها توفيت بعد ذلك بعامين وخلفها في العرش الملك جيمس الأول.
الوضع الجديد لم يضيع بيكون وقتاً كثيراً في الاتصال ببلاط الملك جيمس مبدياً استعداده للعمل فيه، فعين بالفعل بعد فترة في منصب المحامي العام ثم اصبح بعد ذلك مستشار الملك الخاص ثم كبير المستشارين ثم انعم عليه بلقب لورد ثم لقب فايكاونت. وكان هذا كافياً لكي يرضى بوضعه وان يبدأ حياة الاستقرار، الا انه اتهم بالرشوة من قبل المتهمين قبل تقديمهم الى المحاكمة. وكان لهذا الاتهام صدى خطير لدى كل من البلاط والشعب، فأنكر، ولكن خصومه شددوا الخناق عليه فاعترف، وبرر قبوله الرشوة لدى الدفاع عن نفسه بأن هذه الرشاوى لم تؤثر في احكامه على المتهمين، ولما كان لورداً فإن مجلس اللوردات هو الذي حاكمه وأصدر حكمه عليه بتغريمه ما مقداره 40 ألف جنيه وايداعه السجن في برج لندن حتى يأمر الملك بالافراج عنه. ولقد أفرج الملك عنه بالفعل بعد ايام قلائل وأعفاه من دفع الغرامة ولكنه حرم عليه تولي أي منصب عام أو دخول مجلس اللوردات.
لقد كان الملك يعرف حقيقة افكار بيكون وأهميتها، فقد ظل في خدمته حتى تلك الحادثة قرابة عشرين عاماً كان في جزء منها كبير مستشاريه، وكان الملك نفسه مهتماً بالعلوم ويعرف ان ما يدعو اليه بيكون سيزيد من قوة انجلترا ويدعم مركزها في صراعها ضد ايطاليا واسبانيا، هذا رغم ان التغييرات التي كان يدعو إليها بيكون لم تؤت ثمارها الحقيقية الا بعد ذلك بعقود طويلة، ولكن بُعد نظر هذا الملك بالذات هو الذي أنقذ بيكون من مصير تعس داخل برج لندن، ولكن بيكون اخذ يكتب ما استطاع ان يدونه من افكاره في ما تبقى له من عمر. وكان من بين المشروعات التي سعى بيكون الى تحقيقها عن طريق الملك انشاء مكتبة المتحف البريطاني على اساسها، وانشاء جمعية ترعى تقدم العلوم وتحتضن العلماء، وهي الجمعية الملكية التي أنشئت بعد وفاته وكان لها أثر كبير في تقدم العلم في انجلترا.
فَرَانْسِيس بِيَكُون .. أَحْلَامِه سَبَقَت عَصْرِه
قال عن أرسطو وأفلاطون: عجوزان عاطلان يقدمان الفلسفة إلى شبان جاهلين
كان فرانسيس بيكون سابقا لعصره في كل ما فكر فيه. فقد دعا الى اقامة حديقة تحتوي على كل النباتات في العالم، وتوجد مثيلتها الآن في (كيو جاردنز) جنوب غرب لندن. كما طالب ان يحتضن الملك مشروعا يهدف الى تأليف دائرة معارف (انسكلوبيديا) للعلوم. ولعل من اخطر ما دعا فرانسيس بيكون الملك اليه هو تغيير مناهج التعليم في الجامعات والمدارس، بحيث تقدم المعرفة من خلال نظرته الفلسفية التجريبية الطبيعية الجديدة.
وثمة نوعية اخرى من الافكار كانت تشغل بال بيكون واستطاع ان يتوصل اليها، وكان الملك على دراية بها، وهي افكار تقترب من الاحلام الممكنة، وكلها ترتبط بدعوته الى تغيير العلم وجعله تجريبيا، منها تأكيده او حلمه بأن العلم قادر ان يحقق المطر الصناعي والتبريد الصناعي وتوليد فصائل جديدة من الحيوانات والنباتات عن طريق التلقيح، ومنها توضيحه انه من الممكن اختراع سفن تسير تحت الماء وسفن اخرى تطير في الهواء. وما من شك ان مثل هذه الافكار والاحلام كانت تجلب عليه النقمة من اعدائه لذلك لم يتحقق شيء من هذه المشاريع في حياته، ورغم عطف الملك عليه فإن الصراع حول شخصيته كان يمنع الملك من وضعها موضع التنفيذ في حينها.
