[[ ثالوث المعرفة ]]
المعارفُ نِتاجُ تأملاتٍ عقلية ، و العقلياتُ محلٌّ للنظرِ و التمحيصِ لأنها مبنية على الفهم الذي أنتجه فكرُ العقلِ ، و التمحيصُ للمعقولاتِ يفتحُ آفاقاً في النظرِ و الفكرِ ، و تلك وظيفة العقلِ و صنْعتُه .
إنَّ كلَّ معرفةٍ تمرُّ بمراحلَ ثلاث لتتكوَّن و تنضُجَ ، و تغدو المرحلة الثالثةُ نقطةَ بَدءٍ لبَدءِ ثالوثٍ جديد ، مما يُعطي إشارةً إلى ابتناء المعارفِ بعضها على بعضِ ، و أنَّ المعارفَ حلقاتٌ مُستحكِمةٌ في سلسلةٍ طويلة .
المرحلة الأولى : الطرْح .
مرحلةُ الطرْح هي المرحلة الأولى التي يكون فيها إظهار المعارفِ للوجودِ الخارجي بعد أن أُوْجدتْ في الوجود الذهني ، و تقتضي هذه المرحلةُ جُرأةً في الطرح ، و برهاناً في تقريرها إذا ما كان صاحبها راغباً في انتشارها و اعتبارها ، و لا يكون ذلك إلا من صادقٍ في اعتقاد صحة المعرفة .
إنَّ المعرفةَ التي لا يثِقُ صاحبها بها و لا يؤمن بصحتها معرفةٌ ساقطة لا قيمةَ لها في نفسِه ، و من ثمَّ لن يسعى لطرحها في الساحةِ المعرفية ، في حينِ أنَّ أصحابَ المعارفِ الواثقين بمدى صحة معارفهم و نظرياتهم المعرفية يطرحونها بقوةٍ في ساحاتِ المعارف ، و يُقيمون الدلائل و البراهين التي تؤيد نظرياتهم ، فالمعارفُ لا تُقام هياكلها إلا بدعائم الدلائل و البراهين .
و هذا ما يلزم المعرفة الحديثةَ في الوجودِ ليكون طرحها محلَّ نظرِ أصحاب العقولِ و تحت رقابة التمحيصِ لها .
عندما يحدثُ طرْحُ المعارفِ و إقامة البراهين المؤيدة لها من قِبَلِ أصحابها يقفُ الناسُ منها موقفين :
الأول : موقف الموافقُ ، و هذا النوعُ من الناسِ قد يكون مقتنعاً بالبراهينِ المؤيدة لصحة المعرفة فتكون موافقتهم عن علم و معرفة ، و قد يكون مقتنعاً بأصحابها فيكون قبوله تقليداً ، و المقلِّدُ بلا حجةٍ لا يُعتبَر شيئاً .
الثاني : موقف المخالف ، فلا يكون راضياً بالمعرفةِ المطروحة ، و يكون به الانتقالُ إلى :
المرحلة الثانية : النقض .
ليست كلُّ معرفةٍ تنالُ القبولَ عند أربابِ العقولِ ، فإن الفهوم تختلف ، و قد يُدركُ البعضُ في معرفةٍ ما لم يُدركه الآخر ، و قد يفهم صاحبُ المعرفةِ الجديدة فهماً معكوساً أو منكوساً فيكون النقضُ من باب التصحيحِ و التصويب .
إلا أنَّ النقضَ للمعارفِ لا يكونُ إلا بما كان مِنْ حالِ بَدْءِ طرْحها ، من حيثُ البرْهنةُ على النقضِ ، و بيانِ محلِّ الخللِ و الزللِ ، و توضيُ وجهِ الاعتراضِ ، مع ملاحظةِ أدبِ المناقضةِ .