لقد مرت الآن اكثر من اربعة قرون على افكار بيكون واحلامه هذه، وقد تحققت كلها، بل ان عالم العلوم والاختراعات قد فاقها بكثير الا ان البداية كانت بسببه هو، والثورة الصناعية التي حدثت في انجلترا بعد ذلك بأكثر من قرن (عام 1760) كانت تسير حسب تخيلاته وهي ما كانت لتحدث لولا التفجير الفكري الذي احدثه هو. فمن اين جاءت لبيكون تصوراته هذه؟
الحقيقة ان قصر معنى التصور على مجهوده الفكري يحدث خللا شديدا في ادراك اعماقه. ان سجاله الحقيقي هو الفلسفة والمنطق بالذات. ولقد خلف وراءه 12 مؤلفا ما زالت جميعها حتى الآن محل دراسات متصلة من الدوائر الاكاديمية في انجلترا والولايات المتحدة. وثمة صفات عامة تجمع مؤلفاته هذه، أولى هذه الصفات انها تبدو للوهلة الاولى كأنها افكار مجتزأة ومبعثرة لا يربطها رابط، وثانيها انها تبدو مشاريع موضوعات كبرى لم تتح له الفرصة لانجازها، وثالثها انها تتميز بالهجوم الشديد على من سبقه، ثم بناء صورة جديدة تحل محلها، اي انها نقدية وبنائية في ذات الوقت.
وَمَاذَا عَن مُؤَلَّفَاتِه؟
اطلق بيكون على اول مؤلفاته اسم «المقالات»، وكان كتيبا صغيرا يحتوي على عشر مقالات فقط وظهر في سنة 1597، ثم اعاد طبعه مرتين بعد ذلك بسنوات عديدة كان آخرها عام 1725ـ قبل موته بعام واحد ـ بعدما اضاف اليه مقالات عديدة. ولكن اهم مؤلفاته هي (النوفام او رجانوم)، اي الاداة الجديدة، وهو يعني اداة المنطق الجديدة. والحقيقة ان هذا الكتاب جزء من كتاب آخر عنوانه (الاصلاح الكبير) وكان المفروض ان يتضمن ستة اجزاء، الأول هو تقسيم العلوم، وقد ضمنه كتابا سابقا له باسم (تقدم المعرفة)، والثاني هو (الأورجانون الجديد) الذي ظهر تحت عنوان ثانوي هو (اتجاهات حول تفسير الطبيعة)، اما الجزء الثالث فهو ظاهرة الكون او الطبيعة والتاريخ التجريبي لأساس الفلسفة، والرابع هو (سلم الادراك)، والخامس هو (مقدمات الفلسفة الجديدة) والسادس هو (العلم الايجابي ). وكان واضحا من هذا التقسيم ان بيكون يطمح الى تأليف دائرة معارف شاملة تقدم فلسفة جديدة وتوجيها جديدا للعلوم. واغلب هذه الفصول لم يُكتب، الامر الذي جعل الفصل الثاني يصبح كتابا مستقلا وهو يعتبر الآن المصدر الاكمل لدراسة منهجه، فإذا ذُكر بيكون ذُكر «الاورجانون الجديد» معه، او العكس، بالاضافة الى ان كثيرا من افكاره المهمة موجودة ايضا في كتابه (اقلانتيس الجديدة).
نقد الفلسفة الإغريقية الواقع ان بيكون بدأ بنقد الفلسفة الاغريقية، واوضح انها ساعدت في البداية على تكوين العلوم، اذ ركزت على ضرورة ان يطلب العلم لذاته. وهكذا انحصرت العلوم في حدود البحث النظري، وسيطرت المفاهيم النظرية على اوروبا الى درجة نشأ معها اتجاه مجافاة العلوم العملية. الامر الذي احال الفلسفة الى معرفة كلامية ولفظية. وصاحب ذلك استهجان كل ما هو تجريبي يتصل اتصالا مباشرا بالوجود المادي، حتى وصل الامر الى جعل المعرفة عن طريق القياس النظري هي المعرفة دون غيرها. واعتبر بيكون هذا عيبا رئيسيا اخل بالحياة الاوروبية وبالعلوم في العالم. ثم اتهم كلا من ارسطو وافلاطون عندما انشآ مدرستيهما لتعليم الفلسفة بأنهما ليسا اكثر من عجوزين عاطلين يقدمان الفلسفة الى شبان جاهلين. ووصف الفلسفة الاغريقية بأنها صادرة من اطفال يميلون الى الكلام ويعجزون عن الابتكار والتجريب. وكانت هذه جرأة خطيرة في ذلك الوقت، اذ كان ارسطو يعتبر العمود الاساس في كل الجامعات والمؤسسات الدينية في انجلترا، وكان التهجم على ارسطو يشابه التهجم على الكنيسة ذاتها، الا انه لم يلق مصير الذين هاجموا ارسطو من قبل بسبب ان انجلترا ذاتها كانت قد انفصلت عن كنيسة روما التي كانت لا تزال تعتبر ارسطو هو المعلم الاول.
كما هاجم بيكون بعض الفلاسفة الكلاسيكيين الذين نشأوا في الاديرة واعتبرهم مجرد سجناء في زنزانات الاديرة والكتب التقليدية القديمة مع عجزهم الشديد عن فهم العلوم وعن فهم الطبيعة ذاتها التي خلقها الله، وهم الذين يدّعون انهم وهبوا حياتهم لعبادته مع ان مظاهره في الطبيعة اقوى واظهر مما هي في الكتب القديمة القليلة التي يحفظونها عن ظهر قلب.
فَرَنْسِيَّس بِيْكُون.. هَل هُو الَّذِي كُتِب لِشِكِسْبِير مَسْرَحِيَاتِه؟
شخصية مثيرة للجدل واسمه قفز إلى مقدمة الأحداث الأدبية رغم مرور أربعة قرون على وفاته بدأ فرانسيس بيكون يدعو الى ايجاد منهج جديد في البحث والاستقراء لاسترداد سيطرة الانسان على الطبيعة، وان ذلك لا يتم الا بإطاعة قوانين الطبيعة ذاتها ومعرفتها.
واخذ يؤكد هذا المعنى الذي يدعو اليه قائلا: «اذا اصبحت الارض كلها ملأى بالمدارس والكليات والجامعات فإنه لن يتحقق اي تقدم في العلوم من دون دراسة للتاريخ الطبيعي ومن دون منهج تجريبي».
وقد وصل به حماسه لضرورة التجريب وان المعرفة العلمية لن تتحقق الا بالمعرفة العلمية عن طريق الحس والتحليل العقلي، الى اعتقاده ان مهمة العلوم ستتحقق في سنوات قليلة، سيكون في امكان البشر بعدها ان يعرفوا كل ما يسعون الى معرفته وما يتوجب عليهم معرفته، وربما كان الدافع وراء حماسه هذا هو تشجيع معاصريه على تقبل افكاره الجديدة.
على ان الاركانون يعطي اهمية قصوى للمنطق، وذلك لكي يوضح الفرق بين رؤياه وبين ارسطو فهو يكشف اولا عن ضعف المنطق الارسطوطاليسي ويهاجم القياس الذي يرى فيه مجرد تثبيت لحقيقة مستبقة سلفا في مقولة مسبقة، ويرى ان هذا المنطق ادى الى تدهور العلوم ومن ثم اخذ يحدد خطى مذهبه الجديد، وهو في جوهره منطق التحليل العلمي المعاصر، ويدافع عن منهجه باعتباره ليس تصحيحا للمناهج السابقة وانما هو نفي لها ومنح العقل الانساني قدرات جديدة لتوسيع آفاقه وتمكينه من الوصول الى الحقيقة في كل جزئية يقوم بدراستها.
عالم جديد: كان بيكون يرى ان كولومبوس باكتشافه قارة العالم الجديد قد فتح آفاقا جديدة للعالم المادي وانه من المخجل ان تظل حدود العالم الفكري مغلقة وضيقة. لذلك فهو يرى ان المنهج التحليلي التجريبي الذي يدعو اليه لا يجب حصره في العلم الطبيعي فحسب بل يجب اتباعه في دراسة العلوم الاخرى، وان ذلك من شأنه ان يساعد على التركيب بمعنى الابتكار الذي ينشأ بعد معرفة الاكتشاف.
وقال ان الانسان اسير اوهام عديدة، هي احساسه بأن المعرفة عن طريق الحواس ناقصة، وانه ككائن بشري يشتمل على نقص في طبيعته البشرية، وانه اسير الالفاظ العامة المبهمة المعاني، واسير ثقافاته القديمة، ثم اوضح بعد ذلك ان هذه الاوهام لا يقتصر وجودها في ذهن الانسان العادي فحسب بل هي متوفرة عند الفلاسفة انفسهم، وفي مختلف المدارس الفكرية منذ ايام الاغريق حتى زمانه هو. وقدم دراسة موحية حول هؤلاء الفلاسفة الذين تنطوي نظرياتهم على وهم من هذه الاوهام او كلها.