أما أن يكون النقضُ مِن أجلِ النقضِ ليس إلا دون مراعاةٍ لأصولٍ و آدابٍ فهو من خبلِ العقول و هوى النفوس ، و العقلاءُ في صرْفٍ لأنفسهم عن هذا الشأن ، و لا يسلكُ نقض المعارفِ بالهوى إلا من ليس له في المعارفِ طرفاً فيُحاكي البُزلُ صولةَ الأسد .
مرحلةُ النقضِ مُثْرِيَةٌ المعارفَ بتوسيعِ دائرتها ، و تفتحُ أبواباً في التحقيق المعرفي ، و ترسم مناهجَ المناظراتِ و المجادلاتِ المعرفية على قانونها الصحيح .
تُفضي مرحلةُ النقضِ إلى موقفين :
الأول : موقف الموافقة ، و غالبُ الموافقين يندفعون إلى قبول النقضِ بدافع العاطفةِ ، لذا فيُكثرون من الترويجِ للنقضِ و تعليتِه ، و لا يرتفعُ نقضٌ بعامةٍ إلا كان ضائعاً ، فموافقةُ النقضِ ليست محمدةً ، لأنَّ الموافقة كلٌّ يُحسنها ، و لا تظهرُ الحقائق إلا عند الاعتراضِ .
الثاني : موقف الاعتراض ، و هو على حالتين :
الأولى : الاعتراضَ الكُلِّي ، فلا يُمكنُ في حالٍ التوصُّلُ إلى شيءٍ يجمعُ بين الطرحِ و النقضِ ، فيبقى الحالُ على هاتين المرحلتين .
الثانية : الاعتراض الجزئي ، فيُمكنُ أن يُوجدَ توفيقٌ يَصِلُ بين الطرحِ و النقضِ ، و هذا ما تعنيه :
المرحلة الثالثة : الجمع .مرحلة الجمعِ بين الطرح و النقضِ تتلخصُ في إيجادِ نقطةٍ تتفق عليها المرحلتان ، و هذه النقطة فيها إعمالٌ لصوابِ المرحلتينِ و إهمالٌ لخطئهما ، و هذه ميزةُ عالية في مرحلة الجمعِ ، لأنَّ إهمالَ المعارفِ من تعطيلِ العقولِ .
هذه المرحلةُ تُلزمُ الخائضَ فيها أن يكون على معرفةٍ بمنازعِ براهين المرحلتين السابقتين ، و على أن يكون عالماً بأخذِ البرهانِ ، فيكون _ عندها _ جَمْعُه على جهةٍ مُحْكَمةٍ في ذاتِهِ ، فيبرأَ من تَبِعةِ التقصيرِ في ملاحظةِ أوجُهِ براهين الطرح و النقضِ .
و تُلزمه المرحلةُ بأن يكون حيادياً فلا يخوض مرحلة الجمعِ و هو منحازٌ لمرحلةٍ دون أُخرى ، لأنَّ المعارفَ لا تقبلُ الانحياز لأنه ليس من وظيفة العقلِ ، و أدبُ المعارفِ الحيادِ .
مرحلةُ الجمعِ تمنحُ المعارفَ سَعةً لجمعها المرحلتين في نقطةِ اتفاقٍ ، فتغدو المعرفةُ الواحدة متشعِّبَةً إلى معارفَ ، إذا ما رُوعيَتْ أصولها و قواعدُ مناهجها .
و حيثُ كانت مرحلةُ الجمعِ قد وصلتْ إلى نقطةِ وصْلٍ بين مرحلَتَيْ الطرحِ و النقضِ فقد صارتْ حينها معرفةً جديدة ، و في كونها كذلك فإنها ستبدأ بها مرحلة جديدة لـ ( ثالوث المعرفة ) ، و هكذا إلى سلسلةٍ لا تنتهي ، فالمعارفُ لا تنتهي لنقطةٍ واحدة ، لأنَّ عقلَ الإنسانِ في انفتاحٍ كبيرٍ ، و المعارفُ بحرٌ لا ينتهي غائصٌ فيه إلى قَعْرِه .