وخلص من ذلك الى ضرورة ان يتجاوز الذهن الانساني ذاته، وان يتملك وسائل جديدة تساعده على ادراك بطلان اوهامه هذه، وان يقبل على العلوم بعقل بريء صاف خال من اي مفهومات قديمة كأنه عقل طفل لم تشوهه معلومات خاطئة مسبقة.
ثم اخذ بعد ذلك في تبيين حدود فهمه للاستقراء مخالفا بذلك مفهوم ارسطو في الاستقراء الذي رغم انه ذكره الا انه لم يطوره وبدا عليه ـ ارسطو ـ انه لم يفهم حدود هذه الملكة الرئيسية في فهم الحقيقة.
ومهما يكن من امر فإن (بيكون) وضع الأساس الأولي للمنطق العلمي الحديث الذي توسعت الآن استخداماته الى كل انواع العلوم بما في ذلك العلوم الانسانية التي لا تخضع للتجريب، وقد كان من الممكن ان يقدم بيكون تطورات اشمل لمنهجه لو انه توفر على صياغتها الصياغة الكاملة التي خطط لها، ولكن انشغاله بالمشاكل العامة والمناصب التي تولاها جعل تفرغه لعمله الحقيقي قليلا ومحصورا. وقد استطاع رغم ذلك ان يقدم على مغامرته الخطيرة في تغيير مناص التفكير في عصره، فإن هذا لم يمنعه من الوقوف موقفا خاطئا من بعض اكتشافات عصره مثل عدم ادراكه لكوبرنيكوس وجاليليو، رغم ان هذين العالمين بالذات قد حققا عمليا ما كان يدعو اليه هو، وربما كان تقصيره هذا بسبب انشغالاته العامة تلك. ورغم تقصيره هذا فإنه مات في يوم كان يحاول فيه عمليا ان يثبت صحة منهجه، كان يوما باردا شديد البرودة، فوجد في برودته فرصة لاثبات ان البرد او الثلج قادر على منع التعفن فأصيب بالتهاب رئوي حاد ألزمه السرير عدة ايام مات بعدها وكان في الخامسة والستين من عمره، وقد خلف وراءه منهجا ساعد الاجيال التي أتت من بعده على تخطي كل حواجز الجهل والانطلاق الى عالم المعرفة الحقيقية.
شكسبير ورغم مرور اكثر من اربعة قرون على وفاته، الا ان اسمه عاد وقفز الى مقدمة الاحداث الادبية عند تنبه عدد من النقاد الى التشابه الشديد بين لغته ولغة شكسبير، وسرعان ما تطور هذا التشابه الى ان اصبح بعد ذلك نظرية يطلق عليها اسم (النظرية البيكونية) وهي تقوم على فكرتين اساسيتين:
الأولى: هي وجود قرائن داخلية تشير الى ان الكاتب لهذه المسرحيات كان هو بيكون وليس شكسبير، والقرائن الداخلية هذه هي المفردات اللغوية المستخدمة في المسرحيات ونوعية المعرفة المنتشرة فيها.
والفكرة الثانية: هي القرائن الخارجية التي تدور حول ذلك الغموض الشديد الذي يكتنف حياة شكسبير، وتجعل الافتراض أميل الى نسبة المسرحيات الى بيكون. إلا أن هذه المعركة الادبية لم تحسم لصعوبة الحسم فيها من ناحية، وعدم وجود دليل تاريخي واضح يفصل فيها.
الْخُلَاصَة:
لقد كانت شخصية بيكون من اكثر الشخصيات مدعاة للاختلاف، ولم تتوقف هذه الحال حتى بعد موته، فهو رغم اهميته في تاريخ الفلسفة العلمية، ظلت تهمة الحاقه الاذى بزميله وصديقه إيرل أوف إسكس لصيقة به طوال حياته وساعدت في ما بعد على تنشيط الاتهام ضده حول ارتشائه من المتقاضين والمتهمين، فإذا صحت العلاقة بينه وبين شكسبير حتى التطابق بين الشخصيتين فهو يمكن الحاق كل هذا بشكسبير. من اجل ذلك فإن الدراسات الاكاديمية ما زالت باقية على الفصل بينهما رغم اهمية كل من القرائن الداخلية والخارجية معا
:
جمع من عدة مصادر
شخصية رائعة جدا جدا .. أنصحكم بقراءة جميع ما سبق ..
